عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الزوجة المكسيكية
28 سبتمبر 2018
جابر عصفور;


هذه الثنائيات الضدية التى تصل بين «سامى جميل» و«سامنثا» الأمريكية، هى الوجه الآخر للصلة نفسها بين يحيى (قناع يوسف إدريس) و»روث» المكسيكية التى حَلَّت محل «سانتى» اليونانية. وهى ثنائية تقودنا إلى ما يبدو كأنه توازيات تاريخية بين زمن كتابة «البيضاء» وزمن كتابة «الزوجة المكسيكية»، فكِلا الزمنينِ يقعُ فى نقطةِ التَّحوّلِ التى تفصلُ زمنًا عن زمنٍ، وتجمعُ ما بين نقطةِ تَحوُّلٍ قديمةٍ ونقطة تحول حديثةٍ.



........................



ولنتذكر أن زمن كتابة «البيضاء» كان يقع ما بين عامى 1952-1954، وهى الفترة التى انقلبت فيها الثورة المصرية من التعريف بنفسها على أنها محاولة لإيجاد حياة ديموقراطية سليمة، وانتهت بعد أزمة مارس 1954 إلى نظامٍ ديكتاتورى لا يسمح بحقِ الاختلاف أو حتى التنوع، فلم يعد هناك ما كان يَسمحُ به إلا غلبة الصوت الواحد الذى فرضتهُ قيادة عسكرية على الشعب المدنى وأحزابه التى لم تكن تريدُ بالطبع حُكمًا عسكريًّا. وزمن كتابة «الزوجة المكسيكية» يرتبطُ ببدايةِ الانقلاب على نظام «مبارك» والثورة ضده وضد ما فيه من مفاسد، ولذلك فالإشارة واضحة إلى ارتباط «سامنثا» بحركة «كفاية» والمظاهرات التى كانت تُنظِّمها الحركات المُعارِضة الموازية لـ «كفاية»، للثورة على حُكم مبارك فى لَحظاتِهِ الأخيرة. وهى الحركات المُتمردة التى انتهت بسقوطِ نظام مبارك فى 25 يناير 2011، ثم استيلاء الإخوان المسلمين على الحُكم، وعودة الحُكم إلى الشعب مرة أخرى بعد ثورة 30 يونيو. وإذا قارنَّا، فى ضوءِ ذلك، بين زمن كتابة «البيضاء» وزمن كتابة «الزوجة المكسيكية» لأمكنَ بسهولةٍ أن نقول إن الأولى كانت استجابة مُضادة لِعَمى الأحزاب الشيوعية الجامدة عن رؤيةِ الواقع منذ قيام ثورة يوليو إلى انتصار دُعاة الديكتاتورية والخلاص من رئاسةِ محمد نجيب وحركة الإخوان المسلمين وإلغاء الأحزاب كلها فى آن. ويمكنُ بالقياس نفسه أن نقول إن كتابة «الزوجة المكسيكية من حيث الزمن الذى يتحرك فيه أبطالُها تبدأ من ارتفاع درجة التَّمرد على فساد نظام مبارك وسقوط هذا الفساد. وما بين بداية التَّمرد الشعبى وسقوط النظام الاستبدادى، تنقصمُ العلاقة بين «سامى جميل» و»سامنثا»، وذلك بترحيل «سامنثا» مع تصاعد الأحداث وإرجاعها قَسْرًا إلى الولايات المتحدة بعد أن أخذت فى القيام بدورٍ ثورى لا يتباعدُ كثيرًا عن الدور الثَّورى الذى كان يقوم به «حمدى» صديق المدرسة الثانوية والجامعية للبطل «سامى جميل». فلا يبقى فى المشهد سوى «سامى جميل» الذى كان يظنُّ أن الجامعة الأمريكية تخلو من الفساد الموجود فى الجامعات المصرية بوجهٍ خاص والحياة المصرية بوجه عام. فإذا به يكتشف أنه لا فارق جذريًّا بين الفساد خارج الجامعة الأمريكية وما فى داخلها، ويحدث ذلك عندما يستدعيه مدير الجامعة لكى يتدخل فى عَملِهِ ويرفع درجات طالب من أبناء ذَوِى النفوذ فى الدولةِ. ويَقبل «سامى جميل» رَفْع درجات الطالب اللاهى مُرغمًا حتى لا يُنهِى مدير الجامعةِ انتِدابَه إلى الجامعةِ الأمريكية، فيَحرِمهُ من راتبهِ الدولاريِّ الذى يُميِّزه عن غيرهِ، فقد سعى إلى التدريسِ فى الجامعة الأمريكية هربًا من مَللِ التدريس لطلاب ذَوِى مجاميع مُتدنية فى الثانوية العامة، اضطُرَّ أغلبهم إلى الالتحاق بقسم الأدب العربى «قليلٌ منهم يفهم، وإن فَهِمَ فلا يتوافر له الشَّغف بالإبداع أو التبحر فى أسراره».



