عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
كبرياء الأهلى .. وكرامة الأهرام
10 يوليو 2018
◀ صلاح سالم


الأمم ليست أجسادا صلدة أو كتلا مصمتة، بل تكوينات حضارية تصنعها ثقافات، مثلما تتبلور فى مؤسسات وكيانات، تعطيها المعنى وتمنحها الشخصية. وإذا كانت مصر قد تمتعت بالشخصية الأكثر عراقة فى التاريخ، وثراء فى التركيب، فإن ثمة كيانات انعكست عليها تلك الشخصية أكثر من غيرها، فصارت مثل بصمتها الوراثية، أحد أسرار عبقريتها. فالأزهر الشريف، مثلا، هو المؤسسة التى رعت وسطية الإسلام، وصاغت نموذج التدين المصرى المتسامح. وجامعة القاهرة، هى المنارة التى تشكلت على أساسها حداثتنا، حيث درس فيها ودرَّس بها جل رموز الاستنارة المصرية. ومؤسسة السينما، ضمن الفن المصرى عموما، مثلت دور النافذة التى نفذ منها شعاع نمط الحياة المصري. أما الأهرام فلم تكن مجرد صحيفة بل مؤسسة طليعية احتضنت رواد الفكر والإبداع الذين أسهموا بقوة فى صوغ المجال الحيوى للعقل المصري، وتحديد نمط اشتغاله. وأخيرا يأتى النادى الأهلى الذى نشأ قبل المائة وأحد عشر عاما، كناد فى قلب حركة وطنية. امتلك شخصية حكيمة كشخصية مصر، وقاعدة كبيرة بامتداد أرضها وانتشار أهلها. صنع تاريخا رياضيا حافلا يشبه تاريخها العريق، ولعب دورا ملهما فى محيطها العربى يوازى دورها السياسى والثقافي. فكما نجد أحزابا (ناصرية) فى بلدان عربية عديدة بعضها أقوى فى بلاده من قوة الناصريين هنا، حملت أندية عديدة فى سبعة بلدان عربية تمتد من السعودية فى الشرق إلى ليبيا فى الغرب، اسم الأهلى تيمنا به، حتى كان الأشقاء يلقبونه بـ »الأهلى الكبير« قبل أن تتغير الظروف والأحوال، فيكتفون بتسمية «الأهلى المصري».



تراجعت، للأسف، جل هذه المؤسسات بتدهور أحوال مصر عبر العقود الأربعة الماضية، فيما بقى الأهلى وحده فى حال تصاعد وارتقاء، مجسدا شخصيتها فى أرفع درجات حضورها، حتى بدا وكأنه العنوان الباقى لها من حقبة شموخها حينما كانت قائدة لحركات التحرر القومي، إذ لا يزال حضوره الطاغى على المستطيل الأخضر يشبه حضور سيدة الغناء العربي، المفعم بالرقى والشموخ على مسرح الأوبرا القديمة أو دار سينما قصر النيل، حيث الفن الكلاسيكى الرفيع، وليس الفن الرقيع الذى يحتفى بالحمار ويغنى للبلح والعنب. ولا تزال انتصاراته وبطولاته تفرض حضوره على منصات التتويج القارية، مشاركا فى الأعراس العالمية، حيث استحال فريق الكرة به، وهو رأس رمحه وموطن كارزميته، سيدا للقارة فى القرن العشرين، وما مضى من الحادى والعشرين، بل كان الفريق الأكثر تتويجا فى العالم حتى سنوات قلائل. والسؤال الذى يلح علينا هنا: لماذا كان الأهلى وحده يزداد تألقا فيما تزداد مصر تدهورا؟.



