عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
«أحمد عز» و«أمل بوشوشة» ثنائى رومانسى خفف من حدة التراجيديا دراما تسيطر عليها شهوة الانتقام وصناعة الإرهاب!
6 يوليو 2018
محمد حبوشة


نحن فى حالة حرب معلنة على الإرهاب، ومما لاشك فيه أنه من أسوأ الأشياء التى تعانى منها الدول حاليا، وهو فى تأثيره يوازى الاحتلال فى خطورته مع اختلاف أن عدوك أنت تعلمه جيداً، ولكن الإرهابى موجود فى كل مكان ولا يمكن تمييزه، وهو أمر فى منتهى الخطورة، هذا ما حاول مسلسل «أبو عمر المصرى» إبرازه ومعالجته فى سياق درامى وضعت له السيناريو والحوار «مريم ناعوم» فى محاولة من جانبها لإثبات أن العمل إرهاصات تنتصر للإنسان عبر ممكنات الوجود والحياة، فما لا تستطيع الحقيقة أن تقدمه تنتصر فيه الرواية والأعمال الدرامية، لكنها - من وجهة نظرى الشخصية - لم تقوى على معالجة صحيحة 100% تفضى إلى أنه أيا كان موقف البعض من الأشخاص فى السلطة لا ينبغى أن يكون الرد ضد بلدهم، فلا ينبغى أبدا أن تدمر كياناً كاملاً من أجل شخص، وتلك هى الرسالة التى أخفق المسلسل فى ايجادها بشكل واضح.





لا شك فى أن «عز الدين شكرى فشير» صاحب الروايتين اللتين تمت معالجة المسلسل على أساسهما أضاف من مخيلته بعض السيناريوهات والشخصيات على الأحداث الحقيقية، كما أنه ركّز على مرحلة تكوين الإرهابى، وعلى تبيان الأسباب المجتمعية والعقائدية التى تدفعه إلى اعتناق أيديولوجيات متطرفة، وعلى مساهمة النشأة فى بيئة فقيرة على فكرة البحث الدائم عن نظام اجتماعى عادل، حتى لو كان ذلك بقوة السلاح، ومن ثم فقد سلط المسلسل الضوء على قضايا اجتماعية عدة من خلال «أبو عمر المصرى»، فهو يتحدث عن أسباب مجتمعية تساهم فى تكوين الإرهابى، وربما أراد صناعة عدم قصدية التعاطف مع هذا الشخص الذى اختار الانتقام لأحلامه الوردية، تماما كما لا لم يقصدوا تجاهل وجود أسباب سياسية واجتماعية تدفع بعض الأفراد إلى التفكير فى الهجرة والانضمام إلى عوالم قائمة على العنف والانتقام فى إطار صناعة الإرهاب، لكنهم لم ينجحوا فى أن يزنوا الأمور بميزان دقيق لتقديم عمل يحترم عقل المشاهد، ففى النهاية لم يشعر المشاهد أننا بصدد التعرض لسيرة ذاتية لجهادى بالمعنى المتعارف عليه، بل إننا أمام قصة يختلط فيها الرومانسى بالانتقام مع ضرب القيم والقانون عرض الحائط، رغم أن البطل هو محام بالأساس كان يدافع عن حقوق المظلومين.



المسلسل باختصار يتحدث عن شاب حالم، تجبره حياة الفقر واليتم والظلم الاجتماعى على الهرب من واقعه نحو عالم جديد يعتقد أن العدل موجود فيه، لكنه يكتشف فى النهاية أنه هرب من مجتمع قاس إلى مجتمع أشد قسوة، وفى هذا الصدد نورد بعضا مما جاء فى دراسة حول «الإرهاب الدينى من منظور التحليل النفسى»، والتى يتحدث فيها «جيمس جونز» عن مشاعر الإذلال والحرمان والمهانة كعناصر أساسية فى عملية تحول الأشخاص الذين يختبرون مثل هذه المشاعر نحو العنف الدينى، كذلك الفكرة الدينية القائلة بالانفصال «الابوكاليبسى» للعالم إلى معسكرين للخير والشر، ما يعنى أن العالم كله فى حالة حرب وعليك دائمًا أن تكون معدًا لهذه الحرب، التمسك بهدف مثالى ومطلق تسقط دونه كل القيم، و»فخر» بطل مسلسل «أبو عمر المصرى» شخص رومانسى وحالم، يرى العالم فقط بالأبيض والأسود، عاش تجربة مريرة من المعاناة والإذلال انكسر خلالها حلمه المثالى وخسر حبه الوحيد، ربما هذا ما حدث مع فخر، كما يورد «جونز» على لسان أحد مدربى تنفيذ العمليات الإرهابية والذى يقوم باصطياد عناصر جديدة لمجموعته أن 90% من العمل تم إنجازه بالفعل عن طريق المعاناة التى مر بها هؤلاء الأشخاص فى حياتهم أما أنا فدورى لا يتجاوز 10%.



