عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الطريق الى ألبولو
13 سبتمبر 2019
إيشيجول سافاس ترجمة ــ عادل ضرغام


يبدون كأنهم لقطات من مسرحية، معلقون بجوار الستائر للهروب من الذوبان فى يد الزمن، فى ظلالهم السوداء والبيضاء لم أتعرف على والدتى، ولا على العالم المحيط بها. ووالدتى الآن لا تستطيع ولم تعد قادرة على وصف ما حدث خارج هذه الإطارات والصور، فكل ما أقدر عليه هو التخيل. وفوق ذلك لماذا نزعج الموتى بمثل هذه الأسئلة الفضولية التافهة؟ ربما لأنى مستاءة من هذه المشاهد المتألقة والأنيقة، فكلها فى صور قديمة.



كبرت أمى فى (ألبولو)، ومشت فى الغابة مع متكو أمكا، العم متكو جار بلغارى. فى تلك الفترة أعاد مصنع السكر الحياة إلى البلدة، فى الأشهر التى مرت فيها الشاحنات مملوءة بالبنجر إلى ألبولو قادمة من كل أنحاء غرب تركيا، تقلل من سرعتها عند دخولها إلى منحنى الطريق، حيث توجد أشجار الكستناء على الجانبين، ويقوم السائقون بتغيير التروس عند منزل جديّ الأصفر بالقرب من مدخلها.



كانت أمى من أطفال البلدة الأوائل الذين يتبعون الشاحنات على طول الطريق، حتى الوصول لبوابة المصنع، يجمعون ثمار البنجر التى تسقط فى الطريق. بعض الأطفال يبيعون حصادهم للمصنع مقابل قروش قليلة، وهذا يكفى لشراء آيس كريم، أو مروحة يدوية أو مجموعة كروت من محل جدى، لو أخذت الشاحنة منحنى الطريق بسرعة فيقع البنجر ويتسرب إلى مسارب جانبيه. بعض الأطفال يأخذون البنجر لتحميصه على الفحم. أحضرت أمى ما تملكه إلى حديقة متكو أمكا، ووضعتها باتزان على فوهات الزجاجات، حيث يخرج متكو أمكا بندقيته من الحطب، ويشاهدها ويومئ إليها، وهى تطلق عليها النار واحدة بعد أخرى.



أثناء شهور النشاط حيث كان الهواء مشبعا برائحة أقماع السكر، استضاف المصنع حفلات موسيقية، وألعابا ليلية، وصنع وجبات غذاء للعائلات الغنية فى ألبولو، وكان حدث التتويج لهذا الموسم رقصة (حلقة السكر)، حيث تجتمع نساء المدينة مأخوذات بالهيام، ويخلعن فساتين التفتا، ليرتدين معا موديلات جديدة من كتالوجات الخياطة، فى تقليدهن الحسن لمجتمع اسطنبول العالى. دعوات هذه الأحداث وجدتها فى شقة والدتى فى اسطنبول، فى مظاريف بهتت ومحيت كتابتها المكتوبة بخط اليد، مكتوب عليها يرجى من الضيوف عدم إحضار الأطفال. أمضت أمى هذه الأمسيات مع متكو أمكا بالرغم من أن جدتى ترى أن ذلك له تأثير محرج.



لم يحضر متكو أمكا هذه الأحداث، وحتى بعد مرور عام على إقامته فى ألبولو لم ترسل إليه دعوة، وفوق ذلك أصبحت لهجته أكثر حدة مع زجاجات (راكى)، يشرب فى حديقته، وعندما كان يخبر زواره أو أى شخص يمر به بقصصه الفظيعة، يبتسم الجيران بأدب حين يسمعون أسماء البلدان التى يزعم أنه زارها باريس وروما ولندن، وكانوا يوبخون أطفالهم حين يقلدون البلغارى الغريب. يصرخ أكبر الأطفال (أنا مشيت فى الشانزليزيه مع مغنية الأوبرا الشهيرة سميحة) ويغنون تلك الأغنية فى حالة سكر حين يمرون بجوار الحديقة الشاسعة بعد رجوعهم من المدرسة.



