عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
ثورة 1919 والحالة الثقافية لمصر
8 مارس 2019
د. محمود الضبع


شطت في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حركة فكرية اعتمدت علي محورين أساسيين هما: التعليم والثقافة، حيث تعددت في هذه المرحلة أشكال التعليم، ولم تعد تقتصر فقط علي التعليم الديني عبر الكتاتيب والأزهر الشريف، وإنما أضيفت إليها مدارس المعلمين والمعلمات، والمدارس التي أنشأها النازحون من بلاد الشام علي إثر الفتنة الطائفية التي بدأت 1860م (في لبنان ودمشق)، والمدارس الأهلية (مطلع القرن العشرين)، وهو ما كان له الأثر في تنويع محتوي التعليم، وانفتاحه علي العلوم التطبيقية (الهندسة والصيدلة والجغرافيا) والآداب المعاصرة، بعد أن كانت تقتصر علي العلوم الدينية وبعض من الآداب التراثية والأدب الفارسي.



أولاً يمكن قراءة الحالة الثقافية لهذه المرحلة دون التوقف أمام محطة الدوريات والصحف التي بدأت مع مجلة «يعسوب الطب»، وصحيفة «وادي النيل» 1866م، ثم نزهة الأفكار، وروضة المدارس، والمقتطف 1876م، إذ لم يكد ينتهي هذا القرن حتي بلغت الصحف والمجلات (170) مائةً وسبعين دورية اهتمت بالشئون السياسية والاجتماعية والأدبية والثقافية لمصر والمجتمع العربي، ومن بينها العديد من المجلات النسائية.



هذه الدوريات أسهمت بشكل مباشر في الاطلاع علي الآداب والفنون الغربية، وبدأت معها المحاولات الأولي للكتابة الأدبية العربية في الرواية والقصة والمسرح (مسرحية «الهوي والفؤاد» لزينب فواز 1892م، ثم روايتها غادة الزاهرة أو حسن العواقب 1899م).



وبالإجمال يمكن قراءة حركة الكتابة والتأليف لهذه المرحلة عبر ثلاثة مسارات، أولها، محاولة استعادة الماضي الثقافي العربي بعد القرون الأربعة التي فرض فيها العثمانيون العزلة، وما ترتب علي ذلك من انتشار للجهل والخرافة وغياب الهوية.



وثانيها حركات الإصلاح السياسي والفكري التي بدأت بوادرها مع عودة رفاعة الطهطاوي من فرنسا 1831م، ثم تبلورت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالله النديم، وصاحبها تأسيس مجلات (روضة المدارس، والعروة الوثقي، والأستاذ في نهاية القرن 19م).



وثالثها، بوادر النهضة الفكرية غير المعنية بالشئون السياسية، وإنما بمناقشة القضايا الاجتماعية ومعالجة سلبيات المجتمع، وإلي هذه الأخيرة تنتمي كل الأعمال الفنية والفكرية والأدبية الصادرة في هذه المرحلة.



ففي مطلع القرن العشرين شهد فن الرواية حراكا غير مسبوق بدأ مع رواية «الفتي الريفي» لمحمود خيرت 1904، و«القصاص حياة» لمحمود خضر البوقرقاصي 1905، و«عذراء دنشواي» لمحمود طاهر حقي 1907، و«خطبة الشيخ» لطه حسين 1913(التي بدأ نشرها مسلسلا في مجلة السفور بدءا من عام 1916م)، ثم رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل المنشورة عام 1914 بتوقيع «الفتي الريفي».



وشهدت الفنون تجارب رائدة في هذه المرحلة، منها تجربة «منيرة المهدية» التي تعد أول ممثلة مسرحية مسلمة تعتلي خشبة المسرح في تاريخنا العربي، وهو الأمر الذي أثار العديد من الجدل، وأحدث حراكا فكريا أسهمت فيه الكثير من شرائح المجتمع كان الغالب الأعم عليها هو الرفض والتحريم، وبخاصة مع هجوم رجال الدين علي هذه الظاهرة التي رأوها نهاية للزمان وعجيبة الأعاجيب، ويمكن في ذلك مراجعة هجوم الشيخ «سعيد الغبرة» علي ظهور المرأة مسرحيا أمام الرجال، في صحف ودوريات هذا العصر.



