عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
زكى نجيب محمود.. عاشق الحقيقة
13 أكتوبر 2019
نجلاء محفوظ
زكى نجيب محمود


قليلون جدا من استحقوا لقب فيلسوف فى العالم؛ وما أكثر أدعياء الفلسفة.. د. زكى نجيب محمود فيلسوف بكل ما تعنيه الكلمة؛ فالفيلسوف هو محب الحكمة ويعتمد على «العقل» فى التفسير والتعليل؛ وقد أسهم فى إثراء العقل العربى وفند نظريات فلسفية قديمة وحديثة وقدمها للقارئ العربى بسلاسة «وغاص» فى أعماق الحياة بكل تفاصيلها، وكان كما قال عنه بحق العقاد؛ أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو الذى رفض الاستعلاء والتنظير وسعى للتفكير العلمى والقابل للتطبيق، وقدم كتبه الفلسفية بقلم أديب ذو نكهة خاصة.



ولد فى 1فبرايرعام 1905ورحل جسده فى 8 سبتمبر 1993وترك تراثا مميزا لم يقدمه أى مفكر عربى سواه..عشق الفلسفة وحصل على الدكتوراه فيها من لندن وقام بتدريسها طوال حياته حتى بالأوقات التى شغل فيها مناصب رسمية.



اهتم د.زكى نجيب محمود بثقافة الفعل وليس الكلام والتأمل فيه بروج عاجية لا تمت للواقع بصلة؛ فالتفكير ليس غاية بل وسيلة لوضع خطة للمستقبل كما كان يؤمن دوما. اهتم مبكرا بالتواصل مع القراء؛ ليس عبر الكتب فقط ولكن من خلال الصحافة أيضا، فكتب مقالات أدبية ورأس تحرير مجلة «الفكر المعاصر» وخص «الأهرام» بكتابة مقال أسبوعى منذ عام 1973وحتى وفاته.



انبهر بالغرب ببداية حياته ورفض التراث العربى والإسلامى وناهضه بحدة ببعض كتبه، ثم تجاوز الانبهار وكره وتألم لاستسلام الفكر العربى للغرب وتقليده فى كل شيء ودعا لمشروع فكرى عربى لنهضة العرب بكل نواحى حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية مع الاحتفاظ بما يميزهم كعرب ويحفظ لهم هويتهم والوعى بالذات وبالعصر وامتلاك أدواته. امتلك النضج وشجاعة العودة لقراءة التراث بنظرة الباحث عن الحقيقة؛ ووجدها واكتشف ثراء التراث الإسلامى وكنوزه الفلسفية والعلمية والمعرفية، ونادى بالمزج بين الاعتزاز والنهل من التراث والاستفادة القصوى من المعاصرة، وقال أن ترك التراث كله انتحار حضاري؛ فيه جهود علمائنا وقيمنا وأن الإسلام أول من نادى بالمنهج التجريبى وبإعمال العقل والتفكر فى الكون وإعمار الحياة.



ولا شيء يعبر عن الفيلسوف مثل أفكاره ومنها احترامه للعمر فيقول: تقرأ لتضيف لعمرك المحدود عشرة أمثال أو مائة أو ألفا بحسب القدر الذى تقرأه والطريقة التى تقرأ بها، اقرأ لمن يضيف لخبراتك وأفكارك إضافة توسع من آفاق دنياك.



ويضع يده بمهارة على آفات العقل فيقول: موقف الحياد هو موقف العاجز الذى يريد لنفسه السلامة والهدوء، وينبه فيقول: يوجد فرق بين رجلين؛ رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأي؛ وهو ما سعى لعمله بحياته.ولم ينعزل عن المجتمع واهتم به فقال: يقول الأبناء إن آباءهم لا يفهمونهم وينسون أن من حق الآباء أن يقولوا إن الأبناء لا يفهمونهم، وكتب: ليس الزواج عندنا ازدواجا بين قلب وقلب أو اتحادا بين عقل وعقل؛ بل مزاوجة بين مجموعتين من الظروف.



ومن أقواله التى توضح عمق فهمه للحياة وللإنسان: العابد لا يسأل عن عبادته ليغير منها شيئا؛ بل يسأل الفهم والفرق بينهما كبير، ليست عروبة العربى قرارًا سياسيًا تصدره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان؛ بل هى مركب ثقافى يعيشه فى حياته اليومية، لم تعرف الدنيا منذ الأزل ولن تعرف إلى الأبد شعاعًا كتمت أنفاسه ظلمات؛ فشعاع الضوء مصيره إلى ظهور مهما طال احتباسه وراء الحجب، إن الإنسان ليكسب قلوب الناس بخفة روحه أكثر جدا مما يكسبها برجاحة عقله.جاوزت كتبه الأربعون كتابا تراوحت بين كتب فلسفية مثل: «المنطق الوضعي، تجديد الفكر العربي، رؤية إسلامية، عربى بين ثقافتين»، وأخرى أدبية مثل «جنة الغبيط، أرض الأحلام» وترجم بعض كتب الفلاسفة الغربيين للعربية، وقدم سيرته الذاتية فى ثلاثة كتب؛ قصة نفس، قصة عقل، حصاد السنين.



حصل د. زكى نجيب محمود على العديد من الجوائز والتقدير بمصر والعالم العربى ولعل أهم ما فاز به أنه سيبقى دوما رمزا لعشق الحقيقة والتفتيش عنها بمثابرة، وشجاعة الاعتراف بأخطائه الفكرية وامتلاك القدرة على إيصال الحقيقة للقراء بسلاسة وعذوبة.