جدتى تعتقد أن متكو أمكا – بالرغم من ذلك- غير ضار بالرغم من وجود قصصه ومنزله المزدحم المملوء بالكتب، منزله المختلف عن المنازل الأنيقة للنخبة فى مدينة ألبولو، فغرف المعيشة لديهم مفروشة بالسجاد، ومملوءة بالكريستال، ومصنوعة فى مصانع أوربا، ليموج، وبراج، وبادن. أسماء الأماكن هذه بعكس الأماكن العائمة فى حكايات متكو أمكا تم ختمها على أقماع السكر، وصوانى القهوة، وفتيات قرويات صغيرات بحجم الإبهام يحملن دلاء الماء إلى أسرهن باحترام غربى.



على صوت خروج والديها من البوابة المصنوعة من الحديد المطاوع، قفزت والدتى الحائط إلى حديقة متكو أمكا، وانتظرته حتى أحضر عصا المشى من السقف. كان الضابط الايرلندى بادم ينتظر عند البوابة فى حالة تأهب، وانطلق ثلاثتهم نحو الغابة مع آخر الضوء الذهبى.



بدلا من السير فى الطريق الرئيسة أخذوا طريق الخور، وعبروا الجسر الحجرى، وطبقا لأسطورة المدينة التى تحكى عن مسافر رأى مرة عروسا مزينة بأشرطة حمراء وعملات ذهبية، منح ألبولو اسما مبهجا (القرمزية المرقشة).



عندما مروا بحقول عباد الشمس توقف متكو أمكا ليقطع زهرة بمطواة فى جيبه، وأخذوا البذور من القرص الأسود العريض للثمار. كانت أمى تقدم منها دائما لبادم، الذى كان يشمها بأدب قبل المضى قدما.



بمجرد دخول الغابة أخذت الأشياء أشكالا مختلفة، بدأ متكو أمكا يعدد قائمة بأسمائها: الكستناء، والزيزفون، والصنوبر، شوك الحليب، شوك العالم، بوق الشيطان، البلادونا، الخشخاش، الهندباء، ورقة الماء. أثناء تسمية الغابة لأمى بوصفها عالما كاملا، ظهرت الأشكال بوضوح من خلال إشارات عصا متكو أمكا، الجذور سميكة ورقيقة، عشبية حليبية جوفاء، واللحاء كان ناعما وصلبا شبيها بالطحلب، والأوراق مستديرة وحادة، طافت ورفرفت وسقطت على الأرض.



حتى بعد أن تعلمت أمى الأسماء ظلت تعيد ترديدها بلسانها الكستناء والزيزفون والصنوبر وخشب الزان، واستمرت فى ذلك مشيرة بأصبعها تتبع دليلها فى عمق الغابة.



عندما كبرت أمى تحولت قوائم متكو أمكا من الأشجار والزهور إلى قوائم أخرى، لقد سمى الشعراء الذين فتن بهم، والمقاطع الشعرية التى أثرت كلماتها فيه طوال حياته. فى بعض النزهات أشار بعصاه إلى وزن الشعر فى المقاطع الشعرية، كلها حول استنبول حيث جاء إلى الجامعة. ثم أصبحت الأوراق تحت أقدامهم أوراق مقبرة الآسيويين على تلال البوسفور، حيث دفن الشاعر العظيم (والسكير العظيم) أورهان والى كما قال متكو أمكا. انضمت أمى إلى الإنشاد مع حركة وإشارة عصا متكو أمكا، مستمتعة بخيوط الأنشودة:



أستمع إلى اسطنبول عيناى مغلقتان ضربات نسيم هناك فى البداية وأوراق الشجر ترفرف وتتمايل فى هدوء.



وبعد أيام أخرى، ونتيجة للخطوات السريعة الهادفة لبادم أصبحت الغابة ضيقة مزدانة بشوارع أسكودار (امبراطورية الفقراء كما يسميها متكو أمكا)، التى تتحول إلى ذهب فى بضع دقائق كل مساء مع غروب الشمس. الشاعر يحيى كمال شاهد أسكودار من التل، وأدرك كيف تتحول الأحياء الفقيرة إلى قصور.