أخلصت منيرة المهدية لوعيها وواجهت ذلك جميعه بالتفكير لإنشاء فرقتها المسرحية عام 1914م، مع الاستعانة بـ «بشارة واكيم» مديرا للفرقة، وهو الممثل المعروف ذائع الصيت حينها، وعلي الرغم من ظروف الحرب العالمية الأولي التي نشبت في العام ذاته، وطالت كل دول العالم ومنها مصر، وعلي الرغم من صراع الشهرة بينها وبين أم كلثوم (سيدة الغناء العربي) الصاعدة بقوة في هذه الآونة، فإن المهدية واصلت مسيرتها في الإخلاص لوعيها تجاه قضية المرأة عموما، وفي التأسيس لوعي سيتحقق لاحقا مع انتشار الكتابة المسرحية للمرأة وعن المرأة كما شهدت المرحلة التالية لثورة 1919م.



أما فن السينما الذي بدأ ظهوره في مصر منذ عام 1895 بعرض الفيلم الصامت للأخوين لوميير (في الإسكندرية والقاهرة وبورسعيد)، ثم بتأسيس محمد كريم شركة لصناعة الأفلام 1917، أنتجت أول فيلمين روائيين «الأزهار الميتة» و«شرف البدوي»، عرضا في الإسكندرية أوائل 1918م.



من جانب آخر كانت هناك حركة فكرية تتشكل للمرة الأولي في تاريخ الثقافة العربية قادها الثلاثي: طه حسين وأحمد حسن الزيات ومحمود الزناتي، كونوا جماعة شغلت نفسها بنقد الأزهر وقراءة كتب ودواوين الشعر القديم والحديث، إلي جانب تلمذتهم علي يد الإمام محمد عبده الذي علمهم التمرد علي طرائق الاتباعيين آنذاك، وقد أسفرت هذه المرحلة عن طرد طه حسين من الأزهر الشريف ولم يعد إليه إلا بعد أن تدخل أحد شيوخه الكبار، غير أنه ما لبث أن عاد للتبرم من دروس الشيوخ الاتباعيين كما سماهم واقتصر علي حضور دروس قليل منهم مثل الشيخ بخيت، واتجهت أنظاره نحو فروع المعرفة التي لم يكن الأزهر الشريف يوليها عناية، والتقي معه في هذا التوجه الشيخ حسين المرصفي (أستاذ البارودي وشوقي والزيات)، فبغضا معا طرائق التدريس في الأزهر، وأحبا الحرية والنقد وروح التمرد..



ويأتي العام 1908م فاتحة خير علي الجميع بافتتاح جامعة فؤاد الأول (الجامعة المصرية لاحقا)، والتي كانت تدرس الحضارة الإسلامية (علي يد أحمد زكي باشا)، والتاريخ والجغرافيا وبعض اللغات الشرقية (حبشية، سريانية، عبرية)، والحضارة المصرية القديمة، والفلك، والأدب، والفلسفة، وغيرها من العلوم التي كان يقوم علي تدريسها أساتذة مصريون وأجانب.



وحصل طه حسين علي درجة الدكتوراه الأولي في الوطن العربي (مايو 1914م) حول أبي العلاء المعري، وهو ما أثار ضده الضجة الهائلة التي اتهمته بالكفر والإلحاد بسبب كتابه (الصادر عن رسالته للدكتوراه)، وطالب أحد أعضاء البرلمان بحرمانه من درجته الجامعية، لولا تدخل سعد زغلول وجعلها معركة برلمانية للدفاع عن طه حسين، وللثورة ضد ما سماه الطرق المعوجة في الفهم والمناهج القديمة في التفكير، وكانت الأزمة قد بلغت غايتها عند طه حسين، وضاقت عليه الأحوال، لولا هذا التدخل من قبل سعد زغلول، ثم سفره إلي فرنسا.