وعندما تَنبنِى الروايةُ الشّارحة «الزوجة المكسيكية» على التاريخ الموازِى للرواية المَشروحة «البيضاء»، فإنه من الطبيعى أن تعتمدَ الرواية الشارحة على عمليات من التَّناص والتضمين الذى يُخايلُ القارئ بالأحداث الزمنية المُقاربة والمُشابهة، وبنصوصٍ لها علاقة بما يصل الزمنين: الأول الذى ينتهى بأزمة مارس فى عام 1954، والثانى الذى يتقلب ما بين 25 يناير 2011 إلى 30 يونيو 2013. على مستوى الزمن الأول ستُذكِّرُنا الرواية بالانقلابِ الدائم على الديموقراطية والتنصل منها. فنقرأُ مثلًا الكلمات الشُّجاعة التى كتبتها السيدة «فاطمة اليوسف» فى خطابٍ لها إلى الرئيس جمال عبدالناصر، خصوصًا الفقرات التى يتوقف عندها «يحيى» ويراها قناع إيمان يحيى (العاشق للتاريخ، وعضو الجمعية التاريخية) بمثابةِ طلقات تحذيرٍ، أو رسالة تَصِلُ ما بين الزمنينِ وتصيب الهدف فى الزمنِ الحاضر فى الوقت نفسه. أعنى تلك العبارات التى تقولُ للرئيسِ:



»إنكَ - باختصار- فى حاجةٍ إلى الخلاف تمامًا كحاجتكِ إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليمٍ يقوم على هذينِ العنصرينِ معًا ولا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. وقد قرأتُ لكَ غير بعيدٍ حديثًا تُطالبُ فيه بالنقد وبالآراء الحُرَّة النزيهة ولو خَالَفَتْكَ، ولكن أتعتقدُ أن الرأى يمكن أن يكون حُرًّا حقًّا وعلى الفكرِ قيود؟! وإذا فُرِضَ وتَرفَّقت الرقابة بالناس واستبدلت حديدها بحريرٍ فكيف يتخلصُ صاحب الرأى من تأثيرها المعنوي؟! يكفى أن نوجد القيد كمبدأ ليتحسسَ كل واحدٍ يديه، ويكفى أن يَشُمَّ المُفكِّر رائحة الرقابة وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لا تُمَس، ليتكبلَ فكره وتتردد يده ويصبح أسيرًا بلا قُضبان. إن الناس لا بد أن يختلفوا؛ لأنهم مختلفون خَلْقًا وطبعًا، وقد دَعَتْ الظروف إلى إلغاء الأحزاب وإلى تعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأى، وقد أصبحَ للعهدِ الجديدِ شعارٌ واحدٌ وألوان واحدة فلم يبقَ شيءٌ يمكن أن يتنفسَ فيه النقد وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصُّحُف، وأَسِّنة الأقلام، وتفكير المواطنين. أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيدَ منها المُلوَّثون المُغرِضون؛ ولكن صَدِّقنى إن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطرٌ إلا فى ظِل الرقابة وتقييد الحريات. ولا تُصدِّق ما يُقال من أن الحرية شيءٌ يباحُ فى وقتٍ ولا يباحُ فى وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التى يتنفسُ بها المجتمع، والإنسان لا يتنفسُ فى وقتٍ دون آخر، إنه يتنفسُ حين يأكلُ وحين ينامُ وحين يحاربُ أيضًا. إنكَّ بكل تأكيدٍ تَضيقُ ذَرْعًا بصحف الصباح حين تُطالعها، فتجد أنها تكاد تكون طبعة واحدة لا تختلف إلا فى العناوين، حتى بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانًا بلاغٌ رسمى واحد والناس كلهم يَحسون ذلك ولا يرتاحون إليه. إن التجربةَ كلها لا تحتاج إلا إلى الثقة فى المصريين، وأنتَ أول من تَجِبُ عليه الثقة فى مواطنيه».



