عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أحدث كتاب عنه: أولاد حارتنا .. سيرة الرواية المحرمة
31 أغسطس 2018
000


صدر مؤخرا للزميل الصحفى محمد شعير مدير تحرير أخبار الأدب كتابه «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة» (دار العين) . ولم تكن «أولاد حارتنا» مجرد رواية يطرح فيها نجيب محفوظ أسئلته حول العدل والحرية، بل هى حكاية مجتمع يسعى للتفكير خارج الصناديق الضيقة.



بدت الرواية على مدى أكثر من نصف قرن كنزًا سياسيًّا، تتصارع عليه كل القوى السياسية، والدينية وتحاول توظيفه لمصلحتها الخاصة، ورمزًا لمعارك ثقافية وسياسية واجتماعية، تتخذ كل فترة شكلًا جديدًا، وشملت ساسة، ورجال دين، وأدباء، وقتلة، ومؤسسات، وتبلغ ذروتها بمحاولة اغتيال على يد شاب لم يقرأ حرفًا باستثناء فتاوى شيوخه. عبر رحلة بحث فى مئات الوثائق والدوريات، وبلغة تمزج بين السرد بتقنيات السينما التسجيلية، يلتقط محمد شعير دراما اللحظة المتوترة التى أثارتها «أولاد حارتنا»، ليتجاوز كونها أزمة فى حياة صاحبها، بل وسيلة لقراءة آليات وتفكير المجتمع، كاشفة لطبقات أعمق منه، وملتمسة بعضًا من جذور المواجهة بين حرية الفكر واستبداد الرجعية، قراءة لا تنشغل بالإجابة أكثر من طرح الأسئلة. هى رواية الرواية، رحلة بحث عن التفاصيل المنسية، حول البشر، والزمن، والتحولات،ودوائر الصراع المكتوم داخل حارتنا المأزومة. هنا جزء من الكتاب.



........................................



التزم محفوظ الصمت تمامًا طوال أيام نشر روايته « أولاد حارتنا» التى انتهت يوم الجمعة 25 ديسمبر 1959، فى اليوم ذاته ذهب محفوظ إلى ندوته الأسبوعية فى «كازينو الأوبرا». اعتاد أن ينصرف فى الواحدة والنصف، ولكنه فى ذلك اليوم حرص على البقاء حتى الثالثة والنصف لسخونة النقاش حول الرواية الجديدة. تزعم رفض الرواية فى الندوة مدرس أدب فى كلية الآداب وناقد صحفى فى إحدى الصحف اليومية، لم تذكر صحيفة «المساء» التى غطت تفاصيل اللقاء اسميهما. محفوظ أوضح - لأول مرة - وجهة نظره كاملة فى الرواية. فقال إنه يريد الكشف عن الهدف الأساسى للبشرية، وهو البحث عن سر الكون، وحتى تستطيع البشرية الكشف عن هذا السر، تحتاج إلى التفرغ له والاستعداد، وهى لن تتمكن من هذا إلا بعد القضاء على استغلال الأغنياء للفقراء، والصراع بين الناس من أجل لقمة العيش. وأضاف: القصة تصور هذا الصراع المرير الذى تزعمه الأنبياء والرسل دفاعًا عن الفقراء وتهيئة العيش السعيد للناس أجمعين حتى يتفرغوا للبحث الأعظم، ولكن ما إن تنتهى الرسالة حتى يعود الأغنياء فيقبضون على زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلى العدل والرفاهية للجميع، ثم تدخل «العلم» بعد انتهاء الرسالات ليقوم بنفس الغاية وهى إسعاد الناس، ولكن المستغلين سخروا العلم لمصلحتهم أيضًا، وقتلوا رمزه فى القصة، إلا أن شخصًا آخر استطاع الهروب بسر الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح من أجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة .



الناقد الذى لم تذكر الصحيفة اسمه اعترض على ما قاله محفوظ معتبرًا أن «القصة لم تضف جديدًا، فهى فكرة قديمة، هى مجرد تسجيل لتاريخ البشرية بلا إضافة من الكاتبوبعد أقل من أسبوع من الانتهاء من نشر الرواية أجرى أحمد حمروش حوارًا مطولًا مع محفوظ نشرته «الجمهورية» . تحدث فيه محفوظ عن اندهاشه من الضجة ضد الرواية، وكرر ما قاله من قبل عن مقصده منها: هذه الرواية أقصد بها قصة البشرية.. وأبعد ما يكون عن ذهنى أن أكتب سير الأنبياء فى حارة، ولكن أود أن أبلغ الرجل العادى أنه حتى لو كانت حياته فى حارة، فإن الظروف تقتضيه أن يقتدى تمامًا بما يفعله النبي.. أى نبي.



سأله حمروش: ولكنى سمعت يا نجيب - وأنا لم أقرأ الرواية بعد - أنك أظهرت الشخصية التى تمثل نبينا محمد وهى تدخن الحشيش؟



أجاب محفوظ:



هذه الشخصية ليست محمد فى ذاته، وهى ليست النبى الذى ندين بديانته، ولكنها «إنسان» فى الحارة.. وإلا فقل لى هل كان واجبًا أن نحرق «كليلة ودمنة»، والحيوانات فيها ترمز إلى البشر.. والكلب فيها يرمز إلى «الوفاء» رغم أنه «يهوهو» وأنه كلب.



