عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
برهان شاوى لـ«الأهرام»: الواقع أكثر عرياً من لغتى
10 أغسطس 2018
البهاء حسين;


يبحث برهان شاوى، الروائى العراقى المقيم فى ألمانيا، عن ضالته بالسرد. يبحث عنها فى الجنس وفى التصوف.. فى الطين وفى السماء، ويعلن النتيجة دون مواربة.



هو لا يفعل شيئاً أكثر من أنه يحدق دون وجل فى بئره وآبار الآخرين، ليحصى ما يخفيه القاع من ظلمة وتنهدات. شاوى أدمن التنقيب حتى تحول إلى علامة استفهام تحنى رأسها خلف كل سؤال. وهو يعتقد أن أقصر إجابة نعرف بها أنفسنا أن نراها عارية، بل يجزم أن جسد كل منا هو حقيقته.



شاوى، 63 عاماً، يتعقب الحيوات المنتهكة. إنه لا يكف عن وضع أبطاله فى التجربة، لأنه، قبل غيره، قد اكتوى بالمعاينة. والكتابة عنده تبدأ من الجسد، لكنها لا تنتهى به. يهيمن الجسد، فى «متاهة آدم» مثلاً، على العمل بأسره، حيث تسوق الرغبة أصحابها إلى حتفهم، لكن يظل الجسد مدخل شاوى للمعرفة، بينما الروح غايته. كأن جسد الإنسان سؤال وروحه إجابة.



والحاصل أن عدوى الأسئلة طالت أبطاله. رسم شاوى أكثر من مائتى شخصية فى متاهاته (آدم، حواء، قابيل، الأشباح، إبليس..إلخ) كلهم لا يكفون عن استقصاء أنفسهم من كل زاوية، كأن كلاً منهم، مثل برهان شخصياً، يعيش ليسأل. وكم أسعدنى أن أجده خالياً من الادعاءات.



هو يعرض نفسه وبضاعته ببساطة مدهشة، مع أن يديه أمسكتا بأكثر من أفق. لقد تورط الرجل فى المعرفة.. فى الحيرة ويريدنا أن نتورط معه. وبدورى لبست حذاءه، لأجسّ قلقه، ومن ثمّ قلت له: أنت تكتب بانفلات، بلا مراعاة لأى شيء..أهو سعى للصدام مع القارئ أم لصدمته؟ وهو، بعد أن مسّد شاربه أجاب: أرجو ألا يزعجك اعترافى بأننى أنفى القارئ من رأسى عندما أكتب. لا أفكر فيه على الإطلاق، بل فى الشخصية التى أكتبها، حتى لو لم أرض عن سلوكها. وهنا ينشأ الصراع بينى وبين نفسى وبينى وبين هذه الشخصية..هل أتدخل أخلاقياً أم أتركها على سجيتها. ولأن هؤلاء أشخاص حقيقيون، ربما لذلك جاء نبضهم قوياً، وحكاياتهم، من فرط واقعيتها، جاءت صادمة. على كل أنا الآخر ممتلئ بالضجيج، والكتابة تخلصنى من عقدى وشكوكى. وأنا أريد أن أفكر وأن أكتب وحدى لا أريد أن أقحم شرطياً اسمه القارئ فى رأسى.



> لكن يبدو لى أن الجنس فى عالمك تيمة مقصودة لذاتها، كأن كلاً منا، كما تقول، لا يمكن أن يفهم نفسه إلا فى السرير؟

كل الأقنعة تسقط فى السرير، حيث نكون عراة..على حقيقتنا، لأن هذه اللحظة غريزية. تبرز فيها الـ «أنا» بكل تجلياتها، بلا زينة. وأنا أحاول أن أدخل إلى أعماق الشخصيات من هذا الباب، لأكشف نوازعها.



> ألم تفرط فى استقصاء العورات، وفى اللغة غير المحتشمة، كأن مهمة السرد أن يكتب الواقع كما يحدث، فى بث مباشر للرغبات البهيمية؟

أنا أعتقد أن أى محاولة لستر هذا الأمر هى مجرد غطاء، لأن ما يحدث هو هذا. أنا لم أكتب سوى الحقيقة، لإيمانى بأن الجنس هو مفتاح لفهم الشخصيات..هو الدينامو المحرك للبشر. الإنسان جبل ثلج قمته الظاهرة هى وعيه وأعرافه الاجتماعية، بينما قاعدته هو اللاوعى المؤثر. والعصب الأساسى فى هذه القاعدة هو الجنس. أما الحشمة فهى مفهوم أخلاقى، وأنا لا أخلاق لدى فى الكتابة. عندما أكتب أذهب مع الشخصية إلى أبعد نقطة. وشخصياتى ليست سوية. أحياناً لا أكون راضياً عن لغتها، لكنى أكتب الكلمات كما ننطقها فى الواقع، لأنه لا يوجد لها بديل. ولا أريد للغتى أن تكون محجبة.



> ما الذى تسعى إليه من وراء السرد؟

الإبداع لحظة جمالية أحب أن أعيشها. ثم إن همى الأساسى هو أن أفجر الأسئلة. ليست لدى رسالة ولست مصلحاً اجتماعياً ولا أريد أن أغير العالم. كل ما أريده أن أجعل القارئ يشك ويطرح الأسئلة. أن يقلق معى ويلتقط ما يفوتنى.. ما لم أنتبه إليه أنا.



> الكتابة تطهرنا فعلاً دكتور شاوى؟

التطهير يأتى مرحلياً. الشاعر، قبل أن يكتب القصيدة، يشبه المرأة الحامل حين تتوحم إلى أن تأتى لحظة الطلق وتأخذ الكتابة مجراها. ومع آخر سطر فى القصيدة، مع نزول الجنين وشعورك بفراغ جوفك وأنه لا يمكنك أن تضيف شيئاً، وقتها يكون التطهر قد اكتمل.



> من أى عقد خلصتك الكتابة؟

ما زالت أسئلتى كما هى. أتخلص من عقدة، لتولد أخرى



> علامة الاستفهام..أهى سؤال أم إجابة.. كلمنى عنك فى حيرتك؟

لا إجابات عندى على أسئلتى. أنا أسأل بإخلاص وأحرض القارئ عسى أن يشاركنى حيرتى. ربما، بنهاية الجزء التاسع من المتاهات «متاهة العدم العظيم» أكون قد وصلت لإجابة نهائية أننى من اللأدريين. لأننى فعلاً لا أدرى. كل الأسئلة أجبت عنها بأننا نعرف الوجود لكننا لا نعرف العدم! خذ الأديان مثلاً.. تقول لك «إن الله خلق العالم. على رأسى».. لكن ما الذى كان قبل لحظة الخلق. العلم يقول إن الكون تشكل من الانفجار الكبير الذى كان قبل 15 مليار سنة. لكن ماذا قبل ذلك. هذا السؤال هو الذى يقلقنى. وقد مر بكثير من المتصوفة والفلاسفة ووصلوا فيه إلى إجابة تشبه اللأدرية. توما الإكوينى مثلاً يقول نحن لا ندرك الله، لأن الشيء المدرك يجب أن تعرفه. و»كانت» يقول إن المعرفة تتأسس من ملكة الحواس وملكة الفهم. ملكة الحواس تستقبل الأشياء وتوصلها لملكة الفهم والأخيرة بدورها تعيد صياغتها وتجردها ومن ثم تطلع بالمقولات أو المعرفة، والمقولات هنا حدسية وواقعية، وبالتالى يجب أن يكون ما تريد أن تحلله ملموساً، والله...



> مقاطعاً برفق.. الأسئلة لا تكف عن التناسل يا دكتور.حتى لوعرفنا ما كان قبل الانفجار لن نعدم التساؤل عما كان قبل القبل. القضية هى أنك مؤمن أو غير مؤمن، إذا كان الشك واليقين يتقاسمان قلبك لن تصل.

ثم واصلت فكرتى والدكتور برهان ينصت كأنه يبحث معى عن الشيء نفسه: نحن نلمس الله فى مخلوقاته. هو «رعشة ودمعة لطيفة» بتعبير كازنتزاكس..أى أن معرفتنا به تنبع من داخلنا. ثم إنه لا يمكننا أن ندرك ذات الله، لو أمكننا ذلك لصار الله، كما يقول أحد الصالحين، «مقدوراً عليه». وكيف يكون إلهاً يا صديقى هذا الذى يمكننا أن نلمسه كما نلمس أى شيء. وما قيمة الإيمان إن لم يكن إيماناً بغيب. تعرف.. أول صفة زكى الله بها المتقين فى القرآن أنهم «يؤمنون بالغيب»، أى أن الإيمان عن ظهر قلب هو أول شيء يطالبنا به، لنصل إليه. عندما تؤمن بالغيب ترتفع فوق حواسك، تجرب ما وراء الحواس. العقل يجعلك تؤمن بما ترى فقط.. معنى ذلك أن رؤيتك ستظل محددة، ومحدودة، بعالم الشهادة، هناك النصف الآخر.. عالم الغيب تؤمن به بقلبك، وقتها ستلمس الله كلما ذكرته.