يكمن السر فى بنية «الشخصية الأهلوية» التى تمكنت من تحقيق التوازن الصعب بين طرفى معادلة: العراقة ـ الحداثة؛ ذلك أن طول التاريخ قد يصير عبئا على الحاضر إن لم يجدد الحاضر نفسه بقيم العصر. ولا توجد مسالك لتجديد التاريخ سوى الحرية. ولأن الحرية غابت عنها طويلا، فقد ترنحت مصر كثيرا تحت وطأة الفساد والاستبداد, على نحو جعل تاريخها عبئا على حاضرها، وعراقتها قيدا على حداثتها، الأمر الذى مثل مدخلا لتفسخ شخصيتها. أما الأهلى فتأسس على قاعدة الديمقراطية حيث تتغير الإدارة بإرادة أعضاء واعين فى عرس انتخابى أسهم فى تمكين الأهلى من تجديد شخصيته. وقد ازداد هذا التأسيس الديمقراطى عمقا بفعل طبيعة التنافس الرياضى الذى يخلق «علاقة تفاعلية» بين اللاعبين والجماهير حتى أن هتاف المشجعين فى المدرجات «ياللا يا أهلاوية»، طالما تبدى كأمر صدر من الشعب إلى قيادته، فإذا باللاعبين وكأنهم حقا شياطين حمر، يتسلطون على المنافسين بكفاح نادر، ينعكس دوما فى تمثيل مشرف، ويتجسد غالبا فى نصر مؤزر، مع قليل من الإخفاقات تفرضها طبيعة المنافسة الكروية.



اليوم يعيش كيانان كبيران وأساسيان فى قائمة صناع القوة الناعمة المصرية، «الأهلى والأهرام»، لحظة تحد، أفرزتها تحولات الأزمنة والأوزان والأدوار فى الإقليم حيث بات سائدا التعالى على أهل الحضارة، بمظنة أن كل شيء من تاريخهم وقيمهم قابل للبيع، فإذا ما وجد المتعالون صدا واستنكارا أصيبوا بالدهشة والصدمة، فهاجوا وماجوا، محاولين تحطيم كل شيء. لقد انسحبت الشركة السعودية الراعية للأهلى من رعايته دون سبب واضح اللهم سوى محاولة التنكيل به، وكأن الأهلى هو من فاز برعاية هذه الشركة وليست هى من فاز به. كما نجد أن الشركة نفسها والمقربين فيهاوالضالعين خلفها، يشترون ناديا مصريا ثم يختلسون له اسم «الأهرام»، الذى لا يمثل فقط علامة تجارية بارزة، بل يمثل تاريخا وأثرا ومعانى لا يجوز لأجنبى أن يمتلكها. ولأن التحدى كبير بالفعل، والمقصود اليوم ليس الأهلى والأهرام فقط، كما لم يكن الفن المصرى وحده بالأمس، بل كل ما يجسد شخصية مصر، فالواجب على الدولة والمجتمع أن ينهضا بدورهما فى ردع العدوان، إذ يتعين على الدولة، بكل أجهزتها، مواجهة التغول على اسم الأهرام، واثقة أنها لا تدافع فقط عن كرامة إحدى مؤسساتها، بل عن شخصيتها ذاتها. أما المجتمع، مجسدا فى جمهور الأهلى الكبير، فيتعين عليه مساندة ناديه: معنويا بعدم الانسياق خلف الساعين إلى تصفية حسابات صغيرة مع الإدارة القائمة، بذريعة أنها التى فتحت الطريق لهذا المال، فالمؤكد أنها تصورته مالا محبا ومخلصا مثلما كان الأمر مع الشاعر الكبير والنبيل عبد الله الفيصل، الذى غنت له أم كلثوم فى عصر ريادة مصر، ولم تتصوره مالا متغطرسا يسعى للنيل من جسد مصر. وعمليا عبر التبرع بما يوازى قيمة عقد الرعاية (500 مليون جنية)، يمكن تحصيلها عبر الاتفاق مع شركة الاتصالات الراعية للنادى على تحصيل قيمة رسالة بعشرة جنيهات من جماهير لا يقل عددها عن خمسين مليون شخص. أعرف أن البعض منهم قد يصعب عليه التبرع بتلك الرسالة، ولكنى أعلم أن بعضهم يستطيع التبرع بعشر رسائل وأكثر، على أن يلتزم مجلس الإدارة بعدم إنفاق المبلغ على البنود العادية، بل على مشروع المدينة الرياضية وفى قلبها الملعب الكبير الذى يمثل حلما قديما للجماهير، على أن يجرى تسميته بـ «استاد الأهلوية» وليس الأهلي، امتنانا لذلك التبرع، وتجسيدا لتلك اللحظة التى تحول فيها مجرد الانتماء العاطفى لناد كبير إلى لحظة مواجهة دفاعا عن كيان وطنى عظيم.