فى الحوار تحدث محفوظ عن انتهاء المرحلة الواقعية التقليدية فى إبداعه:



هذا ليس نتيجة التفكير الفني، ولكنه نتيجة تغيير الشخص نفسه، كنت فى الماضى أهتم بالناس وبالأشياء.. ولكن الأشياء فقدت أهميتها بالنسبة لي، وحلت محلها الأفكار والمعاني،لم تكن أفكار الرواية، وأسئلة محفوظ داخل النص هى فقط ما يشغل الوسط الثقافى وقتها، طرح البعض سؤالًا هامًّا: هل نُشرت الرواية كاملة فى «الأهرام»، أم تعرضت للحذف؟ وهو الحذف الذى أشار له سليمان فياض من قبل فى مقالته بمجلة «الشهر»؟



ملك إسماعيل حاورت نجيب محفوظ فى «المساء» ، وسألته: روايتك الأخيرة «أولاد حارتنا» التى كانت تُنشر فى «الأهرام»، لماذا لم تستمر فى نشرها حتى نهايتها؟ صمت محفوظ قليلًا، وابتسم قبل أن يجيب: «إزاى الكلام ده؟ أنا نشرتها لآخرها بس القراء لم يفهموها، ولما تطلع لهم فى كتاب ويقرأونها على بعضها ستزيد قوتها ويتأكدون أننى أكملتها للآخر فى الأهرام»! استمر محفوظ يدافع عن روايته، واستمر اهتمام الوسط الثقافى والصحفى بها، فمرة أخرى تعود مجلة «الإذاعة» لتسأل محفوظ فى تحقيق بعنوان: «الجديد الذى أحلم بتحقيقه»، شارك فيه عدد كبير من الأدباء والفنانين، من بينهم: محمد عبد الوهاب، وأمينة رزق، وصلاح جاهين. قال نجيب محفوظ: «حلمى أن أترك الأدب وأعيش مرتاح البال فى مزرعة أعمل بها بعيدًا عن ضجيج المدينة وأهل المدينة». ولكن محرر المجلة لم يترك محفوظ، وذهب به بعيدًا عن طبيعة التحقيق.. فسأله: «أنت مثلًا كنت تسير فى كل رواياتك وقصصك ككاتب واقعى طبيعي. يصف ويحلل. ثم ظهرت لك فجأة آخر رواية كتبتها «أولاد حارتنا»، وكان لونك فيها يختلف تمامًا عن واقعيتك التى عرفناها عنك فى كل قصصك، كانت «أولاد حارتنا» رواية رمزية، تناولت فيها شخصيات صغيرة ورمزت بها إلى شخصيات خطيرة أنت تقصدها؟



فرد محفوظ: «أبدًا، أنا لم أرمز إلى شخصيات كبيرة، أنا قصدت الرمز من خلال هذه الشخصيات الصغيرة إلى أفكار كبيرة، فبعض الشخصيات رمزت بها إلى التفكير الديني، وبعضها إلى التفكير العلمي، لأصور أفكار العصر الذى نعيشه، ونعيش قلقه، وأنا أعرف فترة القلق النفسى والخوف التى يعانيها الفنان قبل أن يقدم على تحقيق فكرة جديدة أو حلم جديد. أما ما هو الجديد الذى أريد أن أكتبه بعد «أولاد حارتنا» فأرجوك يا عم. انت عاوز تودينى فى داهية». لم يتوقف تقريبًا الجدل طوال سنوات الستينيات حول الرواية، ولم يتوقف نجيب محفوظ عن الإدلاء برأيه بين الحين والآخر، سواء فى حوارات صحفية أو مقالات نقدية، وكان أكثر التأويلات وضوحًا وتماسكًا ما كتبه فى مقال لمجلة الكاتب (فبراير 1964) تحت عنوان: «اتجاهى الجديد ومستقبل الرواية» . كان المقال تعليقًا على تصريحات الروائى الفرنسى آلان روب جرييه بأن الرواية «استنفدت أغراضها ولم يعد هناك من مجال أمام الروائى سوى الشكل». رغم اتفاق محفوظ بأن الرواية «طرقت جميع الميادين، التى يمكن أن يتصورها الإنسان. تناولت الفرد والمجتمع والأسرة، وتناولت الشوارع والمدن، بل والقارات. بل إنها تخطت القارات ككل لتصعد إلى الكواكب. وما من عاطفة بشرية إلا وكانت موضوعًا مكررًا للرواية لفترات طويلة». إلا أنه يرى ألا نتخذ هذا الرأى حجة ندفن بها الرواية وإلا كنا مطالبين بأن «ندفن بها الأدب كله، بل وجميع الفنون الأخرى»، بحكم أنها تناولت كل المواضيع الممكنة. من هنا، فالحكم على الفن، فى رأى نجيب محفوظ، لا يرتبط بجدته وإنما بالوظيفة التى يؤديها فى «تعميق الحياة وإثرائها بالتجربة»، وبما يحققه من «متعة وفائدة»، تنهضان كمعيار نُظر فى ضوئه إلى التراث الفنى للإنسانية كلها.



ويذهب إلى أن البحث عن تكنيك جديد للرواية قد يكون شيئًا مهمًّا للكُتَّاب فى أوروبا نظرًا لظروف العصر، ولكن بالنسبة له شخصيًّا فهو عمل دائمًا على الموازاة بين التقنية والانشغالات المجتمعية والفلسفية:



حين كنتُ مشغولًا بالحياة ودلالتها، كان أنسب أسلوب لى هو الأسلوب الواقعى الذى قدمت به أعمالى لسنوات طويلة. كانت التفاصيل سواء فى البيئة أو الأشخاص أو الأحداث على قدر كبير من الأهمية... أما حين بدأت الأفكار، والإحساس بها يشغلني، لم تعد البيئة هنا، ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها. الشخصية صارت أقرب إلى النموذج أو الرمز، والبيئة لم تعد تُعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يُعتمد فى اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية.