عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
«بدوى أمان».. صاحب اللحن الذى تغنى به العامة فى ثورة 1919 ووصل إلى العالمية
9 أغسطس 2019
د. ياسر منجى


برغم كونه مبدعا، أثّرَ فى عددٍ من أهم فنانى جيله، وترنَّم الشارع المصرى بألحانه، فقد أبى حظُّه إلا أن يموت مجهولاً، بعد أن ألَّف لحناً كان يجرى على ألسِنة العامة خلال ثورة 1919، ثم صار يجرى على ألسنة الأُمهات تارة، وعلى ألسنة المازحين الماجنين تارةً أخرى؟.

......................................



كان اللحن يصاحب كلاما أوله مما يجرى على ألسِنة العوام دون حرج: «خُد الـ(...) واسكُت، خُد الـ(...) ونام، أمك السيدة وأبوك الإمام». ثم ينقلب اللحن بعد ذلك إلى كلام فى الوطنية، وعن الثورة، وعن الحرية، يأتى على ذكر «سعد زغلول»، و«عدلى يكن»، واللورد «كرزون».



ومن شذراتٍ قلائل متناثراتٍ فى طوايا ذاكرة الصحافة المصرية، نعلم أن صاحب اللحن كان يُدعَى «بدوى أمان»، وأنه كان مجاوراً فى الأزهر الشريف، وكان إلى جانب دراسته الأزهرية مِمَّن يترَنّمون بالتواشيح الدينية، على نغمات الطبول والدفوف. وقد استرعت مهارته فى ضرب الدف انتباه الشيخ «حسن الحويمى»، أحد فحول الطرب فى الرُبع الأخير من القرن التاسع عشر، فضمه إلى فرقته. ومن حينها، لازم الصبيُّ شيخَه فى المجالس والأفراح، ليلتقى بعمالقة الموسيقى، من أمثال «يوسف المَنيَلاوى»، و«عبده الحامولى»، و«محمد سالم»، و«محمود البولاقى»، وظل مع أستاذِه إلى أن توفى، فالتقطته السيدة «نعيمة المصرية».



وعاش الشيخ «بدوى» يلقن المغنين والمغنيات الألحان التى ورثها عن معلمه الشيخ «حسن الحويمى». ثم بدأ يلحن بنفسه ألحاناً جديدة للصالات، التى كانت منتشرةً فى «الأزبكية»، بين شارِعَى «وِشّ البِركة» – نجيب الريحانى حالياً – و«عماد الدين». ومن الأزبكية إلى الإسكندرية، عمل «بدوى أمان» مع «سيدة الإسكندرانية». وهناك، التقى «أمان» بـ«سيد درويش»، لتتوثق بينهما العلاقة لمدةٍ قصيرة.



وبعودته للقاهرة، كانت دعوة «مصطفى كامل» الوطنية فى أوجها، مما أدى لتقلُّص نفوذ التواشيح التركية على الغناء المصرى، ولرواج الطقاطيق الصغيرة ذات الألحان المتحررة من البَشارِف. وراح «أمان» يساير التطور الوطنى الجديد، مجرباً تلحين الطقاطيق حتى برع فيها، منافساً فى ذلك ملحناً آخر، هو «محمد على لعبة».



وعندما انتقلت المطربة الشهيرة «نعيمة المصرية» بفرقتها إلى كازينو «مونت كارلو» فى «روض الفرج»، أخذت تقدم كل يومٍ فصلاً تمثيلياً. وفى أحد هذه الفصول، تأخذ ابنة السلطان شقيقها الرضيع وتهرب به إلى الجبال، لإنقاذه من القتل على يد عمهما الطامع فى المُلك. ويبكى الرضيع، فتحاول الأخت تهدئتَه بهذه الكلمات المُغَنّاة: «خد الـ(...) واسكت خد الـ(...) ونام/ خد الـ(...) يا نونو وادبح لك حمام/ آه لو يسمعونا أولاد الحرام/ ييجوا يدبحونا ونموت والسلام».



ولحن الشيخ «بدوى أمان» الكلمات، فقوبلت من الجمهور بإعجابٍ شديد، وأصبحت أكثر الأغانى وقتها ذيوعاً وانتشاراً.



ومع اندلاع ثورة 1919، حَوّر الشعب كلمات الأغنية، على نفس اللحن الذى وضعه «بدوى أمان»، مع الاحتفاظ بمطلعها (خُد الـ(...) واسكت)، ليزيد انتشار الأغنية انتشارا كاسحا بفضل هذا الحدث الوطنى الفارق.



ومع مرور السنين، وانحسار مَدّ الأغنيات والأناشيد التى رافقت مسيرات ثورة 1919 ومظاهراتها، ألقى النسيان بظلاله على الأغنية، ليتبقى مَطلعُها وحده، تردده ألسنة الصِبية العابثين، والأمهات اللائى يُهَدهِدن أبناءَهن، والمازحين الهازئين بغيرِهم، مقطوعاً عن سياقه السياسى وعن أصله الفنى معاً.



