عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
التفوق الدراسى والبحث العلمى
30 يوليو 2019
◀ د. مصطفى الفقى


تظل الثانوية العامة هاجسًا يؤرق الأسرة المصرية وأبناءها فى مطلع حياتهم، ودعنى أقول بمعنيً أوسع إننى لا أقصد الثانوية العامة وحدها ولكن كل أنواع الشهادات المتصلة بإتمام الدراسة الثانوية والتهيؤ للتعليم الجامعي، ولقد أفزعنى تصريح رسمى لمسئول كبير فى وزارة التعليم المصرية يقول فيه إن خمسًة وخمسين ألفًا من الحاصلين على الثانوية العامة هذا العام يزيد مجموع كل منهم عن نسبة خمسة وتسعين فى المائة، وهذا فى ظنى هراء، فهو يعكس توتر العملية التعليمية



لأن الذى كان يحصل على ثمانين فى المائة فى الثانوية العامة منذ خمسين عامًا كان يشار إليه بالبنان، ولا أتصور أن مستوى الطلاب قد ارتفع فى تلك السنوات ليصل إلى هذه المعدلات الخرافية التى تؤكد أن كل ما لدينا قد قلت قيمته حتى الثانوية العامة، فأصبح ثمنها رخيصًا والحصول عليها سهلًا، وأتابع أحيانًا فى الصحف أخبارًا تتحدث عن المجاميع العالية والتفوق الدراسى فى مراحل التعليم المختلفة كما لو كان ذلك إنجازًا وطنيًا يضاف إلى رصيد الدولة ويعبر عن تقدمها، والأمر فى ظنى مختلف عن ذلك تمامًا إذ إن هناك فارقًا كبيرًا بين التفوق الدراسى وتميز البحث العلمي، فالتفوق الدراسى فى نظرى لا يعدو أن يكون دليلًا على براعة الكر والفر بين صفحات الكتب والقدرة على الحفظ الذى يسبق الفهم



وهنا تكون لنا عدة ملاحظات نرجو أن يتسع صدرنا لها:



أولًا: تشير النتائج الشائعة إلى أن الارتباط بين التفوق الدراسى فى جانب والنجاح فى الحياة والتميز بين الأقران فى جانب آخر ليس شرطًا على الإطلاق، بل إننا رأينا متفوقين احتلوا الصدارة فى الدراسة ثم احتلوا المؤخرة فى الحياة العملية، كما شهدنا العكس من أولئك الذين كانوا معروفين بالتخلف الدراسى والبلادة العلمية ثم أصبحوا فى مقدمة الحياة العملية وفى طليعة من يتبوأون المراكز المهمة، بل إن معظمهم حقق ثروات طائلة بجهده وخبرته رغم أن كل التوقعات كانت توحى بغير ذلك.



ثانيًا: إن التفوق الدراسى فى حد ذاته لا يشكل قفزة إلى الأمام إذ لا يتجاوز تأثيره الشعور العائلى بالارتياح والتفاخر الاجتماعى ولكن على حساب مقومات أصيلة كانت تدعو إلى ضرورة الاقتراب من التعليم التقليدى سواءً بالنسبة لدراسة المواد الأساسية التى تعتبر مادة كاشفة للتعرف على مستويات التلاميذ فى المراحل الأولى وقدرتهم على الانتقاء بما يمهد لحسن الاختيار والقدرة على التمييز بين فروع المعرفة فى السنوات الأولى من العمر



ولقد أثبتت الدراسات والتجارب أن الطفل الذكى ليس بالضرورة متفوقًا دراسيًا كما أن أولئك الذين لا يتصفون بالذكاء لم يكونوا بالضرورة من الشباب الفاشلين، بل إن الأمور مضت دون قاعدة ملزمة للطرفين فكان هناك متخلفون دراسيًا ولكنهم متميزون وظيفيًا بصورة تدعو إلى الدهشة أحيانًا.