أما الزيات الذي حصل علي درجة الليسانس عام 1912م، وعمل مدرسا بالمدارس الأهلية التي كان قد بدأ انتشارها، والتقي عام 1914 بعدداً من الأصدقاء الذين قادوا الحركة الفكرية في مصر بعد ثورة 1919م، مثل المازني، وأحمد زكي، والعقاد، ومحمد فريد أبو حديد، وتزعموا حركة وطنية لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، وكتب الزيات منشورات سرية كانت تصدرها الجمعية التنفيذية للطلبة في أثناء ثورة 19، وهذا ما يفسر اشتراك المدارس وخروج الطلاب والطالبات للمشاركة في الثورة آنذاك.



كان المناخ ثريا إذا قبل ثورة 1919م التي لم تنشأ من فراغ، ولم تكن الأحداث السياسية هي المتسبب فيها والحاضن لها فقط، وإنما كانت البيئة مهيئة فكريا وثقافيا من خلال التعليم الذي قادته المدارس الأهلية والجامعة المصرية، والتثقيف الذي قادته الصحف والمجلات (الدوريات)، وإن كان هذا جميعه لا ينفي ولا يقلل من شأن ثورة 19 وتأثيرها علي تدعيم الحرية الفكرية ودعم الوعي الثقافي الذي شهد انفجارا صاحب الثورة، وأعقبها في السنوات التالية.



ففي العام ذاته وضع أحمد السكندري ومصطفي عناني موسوعة الوسيط في الأدب العربي، والذي قررته وزارة المعارف العمومية بدءا من عام 1919م علي المدارس الثانوية، والمعلمين السلطانية، والمعلمين الأولية، والمعلمات السَنِية.



وترجم الزيات «آلام فرتر» لجوته عام 1920م، ثم رواية «روفائيل» للامارتين 1925، وأنشأ مجلة الرسالة بدءا من يناير 1933م، بما قدمته من نتاج فكري للأعلام الكبار.



وكان المثَّال الرفيع محمود مختار قد بدأ منذ العام 1918 في نحت تمثال نهضة مصر، وتم عرضه في معرض الفنون الجميلة السنوي في باريس عام 1920، وعندما زار سعد زغلول ورفاقه هذا المعرض كتبوا إلي مصر يشجعون علي إقامة التمثال في القاهرة، واتخذ بذلك مجلس الوزراء قراره في يونيو 1921، وتم عمل اكتتاب شعبي لإقامة التمثال الذي انتهي في عام 1928م، وإن كان محمود مختار قد سخر موهبته لخدمة الحركة الوطنية بعد ثورة 1919معبرا بتماثيله عن مرحلة النهضة والبحث عن الشخصية المحلية.



وبدأ الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة بموجب تصريح فبراير 1922م، وتم وضع دستور جديد للبلاد صدر في 19 إبريل 1923م بديلا عن قانون النظام لسنة 1913م (وضعت هذا الدستور لجنة مكونة من ثلاثين عضوا مثلوا الأحزاب السياسية والحركات الوطنية والزعامات الشعبية، وعلي رأسها عبدالخالق ثروت)، ونص علي أن حكومة مصر «ملكية وراثية وشكلها نيابي».



وازدهرت الصحافة المصرية عقب الثورة فبلغت نحو 19 صحيفة كانت معظمها ملكا خالصا للمصريين، وازدهرت صحافة النقد السياسي الساخرة، وكان من أهم منجزات دستور 1923 ما كفله من حرية للرأي والصحافة، مما فتح الباب علي مصراعيه للدوريات والصحف التي تزايد عددها بشكل ملحوظ.