وكما كان شاوى هادئاً وهو يسمعنى، هو وملامحه كانا ساكنين تماماً، لأن انتصاره الشخصى أن يعرف لا أن يغلب، أن يجد الحقيقة حتى فى فم خصومه، لذلك قال بهدوء أيضاً: هنا أحيلك إلى إسبينوزا الذى يقول: الكون هو نفحة الله. هو إرادته.. أحد تجلياته..



> أنا أريد أن أسمع ما تقوله أنت؟



الله موجود فى كل شيء، خذ مثال « الجسر» عند إسبينوزا جميل جداً.. يقول لو أتينا بالحديد والخشب والمسامير وكل المواد الخام الأخرى وجاء المهندسون ووضعوا الخطط والقواعد وضبطوا الزوايا..إلخ، ثم انتهوا من عملهم. وقتها سوف نرى الجسر لكننا لا نرى القوانين الهندسية التى أقامته. إرادة الله هى قوانين هذا الكون، ونحن نرى الله فى القوانين التى لا نراها.



> إذن إلى أى حد تتنازع الأضداد قلبك، كما هو الحال عند أبطالك؟



أنا مؤمن بعمق، لكنى أسعى لتجسيد هذا القلق الذى يسكننا. قلق التناقضات



> من من أبطالك يشبهك؟



لست موجوداً فى بطل بعينه وإن كنت موجودا فى الجميع. أما القاسم المشترك بينى وبينهم فهو الأسئلة.



> هذا التماهى بين الواقعى والمجازى، بين المعرفى والفنى. كيف تمرره بسلاسة، ليحمل أفكارك؟

إذا اعتبرنا الحدس شكلا من أشكال المعرفة فأنا أعتمد عليه. أنا أبتعد عن المؤدلج. مررت بتجارب فكرية وفلسفية وأحاول أن أرى هذه التجارب من خلال الشخصيات. فى «استراحة مفيستو» أتيت على هؤلاء الذين امتهنوا السياسة وأصبح النضال بالنسبة لهم مهنة. هؤلاء أعيش فراغهم حين يتوقفون عن ممارسة نشاطهم. وقد أعتمد على الحدس وعلى ما أستمده من الشخصية الحقيقية التى تحكى لى تجاربها. حتى الحوارات بين الشخصيات أحياناً أقتبسها نصاً من أفواههم. ربما لا تعرف أننى درست الفيزياء الكونية 4 سنوات. الفيزياء بمعناها الرومانسى الروحانى؛ أى الكون وأشياؤه وليس التفاصيل الرياضية. هناك نظريات فى هذا العلم تتحدث عن العوالم المتعددة والمتوازية وقد ساعدنى ذلك على إقامة عالم محسوس للروح فى السرد.



> بعد تجارب، ودواوين، مع الشعر، أخذتك نداهة السرد. كيف يمكن للكثافة أن تجاور الإفضاء؟

كلنا نعرف مقولة النفرى «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». هذه المقولة تلخص الشعر. هو كثافة كما تقول، أما فى الرواية فتتفجر العبارة والتفاصيل كلما اتسعت الرؤية. مع ذلك لست نسيجا وحدى فى هذا الأمر. هناك أسماء كبيرة فى الرواية العالمية جمعت بين الشعر والرواية. هناك بوشكين وهيجو وإميل زولا الذى بدأ شاعرا، بازولينى، بول إستر، ميلان كونديرا. علاقة الشعر بالرواية ليست غريبة، ناهيك عن أن الشعر العربى يقوم أصلا على السرد. خذ امرأ القيس، لبيد العامرى، عمر بن أبى ربيعة، المتنبى، و «أبو نواس» كل شعرهم قصص...



(مقاطعاً كأننى أغطى انسحابى).. ومن آباؤك من الساردين؟



تولستوى، تشيكوف، ستاندال، إميل زولا، شكسبير، دانتى، نجيب محفوظ...



> على ذكر نجيب محفوظ..ما الذى يبقى منه؟

هو الحكاء العربى الأول. أفضل الحوارات تجدها عنده. ثم هناك شخصيات فنية تجاوزت كتابها واستقلت مثل: هاملت، آنا كارنينا، مدام بوفارى، دون كيشوت. هؤلاء صاروا أشهر من مؤلفيهم. نجيب ترك لنا «سى السيد».



