عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مخاض الثورة.. ومولد مفكرين وأدباء
8 مارس 2019
صبرى الموجى


هى ثورةٌ وطنية ميدانُها أمة ووطن، وأبطالُها جموع الشعب بشتى طوائفه من قادة وسياسيين وكتاب ومفكرين، بل حتى من العمال والفلاحين، إلى جانب المرأة والطفل، اندلعت كما يندلعُ اللغم فى الميناء، فأحدثت ما يُحدثه الإعصار فى هوج البحار، اشتعلت شرارتها فى مارس 1919، وامتدت إلى شتى أصقاع مصر فشملت أقصى الشمال والجنوب، بقيادة زعيم الأمة سعد زغلول.



سعد زغلول خطيب أفحم الخُطباء:



بوصفها لونا أدبيا وصورة من صور التعبير والبيان أجاد زعيمُ الأمة «الخطابة»، وبارى الخطباء، فلم يستصغر يوما أحدا، ولم يأنف أن يُقارع الآخر - ولو كان شابا يافعا - الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق، ففى كتابه «المعارك فى الصحافة والسياسة والفكر» ذكر حافظ محمود أن أول معركة خطابية شهدها بعينيه لسعد زغلول كانت بينه وبين طالب بالمدرسة الثانوية، إذ أضرب الطلابُ عن الدراسة أسوة بطلاب التعليم العالى لتعثر المفاوضات بين حكومتى القاهرة ولندن، وخرج الإضراب الطلابى فى مظاهرة متوجها إلى بيت الأمة حيث يقيم سعد زغلول، وهتفت المظاهرة باسم سعد، فأطلَّ على المتظاهرين من شرفة بيته متسائلا: لماذا جئتم؟



فأجابه المُتظاهرون عن سبب المجيء، فخطب فيهم سعدُ خطبة عصماء، ذابت أمامها كل الأصوات، ولف الصمت جميع الأرجاء، وخرج من بين ثنايا هذا الصمت صوتُ طالب يقول: نحن جنودك يا سعد، فرد سعدٌ بعبارة مُفحمة: وأنا أريد أن يكون جنودى علماء، فانفضت المظاهرة، ورجع الطلاب القهقرى إلى فصول الدراسة.



اقرأ مقال العقاد يا جدع



سعد سعد.. يحيا سعد.. بتلك العبارة عبرت جموعُ الشعب بكل أطيافه عن أملها فى زعيم الأمة بوصفه المُنقذ والمُلهَم المنوط به أن يخلص الشعب من ربقة الاستعمار، ومن بين تلك الطوائف التى شاركت فى تلك المظاهرة الخالدة طائفة الأدباء والشعراء، الذين كان من بينهم العملاق عباس العقاد صاحب العبقريات وغيرها من المصنفات الجادة.



امتلأت جوانح نفس العقاد، بوصفه واحدا من أبناء الوطن، بزعيم الأمة منذ أن كان شابا يافعا، حينما التقاه أول مرة إبان عمله بالدستور، وتوالت بعدها الأحداث التى وطدت الصلة بين زغلول والعقاد.



عن هذه العلاقة يقول العقاد فى كتابه «سعد زغلول سيرة وتحية»: صبر الناس زمنا على مظالم الحرب وضنك الحياة، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يعالجون مرارة الخيبة، ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية، وزاد فى شكايتهم أنهم يطلبون أمرا يسيرا وهو حق الشكوى والاحتجاج، فيجابون بالتهديد والإقصاء عن البلاد، فيستنكرون هذا العنت الغاشم فيعاقبون بإطلاق الرصاص ولا يُراد منهم إلا ان يختنقوا وهم صامتون».



التحق العقاد خلال تلك الأيام المُلتهبة بالشظايا والرماد بصحيفة» الأهرام» وعمل مُحررا صحفيا فنقل على صفحاتها ما دار فى جلسات محاكمات بعض شباب الوفد ممن عرفوا آنذاك بـ «عصابة اليد السوداء» وكان برنامجها يقوم على اغتيال الإنجليز وأعوانهم من المتمصرين، الذين مدوا أيديهم لمعاونة الاستعمار الغاصب حماية لمصالحهم الذاتية، ضاربين بالمصلحة العامة عرض الحائط.



إزاء ذلك الهياج الوطنى تعمد الاستعمارُ إرسال لجنة لدراسة أحوال مصر والتشاور مع المصريين للوصول إلى حل يضمن لدولة الاحتلال هدوء الأحوال ولو إلى حين حتى ترتب أوراقها فكانت «لجنة ملنر» التى حاولت أن تتصل بأبناء البلاد فقاطعوها مقاطعة شديدة، اضطرت إزاءها إلى إصدار بلاغ عبرت فيه أنها ترغب فى تمكين الأمة المصرية من صرف مجهوداتها إلى ترقية شئون البلاد تحت أنظمة دستورية» بغرض التهدئة وسكب الماء البارد على هياج الثوار، ولكن العقاد بحسه الواعى أدرك زيف ترجمة البيان وخطورته، مُبينا على صفحات جريدة الأهرام أنه فخٌ أراد به الاستعمار إيقاف المد الثورى، كاشفا ما فى الترجمة من سوء نية وخبث طوية، إذ كشف عن أن الوارد بالبيان « تحت أنظمة حكم ذاتى» وليس تحت «أنظمة دستورية» كما أشاع مندوب الاحتلال، ثم انطلق العقاد بعدها كالبركان الثائر فانتظم مع جماعة اليد السوداء محاربا بالكلمة لا بالسلاح، فنشر بياناتها، وحرر منشوراتها على صفحات الصحف، كما توطدت علاقته بشبان حزب الوفد مثل ماهر والنقراشى وإبراهيم عبد الهادى، ومع الأيام ازدادت صلته بسعد زغلول وأصبح اسمه يُقرن بصحف الوفد، فكان باعة الصحف يجرون فى الشوارع وهم يهتفون «اقرأ مقال العقاد يا جدع»!