وازدهرت الفنون والآداب،فتم إنتاج فيلم «الخالة الأمريكية» من إنتاج وتمثيل فوزي منيب 1922م، وفي العام نفسه كوَّن بديع خيري مع سيد درويش فرقة مسرحية، وكتب لها «الطاحونة الحمراء» وتم عرضها في نهاية العام بتمثيل نجيب الريحاني، واتجه بديع خيري إلي كتابة الأوبريت لتقديمه علي المسرح، وهو ما لاقي القبول الجماهيري، فقدم بدءا من 1923م عددا من الأوبريتات: «الليالي الملاح»، و«الشاطر حسن»، و «مجلس الأنس»، و«البرنسيس» الذي عالج فيه قضية العلاقة بين الطبقة الوسطي والطبقة الأرستقراطية، وناقش ضرورة وجود قانون يناقش العلاقة بين طبقات المجتمع، وكان للمرأة نصيب في توجيه الوعي نحو علاقتها بكلا المجتمعين.



كما أنتج أمين عطالله أربع مسرحيات بين عامي 1919، 1920، علي مسرح كونكودريا وماجيستيك بالإسكندرية، وهي: صباح الخير، المجنون، القضية نمرة 14، صندوق الدنيا، إضافة لمسرحيتين في فرقة عطالله وشامبير هما: نعيما، وعواطف الزوجة 27. وفي عام 1924م أعادت منيرة المهدية تكوين فرقتها من جديد بعد مرحلة توقف كبيرة، وكان الجديد في هذه المرة هو النص المسرحي الذي كتبه «بديع خيري» خصيصا للفرقة بعنوان «الغندورة»، أو (قوت القلوب كما تغير اسمه بعد ذلك)، وتم عرضه في إبريل 1925م علي مسرح تياترو برنتانيا في القاهرة، وفي العام نفسه يخرج للنور أوبريت «حورية هانم» الذي مثلته منيرة المهدية أيضا كما أشارت إلي ذلك جريدة «كوكب الشرق» آنذاك.



ثم يأتي العام 1927م لتعرض فرقة الكسار ثلاث مسرحيات من تأليف بديع خيري وتلحين الموسيقار زكريا أحمد (الحساب، وبدر البدور، وزهرة الربيع)، ثم في العام التالي عرضت له فرقة الريحاني مسرحيات: جنان في جنان، وابقي اغمزني، وآه من النسوان، والتي تناقش قضية الزواج من الأجنبيات وآثاره السلبية علي المجتمع المصري ليس فقط في محيط الأسر والأجيال الحالية، ولكن أيضا علي مستوي الأجيال القادمة.



وتتابعت حركة الإنتاج المسرحي والسينمائي بإنتاج فيلمي «قبلة في الصحراء» و«ليلي» بطولة عزيزة أمير (أول ممثلة مصرية)، وفيلم «أولاد الذوات» عام 1932 بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق، وأنشئ استوديو مصر عام 1935، إضافة إلي المسارح واشتهر شارع عماد الدين باسم «شارع الفن».



لقد كانت ثورة 19 بوابة لعبور مصر أسهمت في بناء الوعي العام وازدهار الآداب والفنون والحركات الفكرية عموما، ويكفي أن نشير في ذلك إلي تأثيرها علي العقاد الذي شارك فيها ودافع لاحقا عن الدستور الناتج عنها ضد الملك ووضع كتابه (سعد زغلول سيرة وتحية)، وتوفيق الحكيم الذي عايش الثورة وجسد فكرها في «عودة الروح»، ومي زيادة التي أسهمت بالتظاهر والخطابة والدعوة لحرية المرأة، وعميد الأدب العربي طه حسين الذي انطلقت كتاباته التنويرية لنقد الفكر التربوي والمناهج التعليمية والتراث العربي، ونجيب محفوظ الذي تأثر بها في كتاباته (قشتمر وغيرها)، وهكذا لم يتوقف تأثير ثورة 19 فكريا وثقافيا حتي الآن.