ثالثًا: إن نظام الامتحانات بطبيعته نظام عقيم وإن كان يبدو شرًا لابد منه، وقد تكون الامتحانات الشفهية أفضل من التحريرية ولكن يعيبها تدخل العنصر الشخصى وافتقاد الحياد، ولذلك فإنه ليس من العدالة أن نقيم إمكانات طالب معين من خلال امتحان تحريرى فى ظرف محدد قد تكون فيه هناك ظروف سلبية تحتاج إلى التحقق والمراجعة، فالتميز البشرى يحتاج إلى مساحة أوسع وقدرة على استلهام عناصر التفوق التى قد لا تبدو واضحة فى شريحة زمنية محددة ولكن تحتاج إلى مراجعة ومتابعة لا تتيسر إلا من خلال الحوار وفهم الشخصية، وهى أمور تتحقق بالاختبارات الشفهية ولكن نخشى من سوء استغلالها وانحراف التقييم من خلالها .



رابعًا: إن التفوق الدراسى هو ابن لحظته ولا يعبر عن تميز عام فى العقل أو الشخصية، ولذلك فإننا ندرك أن هناك من كانوا لا يتصفون بالقدرة على الحوار أو شد الانتباه ومع ذلك أصبحوا من أميز العناصر وأكثرها نبوغًا وأشدها فهمًا وقراءةً لفصول الحياة ومتابعة مشاهدها، إن السياسى البريطانى الداهية ونستون تشرشل لم يكن طالبًا متفوقًا،



كما أن نابغة جراحة القلب السير مجدى يعقوب كان طفلًا قليل الكلام لا يميل إلى الاندماج الشديد مع غيره على نحو أقلق أسرته فى البداية، فإذا هو بعد ذلك يقف على قمة تخصصه الدراسى وخبرته العلمية، والقياس على ذلك واضح لمن يريد أن يقرأ صفحة المستقبل أو أن يتأمل الظروف التى مر بها شريطة أن يفصل بين التميز الدراسى والتفوق الوظيفي، وما أكثر ما شهدنا من نماذج للتفوق والتميز فإذا لفحات الشمس الحارقة فى زحام الحياة تعيدهم إلى حظيرة الواقع بعيدًا عن الأحلام.



خامسًا: إن مشكلتنا هى الاهتمام بالمظهر دون الجوهر لذلك تشدنا نتائج الامتحانات دون أن نبحث فى العائد الحقيقى من ورائها، ولذلك شاع التعبير المعروف (مصر بلد شهادات) وذلك نتيجة ارتباط المؤهل الدراسى بالوضع الاجتماعي، وهو أمر ليس ضروريًا فى كثير من الثقافات الأخرى ولكنه استقر فى اللاوعى المصرى حتى أصبحت هناك مظاهر مختلفة بدءًا من الزواج وصولًا إلى عضوية النوادى تبدو مرتبطة بالمؤهل الدراسي



وقد يكون لذلك بعض التبرير ولكنه ليس بالضرورة أيضًا شرطًا للتميز، ونحن نظن بصدق أن اهتمامنا بالشكليات قد سلب منا الاهتمام بالجوهر الحقيقى للأمور، فلم يعد هناك اهتمام لدى العامة بطبيعة العملية التعليمية أو المستوى الدراسى ولكن المهم هو أى شهادات يمكن الحصول عليها والاستفادة منها حتى أصبحت الدرجات العلمية مثل الدكتوراه والماجستير وغيرها أدوات مظهرية قابلة للشراء أحيانًا، إننا نواجه أزمة ضمير حقيقية تجاه المسألة التعليمية والعملية التربوية وينبغى عدم تجاهل ذلك أبدًا. إننى أؤكد هنا وبغير تردد أن العلاقة بين التفوق الدراسى والبحث العلمى مفقودة لدينا ولا يمكن الوصول إليها إلا بعملية تحديث شاملة للعقل المصرى قبل كل شيء.