عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
البحوث العلمية: الترقية الخاصة أم الرقى العام؟
13 يوليو 2019
د. محمد يونس


المفترض أن البحث العلمى يصب فى خدمة المجتمع وتقدمه ورقيه أياً كان المجال الذى ينتمى إليه، ولكن الملاحظ فى عالمنا العربى أن ثمة فجوة كبيرة بين جهود الباحثين خاصة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، واستفادة المجتمع من نتائج هذه البحوث. وعلى الرغم من الحرص الظاهر على الاهتمام بالبحوث وحث الأكاديميين على إجرائها من خلال ربط الترقية فى السلك الأكاديمى والجامعى بإنجاز عدد من البحوث ونشرها فى المجلات العلمية المحكمة، فضلاً عن وجود أكاديميات للبحث العلمى وعدد من مراكز البحوث التى ترعاها الدولة، إلا أننا لا نكاد نجد أثراً ملموساً عملياً لتلك البحوث فى حياة الناس، فهل هناك علاقة بين ما تنتتهى إليه مئات الأبحاث فى مجالات التعليم والتربية والإعلام والاقتصاد والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية وبين الممارسة العلمية فى هذه الميادين؟ وهل تستعين الجهات والمؤسسات الحكومية بنتائج هذه البحوث لتطوير أدائها؟ أم أن الأهداف الحقيقية لكثير من هذه الأبحاث هو الحصول على الترقية؟



هذه التساؤلات تدور فى أذهان كثيرين من المعنيين بقضايا البحث بمصر ووطننا العربى، وقد عقدت إحدى الأكاديميات العلمية المصرية مؤتمراً أخيرا بعنوان «نحو أجندة مستقبلية لبحوث الإعلام.. إشكاليات التحول من النمطية إلى التجديد والإبداع» قبيل الاحتفال بمرور 80 عاما على بداية الدراسات الاعلامية بمصر، ليدق ناقوس الخطر حول حالة البحوث الإعلامية والتى تعتبر عينة من البحوث فى المجالات الانسانية والاجتماعية. وأسفر المؤتمر عن تأسيس تيار الأصالة والتجديد فى بحوث الإعلام، وهو الجانب المشرق من الحدث. ولكن الجانب الآخر تجلى فيما كشفته مراجعة المسيرة فى البحوث العلمية على مدى ثمانية عقود، وتوقفت فى هذا السياق عند إحدى الأوراق البحثية التى كانت بمثابة نقد ذاتى صريح لهذه المسيرة التى اكتشفت أن بحوث الإعلام تحلت بالأصالة فى بدايتها، ولكنها تراجعت تدريجيا.



طرحت هذه الورقة أسئلة محورية حول حقيقة ما أضافه الباحثون طيلة ما يقرب من 80 عاما من عمر الدراسات الإعلامية منذ افتتاح معهد الصحافة العالى بجامعة القاهرة فى عام 1939؟ ولماذا اتسمت إسهامات الأساتذة المؤسسين العلمية بالخصوبة والعمق والدقة والاستنارة والجدية، ولكن بعد مضى كل هذه العقود لم تبرح الدراسات الإعلامية العربية مكانها، حيث ظلت فى معظمها أسيرة للدراسات الكمية. ورغم التطور الكبير فى عدد الباحثين وكثرة كليات وأقسام الإعلام، فإن هذا لم يصاحبه تطور نوعى على المستويات النظرية والمنهجية والمعرفية.وفى هذا الإطار تتزايد الحاجة إلى مراجعة نقدية، وإدارة حوار علمى حول وضعية الدراسات الإعلامية بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، وصياغة أجندة بحثية مستقبلية تزاوج بين الكمى والكيفى، وبين النظرى والميدانى، وبين التطبيقى والنقدى.وكشفت هذه الورقة البحثية عبر دراسة تحليلية لعينة من الدوريات العلمية وإصدارات المؤتمرات العلمية، اتساع مساحة النقل والاستنساخ عن دراسات السابقين، والهروب نحو الترجمة عن الأدبيات الغربية والمبالغة فى الاقتباس منها. ورصدت مظاهر للافتقار إلى الأصالة فى العديد من البحوث، حيث تتم إعادة انتاج الفكرة البحثية ذاتها، والالتفاف على بعديها المكانى والزمانى. ونقل تساؤلات أجاب عنها باحثون فى دراسات سابقة. ويظهر التتبع الواعى للعديد من البحوث مظاهر للقصور العلمى، من بينها: الظن بأن العلم هو النقل، وأن البحث يمكن إنجازه عبر الخلط المنظم لمجموعة من الاقتباسات التى يجرى استنساخها ووضعها فى بناء يجعل منها بحثاَ.فى هذا السياق يبرز تساؤل مهم حول مدى الوعى بالأهمية الكبرى للعلاقة العضوية بين ما ينشغل به الباحثون فى الأكاديميات العلمية وما يجرى فى الميدان العملى والمهنى، وبعبارة أدق فى المجال الذى نحن بصدده كمثال للدراسات الإنسانية, تبرز أهمية الوعى بالعلاقة بين كليات الإعلام، والمؤسسات الإعلامية، حيث يلاحظ أنه كلما تحكمت عقلية النقل والاستنساخ فى الأداء العلمى، ازداد الابتعاد عن الدراسات الميدانية، وتعمقت الفجوة بين كليات الإعلام والمؤسسات الإعلامية. بما ينعكس سلباً على المسيرة المهنية.فى هذه الحالة لن تجد المؤسسات الإعلامية ما يدعوها إلى الاهتمام بالأكاديميات العلمية، وسيصبح الإهمال من جانب هذه المؤسسات هو المعادل الموضوعى لإهمال دراسة المؤسسات الإعلامية من الداخل. بالتأكيد هناك بحوث جادة وقوية لكنها تظل قليلة ومحجوبة عن المجال العام.إن البحوث العلمية فى أى مجتمع هى قاطرة التقدم والنهوض، الأمر الذى يستدعى مراجعة واعية لمسيرة البحث العلمى وتطويره بالمناهج والأدوات العلمية وربطه بقضايا المجتمع وتعزيز اتجاه الأصالة والتجديد، بحيث يتجاوز البحث مجرد كونه وسيلة للترقية فى سلك التدريس الجامعى والعمل الأكاديمى إلى المساهمة فى رقى المجتمع بأكمله.