عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
«ديوجين» الفلسفة العربية
5 يوليو 2019
سهير حلمى


كان عاشقاً للسؤال .. فالتفلسف فى جوهره حياة .. تساؤل مستمر، إقرار بالقدر المحدود من المعرفة، وتسليم بلا نهائية العلم .. فالحقيقة لا تخشى الشك ولا الحوار .. والشك يكشف أحيانا الأفكار الزائفة ويزيل الأباطيل .. فالتفكير يغير شكل الأشياء ويحولها إلى أفكار إلى جزئيات.. فكل فلسفة تقدم جزءا من الحقيقة .. وتعدد الآراء هو اللقاح الفعال ضد ميكروبات الانغلاق .. لذلك أطلق مفكرنا الكبير د. إمام عبد الفتاح إمام على من لا يسأل ولا يستفسر كلمة (قُفل) وهو يراها كلمة عربية صحيحة وأفضل ترجمة تعبر عن روح شخصية الـ Dogmatist التى تترجم لوصف الشخص بالدوجماطيقية . فالشخص «القُفل» يغلق الباب على معتقداته وآرائه ولا يعرضها لضوء المناقشة، أو هواء الآراء المتباينة .. فمعتقداته لا تمس وهو يحكم على الآراء التى تخالف معتقداته – كما يظن – بالخطأ قبل أن يتعرف عليها فعلياً!.



تعمل الفلسفة كفكر ثان.. فهى (فكر الفكر) على حد تعبيره .. تبحث تحت السطح الظاهر للأشياء .. ما كان مستتراً ولم يكشف عنه النقاب من النظرة الأولى، وهذا هو المعنى المراد بقول هيجل الشهير : «بومة مينرفا لا تظهر إلا بعد أن يرخى الليل سدوله» ومينرفا هى آلهة الحكمة عند اليونان ويرمز للمقولة بظهور الفلسفة بعد أن يقول الناس كلمتهم وتنبض الحياة العامة بالمعاملات.



مجتمع بلا ميتافيزيقيا هو مجتمع فقد قدس أقداسه، هو مجتمع متخلف لا محالة .. كل ذلك لا يعنى أن د. إمام كان مجنداً لأسطورة ميداس الذى يتحول كل شئ يلمسه إلى ذهب حتى كاد يموت جوعا .. فالإنسان لا يعيش بالذهب ولا بالشعارات ولا بالأفكار المجردة فقط ولكنه يعيش بالعقل وبث الوعى وكان الأخير شغله الشاغل حتى آخر يوم فى حياته .. فكان مهموماً بالغشاوة التى تكبل العقل العربى عن المراجعة والفهم والاستيضاح .. مؤكداً أن لكل عصر فلسفته، ولا يمكن إحياء فلسفات قديمة وتقديمها للناس ومن المحال أن يتحول مستقبلنا إلى ماضينا ونرتد إلى القرن الأول الهجرى كما أراد الإسلاميون المنغلقون فى أبراج (حجرية) فالفيلسوف لا يعيش أبداً فى برج عاجي ولكنه يشتبك على الدوام مع البشر ويسعى لتقديم أوراق اعتماد أفكاره مشفوعة بالحيثيات وقد يختصم الجميع من أجل نصرة معشوقته الأثيرة (الحقيقة).



وقد أقر بخطئه فى بداياته حين قرأ هيجل – الذى يعد مرجعية فى فلسفته – بمنظار أرسطو ومن ثم لم يفهمه جيدا .. فأعاد قراءته مرة أخرى، هو صاحب بناء فكرى متين ومتنوع يتسم بالغزارة المعرفية والدقة فى اختيار التعبيرات وضرب الأمثلة وتبسيطها، بل أن د. محمد حمدى إبراهيم الذى قام بمراجعة كتابه الموسوعى (حياة مشاهير الفلاسفة) على الأصل اليونانى والذى ترجمه د. إمام عن الإنجليزية والفرنسية لديوجين، يصفه بأنه : «لا يشق له غبار فى صياغة المصطلح الفلسفى» .. فهذا العالم الجليل كان يكتب بفهم واستيعاب وجدارة واقتدار، لا يراوح مكانه مؤكدا أن الحاضر يكون أكثر ثراء وتحفيزاً وإلهاماً حين يضاف إليه المستقبل .. لذا كان يستحضر التاريخ إلى عرينه ولا يعود إليه إلا بتجليات مشبعة بفهم عميق لجذور الظاهرة التى يتحدث عنها كاشفاً عن النبض المتدفق .. حريصاً على تبسيط النموذج الفلسفى المراد عرضه .. حتى تصبح الفلسفة طعاماً مستساغاً للجميع من خلال إلحاحه على إتساق الفكر والوعى بالتناقض فى أفكارنا ومن ثم إصلاحها.



فيلسوف التنوير .. «ديوجين» الثقافة العربية فى القرن العشرين .. قدم للثقافة العربية ما تفخر به من إسهامات وأطروحات وأبحاث وترجمات كان كاتبا مرموقاً للمقال الصحفى الدسم الذى ينتظره القارئ بشغف وترقب .. من حسن حظى أننى انفردت بمقالاته الممتعة المتنوعة، أثناء إشرافى على ملحق الجمعة بالأهرام منذ عدة سنوات .. وفى كل مقالاته فى مختلف الصحف ومعظم كتبه ظل حريصاً على إعلاء قيمة الفكر كقيمة مستقلة ترتقى بالإنسان وكانت الهارمونية تجلل كل كتاباته بوهج خاص ومصطلحات وحكايات فلسفة ممتعة.