بعد أن بدأت أمى فى وقت لاحق تتوقف عند الموضوعات المربكة والمقلقة، جهز متكو أمكا قائمته بالأسماء السحرية للفتيات. تلك الأسماء المحفوظة فى الجزء المتوهج من قصصه، وأصبحت الغابة قرية متكو أمكا البلغارية.



فى إحدى هذه القصص علمته (دانا) الفتاة الغجرية داكنة العينين، حيلة فى القيام برقصة الدب. (أن تدغدغ بطنه) قال متكو أمكا لأمى فى لهجة مبالغ فيها، بلغت ذروتها فى رواية هذه القصص، عندما كبرت أمى كشفت عن سر خطير قائلة كان عليك أن تداعب مكانا (أكثر حساسية).



ظهرت دانا فى قصص أخرى بأسماء مغايرة، لكنها دائما بعينيها السوداوين المربكة والمريبة، فقد كانت (كاتيا) بنت الجيران، أو (تونى) من القرية المجاورة التى فتنت بالدراجة النارية لمتكو أمكا، حيث أركبها إياها فى واحدة من الأمسيات، ووضعت يديها على وسطه بسعادة غامرة، وعندما وصلا إلى أسفل التل ارتعشت لأن المقعد الذى أجلسها عليه كان مبتلا. فى قصص أخرى كانت البطلة هى (دارا)( حبى الأول كما يقول متكو أمكا)، حتى اسمها المتغير لم يكن كافيا لإخفاء عيون دانا الداكنة التى كان يعطيها دائما الدور الرئيس.



فى صيف ما سافر مع دارا ووالديها إلى شاطئ البحر فى يوغسلافيا. الوقت فى يونيو، وتين المدينة الخضراء لايزال صغيرا، وهو يغمز قائلا (مثل صدر دارا). أمضيا معظم الأيام فى القراءة والحديث معا، فى خيمة وضعاها فى الفناء الأمامى لسكن الوالدين. تظهر أم دارا غالبا على العتبة للتأكد من أن باب الخيمة مفتوح. بعد ظهر يوم ما تم إرسالهما إلى المدينة لشراء الفواكه، وبدلا من العودة إلى البيت بعد إتمام عملية الشراء تحركا خلف السوق متجاوزين المساكن والأماكن العشوائية خارج المدينة (تماما مثل ألبولو على حد تعبير متكو أمكا) إلى الدير الموجود على التل، ووجد شجرة تين تملأ عين الشمس. أخذت دارا واحدة لمعرفة درجة نضجها، قطعتها من الفرع بلفة واحدة، وسقطت نقطة من الحليب. أكلا حتى شعرا بالمرض. جمعا التين ووضعاه فى قمصانهما للوالدين. فى اليوم التالى تم إرسالهما مرة أخرى لجمع الفاكهة، وبينما كانا يجمعان ويأكلان دوى صوت من السماء كالرعد (من يأكل تينى؟).



شعرا بالرعب لدرجة أنهما تركا كل الفاكهة التى جمعاها، وسارا إلى أسفل التل. وفى أثناء عودتهما حيث قطيع الدجاج يلتقط بتكاسل الحبوب من الأرض، أبصرا الأعرج المقرفص على التل يمسح شجرته. وقال متكو أمكا (لقد كان ذلك تذوقى الأول للفاكهة المحرمة).



لا يوجد ما يفسر نمو البهجة مع مرور الوقت. فى حديثها عن متكو أمكا قالت أمى إنها أعادت سرد قصة التين فى المدرسة، وأن زميلاتها فى المدرسة ضحكن عليها، وربما تذكرت الرجل العجوز المتعثر فى مساء ما، عندما انتهت صديقاتها من تناول الشاى، حيث كان يغنى لهم من وراء جدار الحديقة مع بندقيته مع المحافظة على الإيقاع غير المستقر أمام الباب. ولكن من الواضح أنها كانت لا تصدق قصصه، ولا تجد تفسيرا حقيقيا لهذا الجحود.