سعد زغلول: أنا لا أعرف الشعر وإنما أعرف الذوق والأدب



لم يكن الشعراء بعيدين عن ثورة 19، حتى إن أمير الشعراء أحمد شوقى رغم أن ولاءه أولا كان للقصر، عدَّل مساره بعدما خلع الإنجليز الخديو عباس حلمى، وعينوا السلطان حسين كامل مكانه، وأعلنوا أن مصر محمية بريطانية، وصار ولاؤه الكامل نحو الشعب المصرى، حيث أنشد العديد من القصائد الوطنية والثورية، التى تغنى فيها بحب الوطن وأمجاده وآثاره وشبابه، تلك القصائد التى جعلته شاعر الشعب، بعدما كان شاعر السلالة الخديوية، ومنها قصيدتُه عن حب الوطن والتى يقول فيها:



إذا عظّــــــم البلاد بنــــــوها ... أنزلتهم منازل الإجـــلال



توّجت مهامهم كما توجوهـــا ... بكريم من الثناء وغــــال




ومنها أبياته التى يقول فيها:



أيا وَطَنى لَقَيتُكَ بَعدَ يَأس ... كَأَنّى قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا



وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَوما ... إِذا رُزِقَ السَلامَةَ وَالإِيابا




ومن تلك القصائد أيضا قصيدته التى عبر فيها عن فرحه وسعادته بنجاة زعيم الأمة سعد زغلول من محاولة الاغتيال الآثمة أثناء مشاركته فى تشريفات الاحتفال بعيد الأضحى يوليو 1924م،حيث صوب شاب إلى صدره رصاصة أصابته بجرح خطير نقل على أثره إلى مستشفى قصر العينى، يصارع الموت وبعد نجاته أنشد شوقى:



نَجا وَتَماثَلَ رُبّــــــــانُها ... وَدَقَّ البَشائِرَ رُكبانُـها



وَهَلَّلَ فى الجَوِّ قَيدومُها ... وَكَبَّرَ فى الماءِ سُكّانُها




وقد توطدت عرى الصداقة بين سعد وشوقى حتى إنه خاصم من أجله أشد الناس إخلاصا له، فيذكر الدكتور زكى مبارك فى كتابه « أحمد شوقى» ان زعيم الأمة كان رئيس شرف حفل أقيم لأمير الشعراء شوقى، فظهرت بعده جريدة «البلاغ» وفيها مقالة افتتاحية، بقلم عباس محمود العقاد قال فيها إن الأمة التى تحتفل بشوقى لا تعرف معنى الكرامة، فدعاه سعد إليه، وقال: «كان يجب يا أستاذ أن تلاحظ أن الحفلة تحت رياستى، فقال العقاد أنت لا تفهم الشعر يا باشا، فقال سعد، أنا لا أعرف الشعر، وإنما أعرف الذوق والأدب».



«مى زيادة».. رمز من رموز ثورة 19



لم يقل دور المرأة عن دور الرجل فى ثورة 19؛ لأنها كانت تعبيرا عن إرادة شعب بكامله، وتعتبر الأديبة «مى زيادة» واحدة ممن كان لهم دورٌ بارز فى تلك الثورة، إذ دأبت كل ثلاثاء، ولمدة 20 عاما على إقامة «ندوة ثقافية»، أو «صالون أدبى» ضم قامات الفكر وأساطين الثقافة، فقد ذكر العقاد فى كتابه «رجال عرفتهم» أن زوار تلك الندوة التى كانت تُقيمها «مى زيادة» ربوا على 30 نجما ساطعا منهم أستاذ الجيل لطفى السيد، وعبد العزيز فهمى، وأحمد شوقى، وخليل مطران، وأنطون الجميل، ومصطفى صادق الرافعى، والعقاد، وطه حسين، وملك حفنى ناصف، وغيرهم، وكانوا يتناقشون فى أمور البلاد دقها وجليلها صغيرها وكبيرها، كما كانت الخطب العصماء التى تلقى فى تلك الندوة، أشبه بالشرارة التى تُشعل فتيل الثورات والتى كانت منها ثورة 19.



نجيب محفوظ ومشهد ثورة 19



وإذا كان لثورة 1919رجالُها الذين قادوها، وشبابها الذين شاركوا فيها، فقد كان للصغار دورٌ أيضا، فها هو أديب نوبل يعد نفسه واحدا من براعم ثورة سنة 1919، فلم يكن عمره حين قامت ثورة 19 قد تجاوز 7 سنوات، إلا أنه يذكر أن «حى الجمالية» مسقط رأسه كان مركزا للثورة والمظاهرات، التى رآها لأول مرة فى ميدان «بيت القاضى» وحسبها «زفة فتوات».