عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
كابتن نجيب محفوظ
21 يونيو 2019
من مذكرات نجيب محفوظ


يحكى صاحب نوبل وعميد الرواية العربية لرجاء النقاش قائلا: قد لايصدق أحد أننى كنت فى يوم من الأيام «كابتن» فى كرة القدم، واستمر عشقى لها حوالى عشر سنوات متصلة، فى أثناء دراستى بالمرحلتين الابتدائية والثانوية. ولم يأخذنى منها سوى الأدب ولو كنت داومت على ممارستها فربما أصبحت نجما من نجومها البارزين، وعلاقتى بالكرة ترجع إلى الفترة التى انتقلنا فيها إلى العباسية، كنت وقتذاك قد التحقت بالمدرسة الابتدائية واصطحبنى شقيقى ذات يوم لزيارة صديق حميم له من عائلة الديوانى، وهى عائلة معروفة، ومن أبنائها أطباء ومستشارون. كان بيت هذا الصديق يطل على محطة للسكة الحديد، وعندما فرغنا من تناول الغداء اقترح أن يصطحبنا لمشاهدة مباراة فى كرة القدم بين فريق مصرى وآخر إنجليزى.



وكم كانت دهشتى كبيرة عندما فاز الفريق المصرى، فقد كنت أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنجليز لاينهزمون حتى فى الرياضة. رجعت يومئذ إلى البيت وذهنى كله معلق بكرة القدم، وبأسماء الفريق المصرى الذى هزم الإنجليز، وخاصة كابتن الفريق حسين حجازى نجم مصر ذائع الصيت فى ذلك الوقت. طلبت من والدى أن يشترى لى كرة. وألححت عليه حتى وافق، وبدأت أمضى وقتا طويلا فى فناء المنزل، ألعب الكرة بمفردى،ومحاولات تقليد ماشاهدته فى تلك المباراة التى خلبت عقلى. وبسرعة شديدة استطعت أن أتقن المبادئ الأساسية للعبة، وانضممت إلى فريق «التيمبل» فى المدرسة الابتدائية، وهو فريق الصغار، وكان يوجد فريق آخر للكبار.



كانت الدراسة الابتدائية فى ذلك الوقت لا تلتزم بسن محددة للالتحاق بها، فكنت تجد إلى جانب الأطفال الصغار فى سن الثامنة أو التاسعة، شبابا تجاوز العشرين، ولهم شوارب كبيرة، ولذلك كان هناك فريق للكبار فى نفس المدرسة. وكان من بين أعضاء فريق الكبار الكابتن ممدوح مختار الذى كان يلعب بين صفوف الفريق الأول بالنادى الأهلى، وهو من عائلة صقر التى اشتهر منها عبدالكريم صقر ويحيى صقر. وفى فريق «التميبل» لعبت فى مركز الهجوم، وتحديدا فى مركز الجناح الأيسر، ورغم أننى لا أجيد اللعب بقدمى اليسرى، وكان ذلك المركز يحد كثيرا من حركتى، ومع ذلك كنت هداف الفريق، وأكثر لاعبيه إحرازا للأهداف.



ولما انتقلت إلى مدرسة فؤاد الأول الثانوية تغير مركزى، وأصبحت ألعب كقلب دفاع، وأجدت فى المركز الجديد لدرجة أن كثيرين ممن شاهدونى فى ذلك الوقت تنبأوا لى بالنبوغ فى كرة القدم، وبأننى سألعب لأحد الأندية الكبيرة، ومنها إلى «الأولمبياد» مع المنتخب الوطنى، ومن هنا كانت دهشة زملائى عندما انتقلنا إلى الدراسة الجامعية، ورفضت الانضمام إلى فريق الكرة بالجامعة، ومنذ ذلك الحين، انقطعت صلتى بكرة القدم من ناحية الممارسة، ثم انقطعت صلتى بها من ناحية المشاهدة والمتابعة بعد اعتزال الكابتن حسين حجازى.



وحسين حجازى عندى هو حقيقة رأيتها وأسطورة سمعت عنها، فقد رأيته فى أواخر حياته الكروية قبل اعتزاله اللعب... ونظرا لشعبيته الرهيبة وموهبته الفذة ظل يمارس اللعب حتى شارف الأربعين من عمره، وهى سن كبيرة بالنسبة للاعبى كرة القدم، ففى الغالب يعتزل النجوم بعد تخطى سن الثلاثين بقليل، وحتى فى هذه السن المتقدمة كان حسين حجازى له ثقله فى الملعب، وفى المرات التى شاهدته أعجبتنى فيه ميزات، منها أنه يقوم بدور المايسترو لفريقه خير قيام، وأن لعبه نظيف، فلم يحدث أن أرتكب خطأ متعمدا ضد لاعب من الفريق المنافس، ومنها قوة تسديده على المرمى، لدرجة أنه كان كثيرا ما يسدد الكرة من منتصف الملعب، فتدخل المرمى.



هذا ما رأيته بعينى، أما ما سمعته فهو أقرب إلى الأساطير، ولا أعرف مدى صحته، لأن جزءا منه حدث فى انجلترا، والآخر فى فترة لم أشاهده فيها. فقد قيل إن والده أرسله فى بعثة دراسية إلى إنجلترا، وهناك سرقته الكرة من الدراسة، وبرع فى كرة القدم، حتى أنهم ضموه للمنتخب الانجليزى، وأصبح أحد أبرز نجومه، وتحدثت عنه الصحف الانجليزية. بل قيل إنهم غيروا القوانين الانجليزية خصيصا حتى يصبح حسين حجازى «كابتنا» للفريق الانجليزى. وقيل ان ملك أسبانيا حضر مباراة مهمة بين إنجلترا وأسبانيا، وبهره أداء حسين حجازى، لدرجة أنه عقب المباراة حرص على مصافحته وقال له: «كنت أود أن تكون من الأسبان وتلعب لفريقنا»!.