> بإيجاز..كيف ترى هؤلاء..الطيب صالح؟

كاتب كبير..تكفيه الأصالة



>عبدالرحمن منيف؟

نجيب محفوظ هو هرم الرواية الأكبر ثم تليه هذه القامات الكبيرة.. الطيب صالح، الطاهر وطار، عبدالرحمن منيف، حنا مينة.



> وماذا عن أبناء جيلك..إبراهيم عبدالمجيد؟

أحبه كثيراً..بالذات روايته.. "فى كل أسبوع يوم جمعة"



> واسينى الأعرج؟

أحب رواياته القديمة.



> قل لي: نبرة الخطاب السياسى فى «متاهة آدم» زاعقة. هل أردتها وثيقة إدانة فنية ضد صدام حسين وعصره؟

أنا لا أكتب الرواية السياسية، لكن عندما أتحدث عن لحظة تاريخية لا بد أن تكون السياسة حاضرة، لأن مصائر الناس، فى عالمنا العربى، يحددها النظام الحاكم. فى متاهة آدم أؤرخ للعراق، بعد نهاية الحرب مع إيران وبداية الحصار، وقد أدنت هذه المرحلة، لكن دون انسياق وراء مواقفى. عندما أزيح صدام ونظامه وجاء الاحتلال الأمريكى وجاءت معه حكومة جديدة أدنتها على نحو أشد فى «متاهة حواء» و «متاهة قابيل». كل ذلك عالجته وفق رؤية معرفية لا سياسية.



> وجود السياسة فى العمل الفنى شيء لا بد منه على ما يبدو، كالملح، لكن كتم الصوت هو ما يجعل العمل رواية لا مظاهرة؟

فى «متاهة آدم» لم يكن هناك بديل غير أن تحضر السياسة بهذا الشكل.



> العراق والعراقيون..أهم كتلة من العقد كما تقول؟

(بعد ضحك خفيض يشبه البقبقة) البشر كلهم عقد. أنا أنتمى لما بعد الفرويدية والشخص السوى فى نظر هذا التيار هو المعقد...



> يونج يقول: دلنى على شخص وحيد سوى، فى العالم، وأنا كفيل بشفائه؟

السوى الوحيد فى نظر التحليل النفسى هو المجنون. لأنه يعبر عن نفسه دون قيد



> هل أصبح قدرا أن يكتب حاضر العراق ومستقبله، كما كتب ماضيه، بالدم؟

قدره العنف، أحيانا أقول: هذه بلاد الظلمات..عليها لعنة. لا تنس أنها منطقة سهلية، ومن ثم كانت ممراً لكل الحضارات وكل الجيوش وكل الغزاة. ورغم أن العراق أنتج عدة حضارات إلا أنها حضارات عنيفة كل واحدة تمحو أختها، ثم إنها حضارات طينية..هشة..أى فيضان من دجلة كفيل بتذويبها.



> الدم إذن هو إرث المحو؟

إرث الطين والعنف. عبدالرحمن منيف فى روايته الأخيرة «أرض السواد» تحدث عن الشجن العراقى الذى يأتى من غرق الزرع حين تفيض الأنهار فى الصيف وفى الربيع، ولم تكن هناك سدود فى الماضى يمكن أن تنقذه. وقد تجلى هذا الشجن فى الأغانى. والشخصية العراقية بطبعها، كما يقول على الوردى، عنيفة..تحب بعنف وتكره بعنف..



> ماذا تركت أمريكا للعراق؟

الخراب.



> أكان ذلك شيئا لا بد منه؟

كان الخراب مقدرا. العراق خاض حربا مع إيران لمدة 8 سنوات وبعدها مرّ بحصار 10 سنوات وكان مهيأ للخراب. لم تكن هناك سلطة كان هناك شخص. وكان وجود السلطة بالنهار فقط، أما بالليل فكانت تختفى..لم تكن هناك حكومة ولا دولة. كان العراق على حافة الانهيار، وهو ما أوجد حالة جعلت الناس يطلبون الحل بأى شكل وكانوا مستعدين لتقديم أى شيء يجعلهم يتخلصون من صدام. الآن يترحمون عليه!



