عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
لمصر.. ولعبد الناصر أيضا
28 سبتمبر 2018
صلاح سالم;


من منظور تاريخى يمكننا اعتبار جمال عبدالناصر وثورة يوليو بمثابة امتداد بل استكمال لأحمد عرابى وثورته الوطنية المجهضة، التى بدأت بمطلب بسيط هو مساواة المصريين بغيرهم فى الترقى إلى المناصب العليا فى الجيش، ولكنها استحالت تعبيرا سياسيا عن ميلاد طبقة وسطى مصرية تؤمن بضرورة بعث العسكرية المصرية من مرقدها، لتأكيد الشموخ الوطنى فى مواجهة التحدى البريطانى. قاد الرجل ما كان قد تبقى من الجيش المصرى وما انضم إليه من الوطنيين آنذاك، محاولا الصمود قدر الطاقة، حتى انتهى الأمر بهزيمة كانت منطقية لرجل حارب جيشا متقدما بقوات متقادمة، وجابه إمبراطورية عالمية من داخل فضاء ولاية «خديوية» وإن كانت مستقلة «اسميا» عن السلطان العثمانى. ورغم منطقيتها، تركت الهزيمة جرحا غائرا فى الضمير المصرى، حتى أن المصريين قد أسموها آنذاك بـ «هوجة عرابى»، متسائلين بمرارة وإن كان السؤال مضمرا.. هل يستطيع المصريون (الفلاحون) أن يستعيدوا حضورهم السياسى والعسكرى فى التاريخ بعد طول قطيعة.. هل بمقدورهم أن يبنوا الجيش ويخوضوا الحروب، وينتصروا فيها بفعل منظم أم أن الأمر محض نزوة عسكرية وهوجة سياسية؟



.............................



كان جمال عبدالناصر أشجع الذين تصدوا للإجابة عن هذا السؤال باسم جمهورية يوليو التى سعت جعلت من مصر دولة وطنية حديثة ومستقلة جذريا كما لم تكن منذ نهاية الحقبة الفرعونية، تخوض حروبها بجنودها، وتمارس السياسة بذاتها، يطلب رئيسها من المواطن العادى أن يرفع رأسه، بغية إحداث قطيعة مقصودة مع القيم الرعوية فى الشخصية المصرية كالاستسلام والخضوع والقدرية والشعور بالدونية إزاء الآخر، خاصة الأوروبى. كما كان الرجل بطلا تاريخيا بحق التغييرات التى أحدثها فى موقع مصر داخل الإقليم والعالم، عندما قاد حركة التحرر القومى ضد الاستعمار الغربى، أملا فى إعادة امتلاك المصير والتأثير فى حركة التاريخ، الذى كان قارئا واعيا له، مدركا لمنطق سيره ولطبيعة القوى الصانعة له، غاضبا من الهيمنة الغربية، تواقا إلى الخلاص منها. يشى بذلك موقفه فى حرب فلسطين وإدراكه المبكر لجوهر الصراع فى المنطقة والوظيفة الحضارية لإسرائيل. وكذلك وعيه العميق بدور قناة السويس ليس على المستوى الإستراتيجى أو الاقتصادى فحسب بل على المستوى الرمزى كمعنى ومغزى، ومن ثم تلهفه الشديد على تأميمها رغم المخاطر المحدقة؛ لأن فعل التأميم لم يكن يمثل له مجرد تحقيق عائد مادى أو سياسى، بل كان فعل تحرر كامل من ذلك النوع الوجودى الذى يعيد تأسيس الذات الحضارية، وهو أمر صدق تماما فيما بعد، حيث غير قرار التأميم وما تبعه من ملابسات الحرب والدبلوماسية من طبيعة النظام الدولى القائم، وأدى حسب العظيم جمال حمدان فى كتابه الرائع «إستراتيجية الاستعمار والتحرير» إلى توقيف موجة الاستعمار وتدشين موجة التحرير فى التاريخ السياسى العالمى. لقد رأى البعض ناصر عسكريا متهورا، دفع بمصر إلى أتون الصراعات والحروب من دون تعقل، متجاهلين روحانية البطل التى تدفع بالأحرار إلى قتال الآلهة أنفسهم كما يحكى لنا شاعر اليونان الكبير هزيود عن البطل الإغريقى الذى تحدى قرار زيوس، الرئيس المستبد لمجمع الآلهة اليوناني!، بمنع نار المعرفة والحكمة عن البشر التعساء. وكيف قام بروميثيوس بسرقة جمرة من هذه النار المقدسة وعاد بها إلى الناس، مانحا لهم ما حرموا منه. وهنا يشتد غضب زيوس على بروميثيوس فيأمر بأن يشد بالأغلال، ويسلط عليه نسراً، يرعى كبده فى النهار حتى إذا طلع اليوم الثانى عادت كبد بروميثيوس تنبت من جديد، وعاد النسر يفترسها.. وهكذا حتى قدم البطل الإغريقى الأشهر «هيراكليس» أخيراً وحرره.