ثم عاد حسين حجازى إلى مصر وانضم لفريقنا القومى، وشارك معه فى أولمبياد 1929. واحتل الفريق المصرى المركز الرابع. إذا لم تخنى الذاكرة. وكان حسين حجازى نجم الفريق وأشادت به الصحف الأوروبية، وخصته بالمديح، هو و«السوالم». ولقب «السوالم» كما نطلقه على لاعبين يحملان اسم «سالم»، هما محمد وأحمد سالم. وأذكر أن مستر «وولف» مدرسنا الانجليزى فى المدرسة الثانوية كان يدخل الفصل حاملا معه جريدة التايمز الانجليزية، ويقرأ لنا ما كتبته عن الفريق المصرى أثناء «الأولمبياد».



إلى جانب حسين حجازى من النجوم المشهورين فى تلك الفترة «على الحسنى» وكان من فتوات بولاق، ويلعب فى مركز قلب الدفاع، وتميز ببنيانه القوى وطريقة لعبه العنيفة.وإن كان «مرعى» حارس المرمى أشد منه عنفا، حيث كان شعاره فى اللعب «اللى يفوت يموت» وكان «مرعى» أشبه بالعملاق، لدرجة أنه كان يصد الكرة بيد واحدة، ويتلقفها كما يتلقف البرتقالة. حتى أن الكرة كانت تستقر فى يده ولاتتحرك أبدا. وفى «المرايا» أشرت إلى شخصية «على الحسنى» و وبعد نشر الرواية، فوجئت به يتصل بى تليفونيا، ليشكرنى على تذكرى له. جاءنى صوته ضعيفا خافتا، وعرفت أن المرض أنهكه، وأنه لا يغادر فراشه، وتعجبت من الحال التى وصل إليها هذا العملاق.



إلى جانب هؤلاء كان هناك «جميل الزبير» و «سيد أباظة»و «محمود مختار التتش» و «ممدوح مختار» و «محمد سليمان» الذى كنا نطلق عليه لقب «هندنبرج».



وإذا كان حسين حجازى هو كابتن الفريق المصرى، فقد كنت أنا كابتن فريق «قلب الأسد» الذى كونته مع أصدقائى فى العباسية أثناء دراستى الابتدائية، وكان مقره شوارع العباسية.كنا نستضيف أحيانا فرقا من الأحياء المجاورة فى مباريات ساخنة، ونذهب لنلاعبهم فى أرضهم بالمثل. وعندما أخذنى الأدب واستغرقتنى القراءة والكتابة لم أستمر فى متابعة ومشاهدة الأجيال الجديدة، ولم أعرف منهم سوى عبدالكريم صقر، الذى أكد لى صديقى عبدالمنعم الشويخ أنه لاعب فذ لم تنجب الملاعب المصرية مثله، وكان ذلك فى سنوات تالية لاعتزال «حسين حجازى».



ولم أعرف أحدا من الأجيال الحالية، وأذكر أن أحد الصحفيين رتب لقاء مشتركا جمعنى بنجم الكرة محمود الخطيب، وكان وقتها نجم النجوم وحديث الناس. ولم أشأ أن أخبره خلال اللقاء بانقطاعى عن مشاهدة الكرة، وأن علاقتى بها انقطعت مع اعتزال حسين حجازى. وأحيانا أفتح التليفزيون فأجد مباريات كرة القدم، فيأخذنى الحنين القديم، وأندمج فى المشاهدة.



وفى أثناء إذاعة مباريات كأس العالم أظل متابعا لإحدى المباريات دون أن أعرف الفريقين المتباريين. والملاحظة التى لفتت نظرى أن نجوم كرة القدم الآن أصبحوا أكثر ثراء من نجوم السينما، بينما كان دخل لاعب الكرة، قديما، ضعيفا جدا، حتى أن «على الحسنى» بعد اعتزاله لم يجد ثمن الدواء. وكان اللاعب يمارس الكرة على سبيل الهواية، بينما له حرفة أخرى يتكسب منها رزقه. ولم يكن يتفرغ لها إلا أولاد الذوات مثل حسين حجازى، فهو ابن أحد الأعيان، وأذكر أثناء عملى فى وزارة الأوقاف أن قابلنى شاب عرفنى بنفسه على أنه ابن حسين حجازى، فصافحته بحرارة شديدة وقلت له: «تعالى لما أبوسك.. دا أنا صفقت لأبوك لما أيدى اتهرت»!.



لفت نظرى كذلك الانتشار الرهيب لكرة القدم، وربما يكون مرجع ذلك للإذاعة والتليفزيون والصحف التى أصبحت تفرد للكرة مساحات كبيرة. وفى أيامنا كان الاهتمام أقل من ذلك بنسبة كبيرة، لانشغال الناس بالقضايا السياسية. أما عن التعصب الذى يشكون منه الآن بين جماهير الأندية فكان موجودا فى أيامنا أيضا. خاصة فى المباريات بين فرق القاهرة والإسكندرية، وفى المباريات التى كانت تذهب فيها فرق القاهرة للعب فى الثغر كما كنا نسميه تتحول الإسكندرية الى ثكنة عسكرية وتعلن حالة الطوارئ تحسبا لشغب الجمهور.