عن المساواة فى الأساطير اليونانية وقاطع الطريق الذى يمتلك «سرير بروكرست» وله طول محدد .. كان يجبر الأشخاص الذين يسرقهم على قضاء ليلة فى هذا المخدع فلو كان الشخص طويلاً يقوم بقص أطرافه ولو قصيرا يقوم بشدها وفى الحالتين كان يقضى على حياة من وقعوا فى طريقه .. ويذكر أن سارتر اعتاد معايرة الماركسيين بهذا المثال من (خرافة المساواة) التى يتحدثون عنها .. ويضيف د. إمام أن الفروق والدرجات فى الطبقات والمهارات و المواهب أمر حميد ومطلوب، وهذه ليست مساواة.. فالمساواة لا تكون فيما بيننا وبين البعض الآخر ولكنها المساواة أمام شئ ثالث هو (القانون).



ثم ينتقل ببراعة ليربط الواقع بالمثال الفلسفى والنموذج الشهير فى استدعائه لديمقراطية أفلاطون التى كانت تعنى المساواة بين الناس بالصورة التى قد يصبح معها العبد مساوياً للسيد والأستاذ فى مرتبة التلميذ والأستاذ فى دولة كهذه قد يخشى من التلميذ ويتملقه الأمر الذى دعا الفيلسوف جاك بوسيه فى القرن السابع عشر للقول : «عندما لا يكون هناك سيد فالكل سيد .. وعندما يستطيع الكل فعل ما يشاؤون فذلك يعنى أنه لن يستطيع أحد فعل شئ» .. وأن التطرف فى الحرية قد يولد أعظم أنواع الطغيان .. لأن الغوغائية التى تحكم الجماهير قد تدفع بأى طاغية إلى سدة الحكم .. فالديمقراطية ممارسة وليست مجموعة من الأفكار .. وغاندى استطاع أن يغير من تاريخ الهند بالأفكار الطازجة التى طرحها.



من أبرز مقالات د. إمام مقال عن الماسونية وتاريخها وكل تفاصيل ارتباطها بعهود وأشخاص وأحداث وإدعاءات كاذبة .. وأيضاً مقاله الكاشف عن المؤرخ الأمريكى جيمس برستيد الذى أثبت أن مصر أول الحضارات التى بزغت منها حضارة العالم وترعرع فيها الضمير والأخلاق، قبل الصين والهند واليونان .. وكيف نقل العالم الحديث عن طريق (العبرانيين) اليهود فى فلسطين الكثير من المآثر التى ترجمت ونقلت إلى سفر الأمثال فى العهد القديم وكيف ساهم ذلك فى تكوين الأدب اليهودى .. وكيف غضبت روز مارين رئيسة تحرير مجلس جويش سبكتاتور من هذا الامتياز المصرى الفرعونى وفى مقال لاحق فند



د. إمام حكمة أمينموبى المحفوظة فى المتحف البريطانى والتى ترجمت إلى العبرية وأخذ منها الكثير فى أسفار التوراة .. إضافة لكتاباته عن نساء الفلاسفة فى اليونان وكيف عرفت هذه البلاد فى القرن السادس قبل الميلاد نساء مثل (أسبازيا) معلمة الخطابة التى تعلم على يديها سقراط البيان وسعى إلى مجلسها كل أساطين الفلاسفة والعلم : أرشميدس وأفلاطون وبركليس وسوفكليس .. نابذاً الفكر الأوروبى الذى كان يردد أن عقل المرأة أقل من عقل الرجل وأن تفكيرها يغلب عليه العاطفة .. ولم تتغير هذه الصورة تدريجياً .. إلا بتمرد أوروبا على فكر أرسطو والتحرر من إساره.



وفى بحث فلسفى بديع .. يتوقف عند الفعل الأخلاقى كما يزعم البعض عند الحيوان وأنه لا وجود لوفاء الكلب وإخلاص الحصان .. لأن سلوك الحيوان ببساطة شديدة خارج دائرة التقييم الأخلاقى شأنه شأن الجمادات .. لكننا نتحمل واجباً أخلاقياً تجاه معاملتهم بالرحمة وعدم القسوة عليهم .. بل أن الفيلسوف كانط كان يطلب منا الرفق بالحيوان حتى لا نعتاد على ذلك فنعامل البشر بنفس القسوة .. ويتطرق د. إمام للمحكمة التى عقدها (إخوان الصفاء) ورفعها الحيوان أمام الملك لمحاكمة الإنسان .. يطالبون فيها بحقوقهم ورفع الأذى عنهم ويستشهدون فيها بالحجج والمنطق بأسلوب أدبى رفيع .. ويختتم د. إمام كتابه الشيق موضحاً أن الحيوان يفتقد الوعى الذاتى الذى يرتد وينعكس كالمرآة فيرى الإنسان على هديه ما يصوب به رؤاه وأخطائه .. فالحيوان فقط هو الذى يثبت على حاله ويعيد نفس الأخطاء .. رحم الله أستاذنا الجليل الذى أكتمل مشروعه الفلسفى بوفاته وفقاً للفلسفة الوجودية.