يحكى فخر على لسانه قائلا قصة تكشف الخط الرئيس فى المسلسل: «كان مرة فيه قط قاعد فوق السطوح فاكر إنه هيغير الكون، أصحابه قالوله لأ ماتنزلش، بس هو عنيد نزل الشارع ولقاهم كلهم كلاب قعدوا ينهشوا فيه ويعوروه»، إنه نوع من الإدراك الباطنى لقانون الغاب الذى يحكم العالم، وتمهيد للتحول الداخلى الذى سيصيب «فخر» وانحيازه إلى جانب القوة، قاوم السير طويلاً خلف منطق القوة، لكن كل طريق آخر فشل، فحين يلتقى بـ «حسين» الذى جسد دوره «منذر رياحنة» يحكى له ما أصاب الأهل والأصحاب فإنه يدق بذلك المسمار الأخير فى نعش «فخر الدين»، يصرخ القط كأنما يستغيث، يحمل فخر بيده القط ويلقى به خارج البيت، كما لو كان بذلك قد أحدث قطيعة مع حياته الماضية، وتخلص من ذاته القديمة، لن يكون قطًا بعد الآن، لن يكون خاسرا بعد الآن حتى لو خلق أوهاما لينتصر عليها، تلك هى فلسفته وذاك هو طريقه القادم معبد بأشواك لا قبل له بها، حتى يخيل لى أن «أبو عمر المصرى» هو النسخة الأحدث من «سعيد مهران» بطل «اللص والكلاب» للأديب العالمى «نجيب محفوظ» كلاهما رومانسى وحالم، يفشل كل منهما فى تحقيق العدالة حسب تصوره، تسيطر عليهما الآن شهوة واحدة هى الانتقام، لكن رصاصهما دائما ما يخطئ أهدافه الحقيقية، يطول طابور الضحايا ولا فداء، وفى النهاية يسأل «عمر ابن فخر» فى رواية عز الدين فشير والده: لماذا تصرف فى حياته وكأنه مسئول عن الكون محاولاً نشر العدل ودفع الظلم؟ هل كان ذلك غرورًا منه أم براءة زائدة؟.



الشيء الملفت فى سيناريو «مريم نعوم» هو أن القصة لا تدور على محور زمنى واحد، فلدينا محور الماضى، وهو المحور الذى تدور فيه أغلب أحداث المسلسل، أو بمعنى أدق هى الحبكة الدرامية التى يكون بطلها هو «فخر» ذاته، وكيف وصل إلى الحاضر الحالى، وأيضا هناك محور الحاضر الذى يهرب فيه مع ولده من الذين يلاحقونه فى قلب صحراء، والحقيقة أن تلك النقلة من خط زمنى إلى آخر، هى بمثابة كسر للملل إلى حد كبير، وربما جعلت المشاهد متحمسًا لما يحدث فى الخط الزمنى الآخر، وذلك كله خدم بلاشك فكرة أن المشاهد أصبح مشدودا حتى آخر حلقة، لأنه عندما ننتقل من خط زمنى إلى آخر، نكتشف العديد والعديد من الخبايا والصغائر الجديدة بالحبكة الفنية، ما يجعل النقلة الزمنية تلك عنصرًا مميزًا جدًا فى هذا العمل الفنى، والشيء الآخر الجيّد والذى يحسب أيضا لـ «مريم نعوم» هو أنه لا توجد أى حلقة لا تجعلك مشدودا للحلقة التى تليها، فكل حلقة يتم غلقها على وقفة قوية جدًا، مما يدفع المشاهد إلى التفكير وشغل الذهن لتخيل ما الذى سيحدث فى بداية الحلقة القادمة، وهل ستسير الأحداث كما تتوقع أم لا؟.



الشخصيات التى تدور حولها الأحداث جيدة من وجهة نظرى، فبناؤها فى حد ذاته وتوزيعها فى سياق الأحداث وعلاقتها بالبطل تستحق منا جميعا الإشادة والإعجاب، لأن أغلبها لاتميل إلى ذلك النوع السطحى الهش الذى يأتى عادة فى سبيل خدمة غرض معين فقط ثم لا يتم ذكره مرة أخرى، كذلك التصيعد الدرامى للشخصيات نرفع له القبعة، فهنالك بعض الشخصيات بعينها كانت لها مبادئ ومناهج حياتية محددة ومثالية جدًا فى بداية الأحداث، لكن مع مرور الوقت وتدهور الحال وتغير الظروف المحيطة بالأحداث، باتت تلك الشخصيات تنتهج منعطفات فكرية مختلفة تمامًا غير تلك التى كانت عليها فى السابق، مثل شخصية «فخر» وتحولها إلى «عيسى» ثم إلى «أبو عمر المصرى» والعودة إلى مصر بـ «فخر» جديد آخر بمواصفات مغايرة تماما لما كان عليه فى البداية، وكذلك شخصية «حسين» التى جسدها «منذر رياحنة» وما طرأ عليها من تحولات جسام إلى أن أصبح «الشيخ حمزة» وكذلك «الريس بحيرى» الذى يلعب دوره بجدارة «محمد جمعة» بعد عودته مرغما من بلجيكا إلى معسكرات إعداد المجاهدين، وحتى «هند القدسى» فى تحول مواقفها من التأييد والمؤازرة لـ»فخر» رغم حبها له إلى رفض أسلوبه فى تصفية «السفير»، والذى تراه شخصا لا يستحق تلك النهاية المؤلمة.



على أية حال بذل «أحمد عز» فى أدائه جهدا ملموسا، وقد بدا التطور واضحا فى تحولاته عبر مراحل زمنية مختلفة فى أثناء تأرجحه بين شخصيتى «فخر» و»أبو عمر المصرى»، فضلا عن إضفائه بعض «الإفيهات» الكوميدية التى خففت من حدة التوتر، ولقد بدا فى حالة من النضوج الحقيقى كما اتضح لى فى اهتمام «عز» بتفاصيل شخصيه «فخر» وتوظيفه الرائع لنظرات عينه وتلونه من خلالها، فضلا عن نجاحه فى أن يعكس حالة الغليان أحيانا، والقهر أحيانا و الظلم فى احيان كثيرة بشكل عميق وهادئ بعيدا تماما عن الانفعالات الزائدة، و التى كان لها بالضرورة دورها الفعال فى الاستحواذ على عين وعقل المشاهد بهدوء وبزخرفه حقيقيه وصادقة فى أدائه، وخاصة فى تجليه عبر مشاهده مع «سمير العبد» الذى جسده ببراعة «فتحى عبد الوهاب»، وربما نال الانطباع السلبى الذى برز فى حمل «شيرين» سفاحا من «فخر» من رسالة المسلسل التى تهدف الانتقام بغير منطق، مما انعكس على ضعف أداء «عز» فى بعض المواقف الانتقامية من غرمائه.



إلا أن أداء «أروى جودة» جاء مناسبا تماما لشخصية «شيرين» حبيبة «فخر» فقد تطلب منها تعابير وجه صعبة وقاسية وحزينة عبر أداء تمثيلى معقد تطور مع تطور الشخصية عبر الأحداث، ولقد برع «فتحى عبد الوهاب» فى أدائه لدور «سمير العبد»، ونجح إلى حد كبير جدا فى القيام بعمل تركيبة نفسية معقدة للغاية، توضح الجانب المريض والمختل من الشخصية التى يقوم بها، وشيئا من هذا القبيل نراه أيضا فى أداء الفنانة «عارفة عبد الرسول» فى دور «الخالة مريم» فقد كانت صادقة إلى أبعد الحدود فى تجسيد حالة نفسية شديدة الحزن والبؤس، وتتوافق بالكامل مع شخصية الأم المصرية عندما يُصيبها بلاء شديد فى فترة العجز ولا تملك غير الصبر والدعاء، هذا فضلا عن أداء احترافى بارز لـ «منذر رياحنة» فى دور «الشيخ حمزة» وهو فى ذلك يحقق مقولة «بن جازارا»: حين تؤدى شخصية شريرة يتعين عليك أن تستمتع بها، حاول أن تجد فى الشخصية أشياء تحبها ومنها تنطلق، وهو على مايبدو ما فعله «رياحنة» فى أن يعكس روحه الشريرة، التى تمارس شتى أشكال العنف والاضطهاد والاستغلال والإغواء ، ولقد جانب « صبرى فواز» الصواب أيضا فى لعبه دوره بهدوء يعكس خبث عينيه وفساد روح «أمير الجماعة» التواقة إلى الدم، فقد برع بأداء محسوب بدقة شدية فى التعبير عن شخصيتة الشريرة التى عادةً ما تعيش فى عزلة فى ظلام فى أماكن مغلقة أو سرية، ولا تخرج إلا لتفسد النظام الساكن وتضرب، وأظهر تألقا كبيرا فى لعب شخصية «الأمير» الطموح قوى الإرادة، والذى فى سبيل تحقيق مآربه يلجأ الى مختلف الحيل والمكائد ويستخدم العنف عندما يخفق خبثه ودهاؤه ويستنفد سبل الإغواء، إنه عادة ما يأتى ليفسد، ليدمّر ليشيع الفوضى والاضطراب.