> ما العلة..أن تبكى على جلادك؟

سؤال الحرية سؤال عويص. إريك فروم فى كتابه «الهروب من الحرية» يطرح السؤال المركزى..ليس مهما أن تتحرر من، إنما أن تكون حرا فى. بمعنى أن المرأة قد تعيش حياة معقدة مع زوج يضربها ويهينها وعندما تنفصل عنه لا تستطيع أن تعيش مرحلة ما بعد التحرر كامرأة مطلقة، لأن ضغوطا أخرى تبدأ..اجتماعية ونفسية وشائعات..إلخ، نحن تحررنا من صدام، لكن لم نستطع مواجهة تبعات الحرية.



> هذا هو المأزق المشترك فى تجارب الربيع العربى؟

أنا لدى حساسية مفرطة تجاه مفردة الربيع هذه. لم يكن ربيعا.. الربيع يزهر، وهذه هبّات بلا زهر.



> هل يمكن أن تكون هناك ديمقراطية فى العالم العربى؟

لا أرى فى الأفق سوى عتمة



> وماذا عن ربيعك أنت.. أقصد طفولتك؟

كانت علاقتى بأبى وأمى طيبة. كنت الولد المدلل بعد 12 ابناً. أمى، السيدة التى لا تقرأ ولا تكتب، كانت طيبة جدا، وقيل لى إننى ولدت بعد أن افتقدت العائلة، مع ذلك كان أبى رجلا كريما. كان إذا جاءنا ضيف يستدين، ليعطى الضيف حقه. وكانت أمى حين تطبخ تعطى أول طبق لجارتنا. كانت تقول لى..خذ اعطيه لفلانة ربما تكون هى وبناتها شموا رائحة الطعام.



> ماذا ورثت منها؟

العفوية.



> وما مفتاح شخصيتك الرئيسى؟

الرحمة.



> والشيء الذى لا تحبه فى برهان شاوى؟

ثقته بالناس.



> ومركب نقصك؟

ثقتى بالناس هى نقطة ضعفى وقوتى أيضا.



> مع من تضع نفسك.. العباقرة أم أصحاب الدأب؟

ربما كنت دءوبا. لكنى لا أريد أن أكتب شيئا عابرا.



> إذن تحب الخلود؟



الخلود لا يعنى شيئا. أنا أحسد نزار قبانى الذى عاش خلوده قبل موته.



> ما موقعك من الشعور بالعظمة؟



العظمة ليست دائى.



> كيف هى علاقتك بالكتابة والنوم؟

أنام قليلاً، نومى خفيف وأكتب يوميا من 10 إلى 14 ساعة. عندما تكون هناك شخصية ما تعيش فى بلد معين أسافر إلى هذا البلد وأستقصى أحوالها. فى «متاهة إبليس» هناك شخصية حواء ذات النورين التى استخرجتْ، فى الحقيقة، جواز سفر مزوراً وسافرتْ إلى فلورنسا. عندما أردت الكتابة عنها اقتفيت آثارها وبقيت هناك لمدة شهر أعايش كل ركن مرت به، وعندما باشرت الكتابة كانت، هى وأماكنها، حاضرة فى مخيلتى.



هل أنت متفائل. أتساءل عن مستقبل الكتاب الورقى أمام هذا الاختطاف التكنولوجي؟

فى كل مرة جرى فيها الكلام عن وسيط جديد قد يزيح آخر قديماً، ثبت أن كل الوسائط تتجاور. كان هذا هو حال المسرح لما ظهرت السينما.. إلخ ربما كان تأثير المواقع الإلكترونية أقوى على الجرائد، لكن بالنسبة للكتاب هناك.. فى بلد مثل ألمانيا أكثر من600 دار نشر وواردات المنتجات الثقافية من 3 إلى 5 مليارات يورو سنوياً. وأنا شخصياً عندما أنتهى من عمل لا أرتاح إلا إذا قرأته مطبوعاً على ورق.



> جنسيتك الألمانية..أهى بطاقة أم هوية؟

أنا فى ألمانيا منذ 36 سنة، لكنى أفكر وأكتب وأتصرف باللغة العربية.



> كلمنى عن صدمتك الثقافية..فيم تفترق عن صدمات الآخرين؟

لم تكن صدمتى بهذا العنف الذى حصل لرفاعة الطهطاوى مثلاً. ثم إن صدمتى وقعت فى رأسى. يمكنك أن تسميها صدمة فنية.. بمعنى أننى كنت أبحث عن الأماكن التى دارت فيها أحداث الأعمال التى قرأتها وعند رؤيتها أفزعنى التغيير الذى لحق بها. وكان هناك عائق اللغة..أن تتعلمها وتحس بها.. عندما كنت أقرأ قصيدة لبوشكين بترجمة حسب الشيخ جعفر، قبل أن أترجم بدورى عن الأدب الروسى، كنت أرى فيها قصيدة جميلة، لكن الأمر اختلف حين عرفت اللغة الروسية..عالمان مختلفان تماماً. الترجمة قراءة للنص بلغة أخرى، لكنها ليست النص نفسه.