هذه الكلمات المُسدَّدَة كطلقات تحذيرٍ ليست موجهة إلى عبدالناصر وحده، فالصراعُ الذى دار حول الديموقراطية فى أزمة مارس 1954 يكاد يوازى الصراع الذى يوازى حاجتنا إلى الديموقراطية فى الفترةِ الزمنيةِ المعاصرةِ الذى كتب فيها إيمان يحيى روايته «الزوجة المكسيكية»، فالديموقراطية تظلُّ هى الهدف الغائب فى الزمنينِ؛ زمن كتابة «البيضاء»، وزمن كتابة «الزوجة المكسيكية». صحيحٌ أنه لم يَعُد عندنا رقابة على الصُّحُف كما كان فى السنوات الأولى للثورة المصرية، ولكننا نظل فى حاجةٍ إلى المزيد من الديموقراطية، خصوصًا ونحن نبنِى دولةً مدنيةً ديموقراطية حديثةً.



أضف إلى ذلك عمليات التَّناص التى تنطوى على تضمينات وإشارات، تبدأ بالخطابات التى كانت تَرِدُ إلى «روث» من أستاذها الذى يُحدِّثُها عن استخدام الحديد فى عمارة الكبارى والمبانى، وكلها معلومات تاريخية معمارية صحيحة لا تَقِلُّ فى حقيقتها وصدقها عن الوثائق التى تتضمنها الرواية عن شعار مؤتمر «أنصار السلام» فى فـيينا والخطابات المُتبادَلة على شاشة «النت»، فضلًا عن أفيشات الدعاية للأفلام ومشاهدها، كما حدث فى الدعاية لفيلم «دهب» سنة 1953 الذى وُصِفَ بأنه: «فيلم جديدٌ نظيفٌ فى عهدٍ نظيف»، ناهيك عن مونولوج إسماعيل ياسين عن «السعادة». والحقُ أن عملية البحث عن حقيقة «روث» نفسها من حيث وجودها التاريخى، ومن حيث ما يرتبطُ بها من صور ووثائق والرجوع إلى ما ذكرتْهُ المُستعربة الروسية «ڤـاليريا كيربتشينكو»، هو عملٌ من التوثيق الذى يُكمله التخييل بالأخبار الصحيحة عن حياة «روث» ونجاحها اللافت فى الحياة المكسيكية، بوصفها إحدى العضوات البارزات فى جمعية «المِعْماريّات العالمية»، وشخصية فعلية لها دورها فى الحياة المكسيكية بعد تركها مصر وعودتها إلى المكسيك لتواصلَ عملها فى تدريس العمارة والإسهام فى الأنشطة العامة التى جعلت منها شخصيةً مرموقةً فى المكسيك. وهذا كله من منظور توثيقى تضيفُ به الرواية ما يُشبهُ الوثائق التى تَقلبُ التخييل إلى تحقيقٍ، والمعلومة إلى أداةٍ من أدوات التحرر. ولذلك يقول «سامى جميل» (قناع إيمان يحيي): «تقدم العلم، وثورة الاتصالات أزال الحدود بين الدول، وقَلَّص نفوذ الحكومات». وهذه كلمات قالها «سامى جميل» فى حُلم من الأحلام التى تتميزُ باندياح الحدودِ بين الزمانِ والمكانِ، فتغدو نوعًا آخر من التخييلِ. ولكنه تخييل يدخلنا إلى رواية «ما بعد الحداثة» التى ينطوى بناؤها على نتائج التقدم المذهل فى تكنولوجيا الاتصالات التى صاحبت صعود المرحلة الأخيرة للرأسمالية المعولمة.



