الخطابات السياسية والثقافية السائدة مصريًا وعربيًا، تدور فى غالبها حول علاقة الدولة وأجهزتها والسلطة السياسية بالثقافة ومؤسساتها، وغالبا ما تحيل فى أسباب هذه الأزمات إلى هيمنة السياسة على الإنتاج والأنشطة الثقافية المختلفة، أو إلى القيود المفروضة على حريات الرأى والتعبير والإبداع والبحث الأكاديمى، أو إلى استخدام الدولة والنخبة الحاكمة بعض التأويلات الدينية أو المعايير الأخلاقية والعرفية فى مطاردة القصائد والسرديات والأفلام والمسرحيات، وملاحقة المبدعين من خلال الأجهزة الرقابية المختلفة.
تنوء الخطابات الثقافية بالشكوى المستمرة من نقص التمويل، أو تهميش الثقافة ضمن قائمة اهتمامات وسياسات الحكومات والنظر إليها على أنها جزء من اهتمامات قلة من المثقفين والشرائح الاجتماعية الميسورة.
بعض الانتقادات تركز على محدودية الأنشطة الثقافية، وعدم جدوى بعضها، أو طابعها الاستعراضى، أو من القيود البيروقراطية التى تعوق الانفتاح على المبادرات والتجارب الإبداعية الجديدة، أو الأفكار والرؤي غير النمطية.
ثمة تركيز على لا مبالاة السلطة السياسية بالجماعة الثقافية والسعى إلى تهميش بعض المثقفين للاختلاف السياسى معهم، أو لآرائهم النقدية، ومن ثم ميلها إلى اجتذاب الموالين لها ودعمهم بالجوائز...إلخ.
بعض الخطابات الثقافية تقارن بين وضع الثقافة فى ظل مراحل بعض الأنظمة التسلطية، وتفضلها علي وضعها فى مراحل أخرى، على أساس كم ونوعية وإنتاج وأنشطة المؤسسات الثقافية، فى مجال الفنون والفرق الموسيقية والغنائية، والسينما، ودعم الفنون التشكيلية، ونشر الكتب والترجمات عن اللغات الأجنبية...إلخ.
غالبا ما تميل هذه الخطابات إلي تحبيذ الأوضاع الثقافية فى المرحلة الناصرية علي الساداتية أو فى عهد مبارك، أو فى ظل الأنظمة البعثية فى العراق وسوريا.
الربط ما بين بعض الأزمات الثقافية، وطبيعة السلطة السياسية الشمولية والتسلطية، يبدو صحيحًا وصائبًا فى بعض الجوانب، الأ أن بعض منتجى هذه الخطابات النقدية يدورون فى مدار أن الثقافة وإنتاج السلع الثقافية رهينة الدولة وأجهزتها، وهى وجهة نظر تعود إلى بعض الأيديولوجيات السياسية والشمولية والتسلطية للدولة والنظام، وأدت إلى إنتاج أنماط تسلطية دينية وثقافية وقانونية، ونزعت إلى اعتبار الثقافة جزءًا مرتبطًا بالإرشاد القومى، أو الدعاية الأيديولوجية للنظام فى عديد من نظم ما بعد الاستقلال.
هذا النمط من الخطابات لا يزال أسير نمط من الهندسة الثقافية، المؤدلجة، والمؤسسات القائمة عليها، وتغافل عن أن الإنتاج الثقافى والابداعى هو نتاج مبادرات حرة فردية وجماعية فى مجال إنتاج الأفكار، أو الأعمال السينمائية، والموسيقى، والأدب، وفى المسرح والفنون التشكيلية وفى إطار دور كبير للقطاع الخاص، والمنظمات الطوعية، فى غالبية الدول ومجتمعات عالمنا. بعض الدول الديمقراطية الغربية، تخصص وزارة للثقافة، بالنظر إلى أهميتها فى مكانة، ونفوذ الدولة العالمى كفرنسا.
تغيرت أيديولوجيا النظام المصرى فى عهدى السادات ومبارك من الاشتراكية إلى الخصخصة، والعلاقات الرأسمالية، وتفاقمت الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية فى ظل استمرارية نمط التسلطية السياسية مع نمو الاتجاهات الأصولية المتشددة والسلفية وتمدد القيود و القوابح على الإنتاج الفكرى والفنى والإبداعى، فى ظل تفاقم أزمات الثقافة المصرية، والعربية التاريخية، وتزايد الفجوات بينهما، وبين تطورات الثقافة العالمية والأورو- أمريكية على وجه الخصوص، ويعود ذلك إلى عديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلى:
- رسوخ تاريخية وشرعية وتقاليد التشكيل البنائى للمجتمع المدنى فيما بين الفرد والدولة والسلطة وأجهزتها وتراكم إنجازاته ورسوخ مؤسساته.
- دعم الشركات المؤسسات الرأسمالية الكبرى المجتمع المدنى ومنظماته العاملة فى مجال الثقافة عمومًا وفى المجالات البحثية، وفى المشروعات والأنشطة الثقافية التى لا يقبل على تمويلها القطاع الخاص، ولا تستهدف الربحية، خاصة أن بعض أرباح بعض هذه الشركات والمؤسسات تخصص لدعم المنظمات غير الحكومية، وذلك لعدم خضوع هذا الدعم للضرائب. لاشك أن هذا الدعم ساهم فى تطوير وتجديد بعض الإنتاج الإبداعى والفنى فى عديد المجالات، وفى خلق تراكمات ساهمت فى الارتقاء ببعض الحقول الفنية والإبداعية والاحتفاء بالتجريب والمغامرات الخلاقة الجديدة.
بعض المنظمات الطوعية الغربية والدولية المختلفة امتد دورها إلى خارج بلدانها، وتساهم فى دعم بعض الجمعيات الأهلية والمراكز والمبادرات الثقافية فى بعض الدول العربية، ومصر. من الملاحظ أنه لا يمكن حصر الإنتاج والأنشطة الثقافية فى الأطر الرسمية، لأن الإبداع التاريخى للثقافة المصرية منذ مرحلة النهضة اعتمد على المبادرات الفردية والجماعية فى المجال الفكرى والفنى، فى الموسيقى، والأدب، والفنون التشكيلية، والسينما والمسرح.
من ناحية ثانية ازدياد مساحات التمايز، وتمدد النزعة الاستقلالية عن المؤسسات الرسمية لدى بعض المثقفين والمبدعين من أجيال الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة، ولدى الشباب.
من ناحية ثالثة سرعة التطور الرقمى، وأثره على أنماط التفكير والتلقى، وأساليب الإبداع والاستهلاك الثقافى لدى الأجيال الشابة.
من هنا لابد من تذليل العقبات أمام أشكال التعاون المختلفة بين الهيئات الثقافية الرسمية، والمنظمات الأهلية العاملة والناشطة فى المجال الثقافى، وضرورة رفع القيود الإدارية على تأسيس هذه الجمعيات، أو المبادرات، أو الأنشطة، وذلك لإعادة الحيوية إلى المبادرات الفردية، على نحو يؤثر إيجابيا على تجديد الدور الثقافى المصرى فى الإقليم العربى.