أنا سيدة فى السادسة والخمسين من عمرى، نشأت في أسرة بسيطة، ولم أنل أى قسط من التعليم، وقد زوجني أبي فى شبابى برجل يكبرني بثلاثة وثلاثين عاما، ويعمل بائع حلوي علي عربة متنقلة، وعشت حياتي في شقة صغيرة بها بعض الأثاث المتواضع في منزل يملكه والده، وبرغم اعتراضي الشديد علي زواجي منه، فإنني بمرور الأيام رضيت بحالى، بل ووجدت أن حياتي مع زوجي أهدأ حالا من حياتى في بيت أسرتي كثيرة العدد.. قليلة الدخل والإمكانات.
وبدأت حياتي الجديدة بجنيهات معدودة كان يمدني بها زوجي كل أسبوع، وكنت أدبر بها شئون المنزل قدر استطاعتى، والحق أنني وجدته رجلا طيب القلب يحاول إرضائى، ويسعى لتلبية احتياجاتي برغم ضيق ذات اليد، ولم يمر العام الأول على زواجنا حتي أنجبت طفلا جميلا فرحت به وفرح به زوجى، وعرفت معني السعادة التي لم أعرفها من قبل حتي في يوم زواجي, ثم أفاض الله علينا من نعمه، فجاءت ابنتي الوسطي كالبدر المنير تحمل ملامح جميلة، ولا تشبه أحدا فى عائلتى أو عائلة زوجى، وفرحت بها كثيرا، وازددت حبا للحياة, وخرجت إلي العمل لمساعدة زوجي حتي نستطيع توفير مبلغ نلبي به احتياجات طفلينا من الملابس الجميلة التي كنت أراها في المحلات، ولا أستطيع شراءها, ومرت سنوات كبر خلالها ابناى والتحقا بالمدرسة، ورحت أراقبهما وهما يذاكران دروسهما، وأنا أدعو الله أن يكونا من الأوائل, وأن ينعما بحياة أفضل من حياتي أنا ووالدهما, وتفوقت ابنتي بشهادة كل مدرسيها الذين أخذوا يثنون عليها وعلي أخلاقها وجمالها وذكائها, وكنت أخاف عليها من عيون كل من يرونها حتي وهى تسير في الطريق العام، ولم تدم سعادتي طويلا إذ إنني حملت للمرة الثالثة ووضعت ابني الأصغر الذي أراد الله أن يأتي إلي الدنيا معاقا ذهنيا، فأصابني الهم والغم وتركت عملي وانطفأت شعلة الحماس التي كانت تبعث الأمل فى نفسي, وتحمّلت المتاعب الصحية التي يعانيها، خاصة حالات الهياج الشديدة التي صاحبته منذ ولادته، وتزامن مع ذلك هبوط المستوي الدراسي لابني الأكبر، فلم يعد قادرا علي التحصيل ولا أعلم لذلك سببا، ولا أدرى ما إذا كان قد تأثر بشقيقه، أم أن نسبة ذكائه قد توقفت عند حد معين، وبقيت ابنتي وحدها بنفس مستواها الذهني، وواصلت تفوقها حتي الثانوية العامة، والتحقت بالجامعة فشعرت بالمسئولية نحوها، وحاولت أن انفض الأحزان عن الأسرة، فخرجت مرة أخري للعمل لكى أوفر لها ما تحتاجه من ملابس وكتب ودروس حتي لا تظهر أمام زملائها في الجامعة بمستوي أقل منهم، ولكى لا تتأثر نفسيتها ويقل مستواها، واستطعت أن أعثر على عمل لدي سيدة طيبة القلب كانت تشتري لابنتي كل ما تحتاجه هدية لها، بعيدا عن أجري من العمل لديها.
وتخرجت ابنتي في الجامعة، والتحقت بعمل مناسب لها، ومنذ الشهر الأول تعرف عليها أحد زملائها وخطبها ثم تزوجها سريعا، وأصبح البيت كله كئيبا لا حياة فيه، ولا سعادة، فقد كانت هي كل أملنا ومصدر سعادتنا، وكانت تشعرنا بأننا حققنا نجاحا في حياتنا، ومرت خمس سنوات كاملة لم تفكر خلالها فى أن تزورنا، أو تدعونا لزيارتها، اذ لا نعرف لها مكانا، ولم تتصل بنا أو تتذكر أن لها أبا وأما ذاقا الأمرين من أجلها، ولقد سمعنا من بعض معارفنا الذين يعرفون أخبارها من بعيد أنها أنجبت طفلا, وأنها تحيا حياة سعيدة، فهل إلي هذا الحد يكون عقوق الأبناء؟.. إن أباها الآن علي مشارف التسعينيات من عمره، ولا يعرف أحدا منا، ولسنا فى حاجة إلى مساعدة مادية، فنحن مستورون برغم كل شىء، ولكن لا أعرف ماذا أفعل حتي نراها وتزورنا كما تفعل كل البنات مع أمهاتهن وأبائهن؟.
< ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يا إلهي.. ألهذا الحد يمكن أن يصل جحود الابنة بأبويها؟.. لقد كنت أتصور أن من عاشت ظروفا قاسية ولمست بنفسها الجهد الذي بذله أبواها لكي تكون ذات شأن بين زملائها وأقرانها بالرغم من ضيق ذات اليد، سوف تسرع من تلقاء نفسها إلى تسديد جزء يسير من هذا الدين الكبير, فإذا بها تتناسي كل شىء، وتنغمس في حياتها الجديدة غير عابئة بما تقاسيه أسرتها من شظف العيش وقلة الحيلة, وسوف تدرك مدي فداحة خطئها يوم لا ينفع الندم عندما تتجرع الكأس نفسها علي يد ابنها الذي سيهجرها عندما يستقل بحياته, فالقاعدة تقول: «افعل ما شئت كما تدين تدان».
وإني أسألها: هل نسيت ما أمرنا به الله عز وجل في كتابه العزيز حيث يقول: « وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (لقمان 14)، وهل نسيت قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «الجنة تحت أقدام الأمهات»؟.. إنني لا أدري كيف طاوعك قلبك الذى يخلو من المشاعر ، ولا يلقى بالا حتى بالأبوين، علي نسيان أعز ما لديك, وأنت تدركين أن أباك قد اقترب من سن التسعين, وأمك مريضة, وأخويك يعانيان ظروفا خاصة.. أما أنت فلقد أكرمك الله بالصحة والتعليم والزوج.. أفلا تشكرين ربك علي ما أنت فيه من نعم وتصلين أحبال الود التي قطعتيها مع أسرتك ليجتمع شملكم من جديد؟.. راجعي نفسك وعودي إلي جادة الصواب عسي الله أن ينجيك من غدر الأيام.