يُضافُ إلى ذلك ما نراه من لوحات فى النص المطبوع من رواية «الزوجة المكسيكية»، وهى لوحات تمثل بورتريه لـ «روث ريفيرا» الذى رسمه والدها «دييجوا ريفيرا» سنة 1949، ويستهلُ به إيمان يحيى روايته. وهو الأمر الذى يحدثُ فى صورة «روث ريفيرا» التى نراها بعدسة المصورة العالمية «لولا ألفارس برافو» فى مستهل الفصل التاسع عشر، أو صورتها الأخرى وهى تجلسُ إلى جوار رأس تمثالٍ فِرْعَوْنِى كبير الحجم فى مفتتحِ الفصل الواحد والعشرين. وإلى جانب ذلك، هناك تلك الأسماء الحقيقية التى توردُها رواية «الزوجة المكسيكية» لشخصيات حقيقية بأسمائها الحقيقية، ابتداء من الشخصيات المصرية مثل: «أحمد أبو الفتح» رئيس تحرير «المصرى» التى أغلقها ضُبّاط ثورة 1952، فضلًا عن أسماء الكُتّاب العرب الذين قابلهم يوسف إدريس فى مؤتمر «رابطة الأدباء العرب» بعد أن صدرت مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالى»، حيث لقى الأدباء العرب، خصوصًا الشوام الذين كانوا مُتفائلين بعد سقوط «الشيشكلِى»، ويَتعرَّفُ على الشيخ «عبد الله العلايلى» من علماء لبنان الذى نَدَّدَ بإعدام العاملين المصريين: «خميس» و»البقرى»، فضلًا عن المرحوم «محمد دكروب»، وكان شابًا تعُطيه نظّارته السميكة وأذُنُاه الكبيرتان مظهرًا أكبر من سِنِّه. ويحضرُ يوسف إدريس فى بيروت إعلان اتحاد الكُتّاب والأدباء العرب فى مؤتمره الأول، كما نرى فى ختام الرواية بعد خروج (يحيى / يوسف إدريس) من السجن مع صديقه «فتحى خليل» الذى لا يرمز إليه باسم مستعار كما فعل مع بقية الأصدقاء الذين أشار إليهم فى «البيضاء». ولا تنسى رواية «الزوجة المكسيكية» أن تذكرَ «تحية كاريوكا» المُمثِّلة مع بقية الشخصيات المتعاطفة مع اليسار المصرى فى الخمسينيات الأولى التى كانت حاسمة فى التاريخ المصرى الحديث.



والحقُ أن الأمر لا يتوقف عند هذه الإشارات التاريخية، فهناك الاستدعاء الذكى لمشاهد من الحياة اليومية فى الخمسينيات الأولى، ابتداء من «شقة» يحيى بالدور الأرضى فى عمارة قديمة بالمبتديان، وتسليط عين خيال القارئ على مسارات ترام الخمسينيات (أبو سِنْجة التى يُعيدها الكُمْسَرى إلى موضعها كى يُكمل الترام مساره). أضف إلى ذلك شخصيات وأدوات العصر (بائع العرقسوس، وابور الجاز، الثلاجة الخشبية التى تعتمد على ألواح الثلج) وغير ذلك من وسائل الإيهام بالعودة إلى عالم الخمسينيات على مستوى مخاطبة عين خيال القارئ، وذلك فى تصويرٍ بصرى يتوثب بالحيوية. وأخيرًا أصوات الموسيقى التى تتجاوب وتقلبُ الحالات النفسية للأبطال. وكلها تضمينات وإشارات تغتنى بها عمليات التناص داخل القص أو السرد. ولا يقتصرُ الأمرُ على ذلك كله، فهناك عنصر التشويق الذى يضع القارئ فى حال من اللهفة لمعرفةِ ما سوف يقع، سائلًا نفسه على امتداد الصفحات: «وماذا بعد؟!»