وفى عام 1957، يضع المايسترو الأمريكى «رالف مارتيرى» Ralph Marterie (1913 - 1978) يده على اللحن المجهول المؤلف، ليقدمه للعالم تحت اسم «شيش كباب»، وليحقق من خلاله نجاحاً ساحقاً؛ إذ انتشر اللحن انتشار النار فى الهشيم، ليصير على رأس المعزوفات التى تتصدر قوائم الإذاعات والمراقص والملاهى شرقاً وغرباً، فضلا عن تضمينه فى الموسيقات التصويرية لمجموعة من الأفلام خلال عقدى الخمسينيات والستينيات.



ووفقاً لبعض المصادر التى رصدت النجاح الكاسح لِلَحن «شيش كباب»، فقد بلغ دخل الموسيقى الأمريكى من حق الأداء العلنى لهذا اللحن، خلال المدة ما بين عامى 1957 و1959 فقط، قرابة مليون جنيه مصرى بتقديرات تلك الفترة.



وتزداد حِدّة المفارقة، عندما نقل بعضُ مُوَزّعينا هذه الصيغة الأمريكية لِلَّحن، باعتبارها (أحدث موضة) موسيقية، دون التفاتٍ لِكَونها بضاعتُنا وقد رُدَّت إلينا، ولكن بعد أن دَمَغَها ختم الحيازة الأجنبية. ومن أشهر الأفلام المصرية التى اتخذت من هذا اللحن ثيمة أساسية، لدرجة البدء به فى المقدمة الافتتاحية، فيلم «إسماعيل يس فى مستشفى المجانين»، الذى أُنتِج عام 1958، بعد عامٍ واحد من انفجار دوى «شيش كباب».



غير أن المفارقة تبلغ ذروتها، حين نطالع كتابات المتخصصين فى توثيق التراث الموسيقى، وبعض مشاهير النقاد، لنراهم يُغفلون ذِكر «بدوى أمان» تماماً، ويذهبون فى توثيق تراثه مذاهب شتى، فينسبونه تارةً إلى مجهول، ويُصَنِّفونه تارةً أخرى ضِمن تراث خالد الذكر «سيد درويش»، كما ينسبون كلماته أحياناً للشيخ «يونس القاضى»، وأحياناً أخرى لـ»بديع خيرى».



ففى مقالٍ له بعنوان «نعيمة المصرية، نُشِر فى جريدة «المصرى اليوم» بتاريخ الأحد 20 يناير 2019، جَزَم الناقد السينمائى الأستاذ «طارق الشناوى» بالآتي: «تلك الأغنية للمطربة نعيمة المصرية، انطلقت قبل نحو 100 عام، فهى، كما هو واضح، مواكبة لثورة 19 التى قادها سعد باشا زغلول، التى عبرت عن رغبة المصريين فى الاستقلال، (خد الـ...) تأليف بديع خيرى وتلحين سيد درويش، ولهما أيضا مع نعيمة العديد من اللقاءات تخللتها الأوبريتات مثل (كيكى كيكو)».



ويتضح مما سبق أن هذه النسبة، التى تربط ما بين هذه الأغنية و»سيد درويش»، لدى الأستاذ «طارق الشناوى»، وغيره ممن يرون هذا الرأى، قد اعتمدت فقط على ما هو معروف من ارتباط «نعيمة المصرية» بـ»درويش» فى مرحلةٍ من مراحلها الغنائية. فهو إذن ترجيحٌ قائمٌ على نِسبة المجهول من التراث للمشاهير، وهى ظاهرة معروفة فى تاريخ الإبداع، وبخاصةٍ فى الشِعر؛ حيث كانت الأبيات والقصائد الجيدة المجهولة المصدر تُنسَب إلى فحول الشعراء، حين يعجز الرواة عن تحديد أصلها.



ولما كان الشيخ «بدوى أمان» قد عاش شيخوخته مجهولاً، ثم طواه النسيان بعد رحيله لعقودٍ طويلة، فقد لَحِقَه ما لحق بغيره من مَغامير الموهوبين المجاهيل، الذين لم يُسعِفهم نصيبٌ من الصيت والحظ، لِتُنسى علاقته بتراث «نعيمة المصرية»، وليُنسى دوره فى دعم حركة المسرح الغنائى فى مطلع القرن العشرين.



والغريب أن تلك الصرخة الأخيرة، التى كان «بدوى أمان» قد أطلقها فى مايو من عام 1958، قُبيل وفاته بقليل، وتداولتها آنذاك بعض الصُحُف والمجلات المصرية، لم تشفع له لاستعادة حقه، ولم يأبه أحدٌ لمجرد محاولة تعويضه مادياً أو أدبياً، عن لحنه الذى دار وقتها حول الكرة الأرضية. بل إن هذه الصرخة، برغم نشرها وتداولها فى صحافة الخمسينيات – ومنها ما نشرته مجلة «المصور»، فى عددها الصادر بتاريخ 8 مايو 1958، لم تنبه أحداً من مؤرخى الموسيقى، ولا من مُوَثقى التراث النغمى الشعبى المصرى ودارسيه، كى يحاول توثيق سيرة هذا الفنان المَنسى، ولملمة شَتات تراثه، لمحاولة فهم سياق تطوراته العجيبة، التى ارتَحَلَت به من دنيا المسرح إلى هدير مظاهرات ثورة 1919، مروراً بفكاهات الماجنين، وانتهاءً بقوائم الألحان العابرة للقارات.



رحم الله صاحب اللحن الأصلى، وعوَّض أصحاب الحقوق الضائعة خيراً.