هكذا تؤكد الأسطورة إمكانية انتصار الإنسان على تجهم القدر وسطوة الأعداء طالما انحاز إلى المثل الكبرى للحياة كالحق والعدل والحرية، فإذا مات أحد أبطال الإنسانية بُعث فى سواه، ملهما ومحفزا لمن والاه.. ولم يكن عبدالناصر سوى ذلك الطراز الرفيع من الإنسان، بطلا حقيقيا دافع عن حق وطنه وأمته والإنسانية معتصما بكرامته وإرادته، ضد هيمنة الغرب، الذى منح نفسه موقع الآلهة ووضع نفسه موضع الأقدار.



فى الداخل صاغ ناصر مشروعا للتحديث السلطوى، أخذ إلهامه من الحداثة الأوروبية وإن فى صورتها الاشتراكية «الشمولية»، محدثا فى مصر تغييرا امتد إلى عمق المجتمع والعلاقة بين طبقاته، وإلى قلب النظام السياسى بكل مكوناته، حتى رموز الدولة كالعلم والنشيد الوطنى. ولعله صحيح أن هذا المشروع لم يبلغ الأفق الديمقراطى قط، ولم ينفتح أبدا على تيارات الحركة الوطنية خصوصا حزب الوفد بفعل الشك العميق بينهما، غير أن الأمر المؤكد أنه قد تبنى أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلا وعمقا كإقامة جيش وطنى، وبناء السد العالى، وتحقيق الإصلاح الزراعى، وفرض التعليم النظامى الواسع الذى كان طه حسين قد اعتبره كالماء والهواء، وجميعها تنضوى فى صيرورة تحديث عميقة، تمثل بدورها الشرط الضرورى اللازم لأى تحول ديمقراطى حقيقى، وإن كان هذا التحول قد تعثر دوما، بل غاب دهرا، جرت فيه وقائع كثيرة انتهت برحيل البطل وبرحيله تهاوى الجسد وانطفأت الروح، وتلك هى قصة جمهورية 23 يوليو.. الثورة التى بدأت بتحرير مصر من محتليها، ومنحتها دفقة أمل فى التقدم نحو طليعة الأمم، وانتهت بعصر مبارك الذى وضعها فى مؤخرة الأمم، وهنا نود أن نضع ضابطين يؤطران التقييم التاريخى لهذه الجمهورية فى ذكرى رحيل مؤسسها:



أولهما يحسب عليه حيث وقع فى خطأ جسيم عندما استبعد كل تيارات الحركة الوطنية من مشروعه، على نحو حرم المجتمع المصرى من نخبته المدنية، وهو أمر أصاب الثقافة السياسية المصرية بضرر لم يتم جبره حتى الآن، إذ أوقعها فى فخ الواحدية وغياب التنوع الخلاق بعيدا عن الفوضوية والمراهقة السياسية. وبدلا من حقبة ليبرالية مشوهة كانت النخبة خلالها هى الهدف والغاية على حساب المجتمع فكان لدينا رأس بلا جسد، أصبح المجتمع هو الهدف مع إقصاء النخبة فصار لدينا جسد بلا رأس. فى الأولى كان ثمة استنارة فكرية دون تحديث مجتمعى، وفى الثانية كان ثمة تحديث مجتمعى دون تعددية فكرية وسياسية، وهو الأمر الذى أبقى المشروع الناصرى، رغم عمقه ووطنيته، فى إطار السلطوية البحتة، رهينة للمقادير التى أتت برجل ذى مزاج مختلف سار بمصر فى طريق آخر دون ممانعة تذكر من كتلة مجتمعية لم يكن لديها أدوات للمقاومة السلمية. وثانيهما لصالح الرجل، الذى تحمله الأحكام التاريخية المتسرعة والكتابات السياسية المتحيزة كل آفات يوليو، وكأن مسار الجمهورية كان قدرا محتوما، تفضى بداياته إلى نهاياته بالضرورة، وهذا حكم جائر؛ فالسادات كانت لديه فرصة عظيمة، بعد حرب أكتوبر، للخروج من كهف السلطوية إلى آفاق الديمقراطية، ولكن رغبته فى المقامرة انتهت به إلى التحالف مع الإسلام السياسى الذى انقلب عليه وأهدر دمه ليرحل تاركا مصر فى محنة قاتمة. كما أن مبارك الذى طال حكمه لعقود ثلاثة أتيحت له كل فرص التحول الديمقراطى والتنمية الشاملة لكنه أطاح بها جميعا، ليهدر وقته فى وأد حيوية 23 يوليو، وفى النيل الصريح من قيمها الجمهورية عبر الاستغراق فى مشروع التوريث الذى أفضى إلى 25 يناير. ولعل من الظلم البين أن ينسب لعبدالناصر كل سوءات مبارك، لمجرد أنه وريث يوليو.. فليرحم الله جمال عبدالناصر، أحد أبرز الآباء المؤسسين للوطنية المصرية.