ويتناغمُ ذلك كله مع التضمينات التى تحاول نقلِ الآراء المُتناقضةِ عن «البيضاء»، خصوصًا عندما يسمعُ الدكتور «سامى جميل» أقوالًا من قبيل: «البيضاء... هى خطيئةُ يحيى الذى ظل يحاول أن يُبرِّرها طوال عمره. أراد يحيى أن يبرِّى ساحته من تُهمةِ الشيوعية نهائيًّا، فنشرَ «البيضاء» فى صحيفةِ «الجمهورية» عَقِبَ حملة القبض الكبرى عليهم التى قام بها عبدالناصر 1959». بينما يرى آخر أن يحيي: «استطاع... أن يستشرفَ بانتقاداته ما حدث من انهيارٍ للدول الاشتراكية، وما أصاب الأيديولوجيا الشيوعية من تصدُّعٍ. فقد سبق البيروسترويكا والجلاسنوست بأكثر من ثلاثين عامًا». ويراها آخر: «أنها رواية خيانة وتوبة فى آنٍ... خيانة الرفاق، وتوبة مُعلنة بِعِلم الحكومة».



ولكن تظل صورة «عطوة» النموذج الحاد الأصولى فى نقده لـ «يحيى». لافتة ودالة، فقد كان كان أكثر النقاد الماركسيين تعصبًا وأصولية فى الرواية، واسم «حلمى عطوة» هو نموذج الناقد الماركسى الذى جمد على صيغة ضيقة من الواقعية الاشتراكية. ولذلك يقول عنه «يحيى» فى «الزوجة المكسيكية»: «عطوة لا يفهم النقلة الكُبرى التى أحدثتُها بقصصى، عندما كشفتُ عن العالم الروحى والنفسى الحقيقى للفلاح، ابن الريف». وهى عبارة مرجعها «ڤاليريا كيربتشنكو» فى كتابها عن يوسف إدريس. ونسمعُ صوت «حلمى عطوة» بعد ذلك فى المعتقل بعد أن انتهى من سماع قصةٍ قصيرةٍ كتبها «يحيى»، قائلًا له: «يا زميل، قصتُكَ غير إيجابيةٍ، تنتهى نهاية مائعة، هى مجرد نظرة طويلة من طفلةٍ مقهورةٍ إلى أولاد الأثرياء، أين الصراع الطبقي؟ أين التَّمرد على الأوضاع الظالمة؟... أنت تُخرِّب عقول الزملاء، برجوازى صغير مُعادٍ للواقعية الاشتراكية». هذا النموذج للنقد الأدبى باسم الواقعية الاشتراكية كان بمثابةِ تخريبٍ وتضييقٍ لأُفقِ النظرة الماركسية إلى الأدب، وهى النظرة التى تمرَّدَ عليها يوسف إدريس، ووَلَّدت فيه رغبة التحرر من هؤلاء الدوجماتيين الذين رآهم «يحيى» جامدى الذوق، لا يعرفون المعنى الأصيل للواقعيةِ، فقرَّرَ الانصراف عنهم إلى واقعيةٍ أخرى بلا ضفاف. والحق أن الدكتور إيمان يحيى حاولَ جاهدًا أن يتباعدَ عن الحديث المباشر فى السياسة، وهو فى ذلك يستشهُد بالثنائيةِ الضديةِ التى كانت تمايزُ ما بين «جمال الدين الأفغانى» و»محمد عبده»، فقد كان الأول ثوريًّا جذريًّا، بينما كان الثانى إصلاحيًّا لا يرى للثورةِ معنى إلا بعد أن يتعلمَ الناس، فالتعليمُ بداية الطريق الطويل للتغييرِ، فالثورة لا تأتى إلا بعد التعليم وتغيير العقول، ولهذا كان يقول: «لَعَنَ اللهُ ساسة ويسوس وسياسة». وهو الموقف الذى حاول الدكتور إيمان يحيى أن يقوله من وراء قناع الدكتور «سامى جميل»، ولكن هل نجح فعلًا فى ذلك؟ إن بناء رواية «الزوجة المكسيكية» يُنْبِئنَا بالعكسِ، فهو يتباعدُ عن السياسةِ فى الظاهرِ، ولكنه غارقٌ فيها فى حقيقةِ الأمر، وإلا فلماذا اختار موضوع الصراع بين الثوريين والإصلاحيين فى مواجهة نزعات الاستبداد فى الحُكم سواءً أكانت فى أزمة مارس 1954 أو فى أزمتنا مع حكم الإخوان والثورة عليهم فى 30 يونيو 2013؟!