بعد ذلك عندما التحقت أمى بالجامعة، وتعود إلى ألبولو باهتمام غير متزايد، قدم لها متكو أمكا قائمة بأسماء الكتاب والفنانين فى غابته الذهبية، لقد عرفهم فى شبابه، وتبعهم من اسطنبول إلى أوربا. وقال إنهم مجموعة رائعة، جماعة لها روح، وهو كان فخورا بوجوده بينهم، ولكن هذه الأسماء لا تمثل شيئا لأمى. (فى باريس تعودنا أن نتجمع فى La Palette) قال متكو أمكا) لقد أحببنا حين قامت إلى مائدتنا وغنت لنا سميحة بريسكى، محركة تنورتها. لم تكن مغنية كبيرة حينئذ.



يتحدث بحماس طفولى، يكرر قصصه مثل التعاويذ، كما لو أن حديث هذه القصص يكشف عن معارفه الخفية. كشف لأمى عن مجموعة من الصور لأناس تجمعوا حول الطاولات وعلى عتبات الأبواب ساذجين وأنيقين مثل كل الوجوه فى الصور الباهتة. هم غرباء بالنسبة لأمى، وكل وجه لا يمكن تمييزه عن الآخر.



فى إحدى زياراتها عندما عادت إلى ألبولو، لأخذ أغراضها للذهاب إلى باريس، أعطاها ألبومه من الصور، وعدة دفاتر للملاحظات. ربما كان يأمل فى عودة جمهوره المتحمس وأن يسعد به مرة أخرى. قالت أمى وهى تشعر بالملل وعدم الراحة من الهدية (ماذا أفعل بهذه؟).



(هذه أوقات خاصة) قال متكو أمكا(هؤلاء البشر يعرفون شيئا أو اثنين عاشوا حياة كاملة كرروا قصة الرسام فكرت معلا الذى باع صورة لبيكاسو مقابل زجاجة من الراكى.



(أتذكر ذلك جيدا) اعتادت والدتى أن تقول ذلك، تجمع أسماء وتواريخ وقصص متكو أمكا معا، محاولة عقد تطابق بين أجزائها، ربما أملا فى منطق صديقها القديم، ولا تتوافق السيرة الذاتية الرسمية مع ما جمعته، ولكن متكو أمكا تعود أن يقول لها إنه عرف هؤلاء البشر قبل أن تتحول أسماؤهم إلى أسطورة.



لقد قابل الكاتب جيمس بالدوين فى اسطنبول عندما شوهد بالدوين متعبا فى حفل زفاف، وسقط نائما على حافة النزل مروعا. بعد أن استيقظ، وشرب نخب الخبز المحمص، ذهب إلى المطبخ ليكتب وسط الخادمات والعاملات اللواتى يرتبن أطباقا من الفاكهة والحلويات. تذكر متكو أمكا أن بعض الناس أطلقوا عليه(الشاب العربى) بتأثير بقايا جهل العالم القديم، حيث كانت المربيات الأثيوبيات لعائلات المدينة الثرية السوداوات فقط فى اسطنبول يطلق عليهن (الأخوات العرب).



تابع متكو أمكا بالدوين إلى المطبخ وقدم له سيجارة مالتيب. وشربا الشاى فى الشرفة، وشاهدا البوسفور من التلال. (فقط مثل يحيى كمال) قال متكو أمكا لأمى (هل تذكرين قصيدته أسكودار؟). لقد تذكر أيضا أن بالدوين يحب الشاى الأسود المر، ويعيد ملء كأسه عدة مرات، ويرفعه ببطء إلى شفتيه نافخا فى بخاره، وعيناه تتجولان بلا ملل، وكأنه يبحث عن عالم آخر، بالرغم من أن متكو أمكا كان متحمسا ليقوم بالدوين بالثناء على المدينة الرائعة التى أمامه.