تبقى فاكهة هذا العمل النجمة الجزائرية «أمل بوشوشة» التى ألقت بظلال كثيفة كان لها بالغ الأثر فى جلب البهجة التى خففت من حدة التراجيديا، بداية من الحلقة «22» التى تعد «ماستر سين» الحلقات على جناح رومانسية عذبة لفتت انتباه المشاهدين على الفور، وهو ما يؤكد أن «بوشوشة» واحدة من قلة من الممثلين الذين لديهم الاستعداد والقابلية عبر التفانى والتكريس والاعتناء على تجاوز الذات وبذل الجهود المضنية، مثلما فعلت فى التسع حلقات الأخيرة فى سبيل الاقتراب الجسمانى والذهنى من شخصية الصحفية «هند القدسى»، فمن أجل تقمص تلك الشخصية ضحت بمظهرها الخارجي, ولقد أخضعت نفسها للتحول، إنها سكنت الشخصية كلياً الى الدرجة التى اختفت فيها صفتها كممثلة بشكل خفى ولا مرئى، تاركة للشخصية حرية احتلالها وامتلاكها، حتى صارت هى الشخصية التى تؤديها، منتحلة بذلك كل خواصها وطبائعها وتصرفاتها وحركاتها ولغتها، سواء أكانت واقعية أم متخيلة، إنها على ما يبدو قد كرست كل وقتها قبل التصوير لتحليل الشخصية، لتؤكد لنا أن التمثيل ليس ترجمةً لما هو مكتوب فى السيناريو بحيث يوفر للممثل المادة التى ينطلق منها ليؤسس علاقته بالشخصية وليخلق لها حياة كاملة، إنه يخلقها فى ذهنه فى مخيلته، كل التفاصيل المفقودة المتصلة بحياة الشخصية: تاريخها، ماضيها، خلفيتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، المهنة، الأدوات، اللهجات والنبرات، المواقع، الملابس، المظهر، ما تلبسه، ما يمكن أن تفعله فى ظروف أو حالات معينة وفق علاقتها بمحيطها أو بعائلتها، حتى التفاصيل الصغيرة والتى تبدو غير ذات أهمية، خضعت جميعها للمعاينة والدراسة من جانب «أمل بوشوشة» قبل بدء الانخراط فى أداء شخصية «هند القدسى» على نحو مميز وشديد الجاذبية. الموسيقى التصويرية كانت بلاشك عنصرا مميزا جدا فى هذا العمل، حيث صاحبت الأكشن ومشاهد الحزن وكافة المشاهد الأخرى بطريقة مناسبة للغاية، وأخص بالإشادة أغنية البداية الجميلة جدًا والمعبرة «شرع السما» للمطرب الإماراتى الكبير حسين الجسمى، وألحان «وليد سعد»، أما عن الإخراج فلايمكن وصفه بالجيد إلا فى بعض المشاهد الواسعة والمفتوحة بعينها، لكن أغلب الإخراج كان متوسطا إلى الحد الذى يمكن فيه أن نشير إلى لفتة إخراجية مُميزة، وربما يعود ذلك إلى قلة خبرة «أحمد خالد مرسى» فى الدراما التليفزيونية، ومع ذلك فلا يجب أن نقسو عليه، فهو مخرج شاب يحاول أن يضع بصمته، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه ما زال فى البدايات، وربما تبدو بداياته مبشرة، خاصة أن «أبو عمر المصرى» عمل صعب جداً وليس من السهولة تنفيذه فى هذه الفترة القصيرة.