وظَنِّى أنه يلجأُ إلى الكناية السياسية كما كان يفعل يوسف إدريس الذى لم يكن يتركُ شكلًا من أشكال الاستبداد إلا وهاجمه رمزيًّا، ابتداءً من «الهجانة» فى مجموعته الأولى، مرورًا بقصته القصيرة «أكبر الكبائر» أو قصته اللاحقة «العملية الكبرى» أو قصته المُتأخِّرة «أكان لابد يا لى لى أن تضيئى النور؟!» التى كانت استنكارًا لقبول عبدالناصر مبادرة «روجرز» سنة 1970. وأيًّا كان موقف الدكتور إيمان يحيى السياسى، فهو موقفٌ إيجابى يقفُ فى صفِ الحريةِ والديموقراطية، وكلتاهما قِيمتان أساسيتان لا معنى للحياة فى دولةٍ مدنيةٍ دون وجودهما.



والمؤكد أن حداثة الرواية تبدو فى قيامِ بنيتِها القائمة على تَعدُّدِ الأصوات التى تجعلُنا نرى الحَدَث أو الحقيقة من زواياها المُتعددة، فيزدادُ عُمق فهمنا لها، فضلًا عن الحيل الأخرى التى تتسربُ إلى الروايةِ، مثل استخدام الحُلم لتأكيد عمليات التخييل التى تستبدلُ الحُلم بالواقعِ، والواقع بالحُلم، ولا تنسى توظيف الإشارات والتضمينات فى بنيةٍ تناصيةٍ تُسهمُ فى تعميقِ مَجْرى «المعارضة الموازية» التى ينبنِى عليها القص الشارح فى رواية إيمان يحيى. وتبدو عملية الاستباق واضحة عبر علامات دالة، أولاها: عجز «يحيى» عن ترجمة مونولوج «إسماعيل يس» عن معنى السعادة (ص 125)، وثانيتها: ما يقوله «يحيى» لـ «روث» من أنه يرى أمامه «شبح الديكتاتورية يقترب حثيثًا ليُخيَّمَ على مصر. شبحًا بِلَكْنةٍ أمريكيةٍ أيضًا». وثالثتها: عندما يقول لنفسه، وهو يتسللُ من مَخْدَعهما على أطرافِ أصابعِهِ: «أشعرُ أن قصَّتنا اقتربت من نهايتها». وأخيرًا: عندما يشعرُ بتَضاؤلِ الأمل فى انتصارِ الشعب والديموقراطية، فيقول بعد أن قُبِض على زميله «فتحى سالم»: «أحسستُ بِحُزنٍ يَغْمُرُنى، وشممتُ رائحة حريقٍ مكتومٍ، حريقٍ بلا لهبٍ وبلا دخان». هل كان يحيى يتكلم على لسان سامى جميل - عن زمنهِ أَم عن زماننا؟!