> هل ثمة صراع أم تكامل بين الألسنة أو اللغات الكثيرة التى تجيدها؟

كلاهما..صراع وتكامل. أنا ترجمت 7 كتب، مع أنى لست مترجماً محترفاً، لكن عقب ترجمتى مثلاً لبرودسكى عن الألمانية والروسية ظللت سنة كاملة لم أكتب حرفاً، لأنى استصغرت أى شيء قد أكتبه.



> بعد أن تلاشت الحدود والثنائيات.. كيف ترى هذه الشذرة من الزمن..حاضرها ومستقبلها فى علاقة العالم بنفسه؟

العولمة أزالت الحدود. ما نشتريه مثلاً من أوروبا والغرب يتم إنتاجه فى تايوان.. فى أقصى الشرق. وسائل الاتصال حولت العالم إلى قرية صغيرة..أعطتنا امتداداً لحواسنا. الستالايت الآن هو عيننا الكونية. أنت ترى ما يجرى فى البيت الأبيض بشكل مباشر. لم تعد هناك مسافات ولا حدود ولا رقابة، وبالتالى لم يعد الشرق شرقاً ولا الغرب كذلك. هناك أكثر من 40 إلى 50 مليون شرقى موجودون فى أوروبا.



> إذن التقى الشرق والغرب عبر الشاشة.. فى الفضاء الإلكترونى؟

بالطبع، لأن نسبة الالتقاء فى العالم الواقعى ستظل محدودة. ربما تتسع مع الأجيال التى ستولد هناك. جيلنا المقيم فى أوروبا أخذوا بلدانهم معهم. المصريون يشاهدون القنوات المصرية وهكذا بالنسبة لغيرهم. كنت بالأمس أحكى عن فيلم لمخرج تركى اسمه فاتح أكين يتكلم فى فيلمه «42 مترا مربعا» عن عامل تركى رجع إلى بلده وتزوج من الريف وجاء بها من المطار إلى شقته فى ألمانيا ومنها عادت إلى موطنها ميتة فى صندوق. هى لم تر سوى ألمانيا الـ « 42» م! نحن العرب هكذا فى الخارج.



> ما الذى أعطته لك ألمانيا؟

الأمن.



> والعراق؟

الذاكرة.



> كيف تتعامل مع الحنين؟

أنا أتعامل مع الذاكرة. كونى أتذكر هو الحنين. حتى أبطال طفولتى ما زالوا معى. ذاكرتى كلها معى فى المنفى.. هى منبع كل شىء.



> أهى منبع أم عقاب؟

إذا كانت طيبة فهى نبع عذب، أما إذا كانت كوابيس فسوف تتحول إلى عقد تلاحقك. كفافيس كان يقول..إلى أى ناحية فى المدينة سوف تتجه إذا كنت قد خربت زاويتك. ذاكرتنا، بكل أسف، خرابة لا يتصاعد منها غير الدخان، لم نترك وراءنا سوى أنقاض، مع ذلك ليس أمامنا سوى أن نتعامل بشفقة مع الماضى حين نود أن نسترجعه.



> هناك كثيرون يتراسلون من خلالك..الصحفى والشاعر وأستاذ الجامعة ودارس الفيزياء والسينما..إلخ.. إلى أى حد أفاد الروائى منهم؟

أفدت من السينما هذه المشهدية التى أحاول رسمها. هذه الصورة البصرية. أنا لا أهتم ببلاغة اللغة قدر اهتمامى ببلاغة الصورة وحركيتها. ربما لذلك لا أستخدم الأفعال الماضية، بل المضارعة، كما أنى أهتم بالمكان. ثم إننى أمنتج الفصول، بخبرة هؤلاء جميعاً، لأن كل واحد منهم لا يعمل بمعزل عن الآخر.



> هل تخاف الموت؟

كلنا نخاف الموت. هو الحقيقة الوحيدة فى الحياة. التجربة التى لم نجربها!



> ما الذى تريد أن تنجزه قبل طلوع الروح بعد عمر طويل؟

أن أجد السكينة.