بعد عدة سنوات تساءلت عما إذا كان وصف بالدوين فى شربه للشاى مستوحى من الصورة الأيقونية التى التقطها سدات بكاى. لقد شاهدت هذه الصورة فى كتاب فى منزل صديقتى نرمين أثناء الأسبوع الأول من دراستى فى باريس. صورة الكاتب الكسير مع الكأس الضيقة المحددة فى تفاصيلها غير موجودة إلى حد ما فى رواية متكو أمكا. ومع ذلك لم أكن أعرف هل تنتمى هذه الإضافة إلى متكو أمكا أم إلى أمى فى إعادة حكيها للقصة. تخيلت مشهد الشرفة بألوان منعشة، وقد فاتت الفرصة فى طرح الأسئلة (فى هذا الأمر لم تكن مختلفة عنى، فأنا مثلها ألون فى ظلال الماضى، وبالتفاصيل الخاصة من صور والدتى).



ربما كانت هذه الصورة فى الفيلم المأخوذ عن بالدوين فى اسطنبول. فى مشهد ما كان حذاء بالدوين يتلألأ أمام مسجد السليمانية وسط تحديق حشود من الرجال ذوى الشوارب، والأولاد بقبعاتهم. استقل زورقا بخاريا بجوار قصر روكوكو كوكوسو وقلعة الأناضول التى كانت مخبأة بأشجار يهوذا.



كانت المدينة لا تزال فى عصر البراءة حينئذ، قبل أن تستبدل بالتلال الأسمنت. فى الفيلم توقف بالدوين بشكل متكرر لتناول الشاى، كان يقرب الكأس من شفتيه وينفخ، وينظر إلى من حوله بعيون جريئة. أعطى متكو أمكا لأمى أسماء معارفه فى باريس، أخبرها مرارا وتكرارا عن الكتب التى يجب أن تقرأها، والأماكن التى يجب أن تزورها، ولكنها كانت حريصة على أن تسير فى طريقها الخاص، وربما بالفعل بعدم تصديق القصص التى فتنتها فى المدن الخيالية لغابة اختفت.



قضيت كل صيف فى مرحلة طفولتى مع أجدادى فى ألبولو، أستلقى فى المساء تحت شجرة التوت، أنظر إلى المنزل الحجرى خلف الجدار المنخفض الذى يفصل شجيرات جدتى عن غابة من الحشائش والزجاجات. وعندما كنت فى المدرسة الإعدادية عرض المنزل للبيع دون وجود مشترين. وقد دخلته مرة واحدة عندما كنت فى الخامسة أو السادسة، تذكرت رائحة الجلد القديم والكولونيا، والرجل الصامت الذى راقبنى بفضول وهو جالس على الأريكة. أخذتنى أمى لتقبيل يده فى واحد من المساءات الحارة، وقدمت له علبة كستناء حلوة من اسطنبول.



بعد الغداء أصر على أن نبقى، ووافقت أمى بالرغم من نداءاتى الصامتة، اختفى فى غرفة نومه وعاد ومعه صندوق مملوء بأشياء. أخذته بأدب، وأزعجنى أن الصندوق لم يكن به سوى مطواة صغيرة صدئة، وعصا ناشفة للمشى، وإكليل من الزهور المفتتة.



كنت مضطربة للرجوع للمنزل الأصفر المملوء بالكنوز، لقد كنت القرصان الوحيد: ماكينة الخياطة، مطبخ وفرن أزرق، والقطار الكهربائى، زوج من الدمى بفساتين تلبس من الوجهين، الأكورديون، وكاميرا مغطاة بالجلد. كانت الفرصة مهيأة للتقليب فى جميع الخزائن والأدراج، وغرفه العلية، والطابق السفلى المظلم، كان أجدادى يلبون لى كل طلباتى، لإنزال الحقائب والصناديق المملوءة بالفساتين القديمة ومحافظ الأموال وحاملات السجائر والقبعات. لقد جمعوا بصبر الأراجيح والطائرات الورقية الخاصة بأمى.



فى المساء بينما كانت أمى تعد الطعام من الأطباق المفضلة ذهبت إلى محل جدى لأبى. وصلت إليه فى لحظة الغروب، وكان على وشك إغلاق المحل، قفل صندوق النقود والأنوار، وسألنى عما إذا كان هناك شيء أريده. لدى بالفعل كل الألوان الخاصة بالمروحة اليدوية والدفاتر، وحزم الملصقات، وممحاة معطرة، ولكننى غالبا أختار شيئا، لمجرد أن أرضيه، تقويم بصور فوتوغرافية للغابات البافارية أو مجموعة من أربطة الشعر، وبعدها تحركنا فى الشارع للحصول على آيس كريم.



فى عطلة من عطلات نهاية الأسبوع رافقت جدى لأبى إلى الغابة بحثا عن الأرانب. لم يسمح لى مطلقا بإطلاق النار. حملنا الأرانب فى أكياس قماشية إلى المنزل ونقعناها فى الماء لبعض الوقت لتنظيفها من شعيراتها المخضبة بالدماء. كانت جدتى لأمى حين تطهو الأرانب تصنع معها طبق السبانخ المفضل لى، مع أصناف الخبيز والجبن، لأننى لا أحب الحساء.



وبحلول ذلك الزمن كانت ألبولو تبتعد كثيرا عن مصنع قوالب السكر، وفساتين التفتا، فقد كانت النكهة المتواضعة للحضارة الأوربية منتشرة مثل الضباب. لم يقم جدىّ برحلاتهما السنوية إلى يوغسلافيا حيث يعودان بلعب، وأوان خزفية غير عادية، فقد غادرت العائلات البلغارية، ولم يعد المهندسون المجريون يأتون لتفقد المصنع الذى تمت خصخصته، ويعمل بشكل نادر. ولكن أجدادى لا يزالون يعيشون حياة فى ظلال الماضى الأنيقة التى تختلف تماما عن حياة الضواحى فى اسطنبول، حيث يرافق الغداء شراب التوت يقدم فى إبريق من الكريستال. فى صباح العيد يحصل الأطفال على مناديل مطرزة، والبالغون على خمرة اللوز فى علبة فضية.



فى النهاية حين أغلق المصنع نهائيا، وتم التخلى عن المنازل، وعندما غادرت اسطنبول انتقل جديّ واستقرا فى شقة مفروشة بالسجاد، يقضيان أيامهما فى تلقى كوبونات الجرائد للحصول على موسوعة أو منبه. كنت أفحص صورا فوتوغرافية بالأبيض والأسود لعصر ألبولو الذهبى. وحددت فى ظلالها المدينة التى اختفت ورأيتها وأنا طفلة. موائدها المنصوبة أسفل الكريستال اللامع، ومعاطف الفراء المحلية، وقبعاتها، وعصا المشى، وبوابة الحديد المطاوع، وشجرة التوت، وطريقها المنحنى بأشجار الكستناء التى شكلت الماضى البعيد فى تلك المساءات الكسولة من طفولتى إلى بلدة أخرى قرمزية فاقعة. فى عمق ظلال هذه الصور، الشيء الأكثر ظلمة وألما لى إننى لا أستطيع رؤيتها، حتى أتمكن من تخيلها، وتكرار الأسماء المألوفة مثل النشيد. فقد كانت أنقاض البلدة الأخرى التى رأتها أمى مع متكو أمكا حيث يسيران بين الزيزفون والكستناء والصنوبر والزان.



 



إيشيجول سافاس



كاتبة تركية تقيم فى باريس تكتب بالانجليزية لها رواية شهيرة بعنوان المشى على السقف من منشورات river head books نشرت قصصها القصيرة فى النيويورك تايمز وجرانتا وجرانيكا ومتابعات باريس. تعمل الآن على مجموعة مقالات بعنوان القنفد فى الضباب تستكشف فى الخيال والإلهام واللغة. اهتمامها الأساسى يرتبط برصد التحولات السياسية والفكرية والثقافية بتركيا وتشير غالبا إلى عمق هذه التحولات وأثرها.