بوتين وترامب.. قمة ينتظرها العالـم
عادت السياسة الأمريكية إلى «مغازلة» موسكو بعد فترة وصفها الرئيس فلاديمير بوتين بأنها «الأسوأ فى تاريخ العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة». فبعد إعلان الرئيس دونالد ترامب عن ضرورة عودة روسيا الى مجموعة «الثمانية الكبار»، وتصريحات وزير خارجيته مايك بومبيو حول يقينه من ان «حضور روسيا كطرف فى النقاشات الجيوسياسية المهمة أمر لا مفر منه»، وتأكيده على ضرورة عودتها دون ارتباط ذلك بإعادة القرم، وإيفاد واشنطن جون بولتون مستشار الرئيس الامريكى لشئون الامن القومى إلى موسكو للقاء بوتين، يمكن القول ان العالم يبدو على أعتاب «انفراجة» فى علاقات القطبين العظيمين، بما قد ينسحب بالتالى على سياسات واشنطن تجاه الكثير من مفردات العلاقات الدولية والاقليمية، وإن تظل هناك تحفظات كثيرة تحول دون الاغراق فى التفاؤل.
القمة الروسية الامريكية المرتقبة التي أعلنت مصادر الكرملين والبيت الابيض أنها سوف تعقد فى هلسنكى فى السادس عشر من يوليو الجاري، قد تكون علامة فارقة فى تاريخ علاقات روسيا والولايات المتحدة، وبداية نحو حوار متعدد المستويات والموضوعات، لن تقف بطبيعة الحال عند العلاقات الثنائية للبلدين، وقضايا «الاستقرار الاستراتيجي»، وما يرتبط به من الحد من التسلح، لتتجاوزها صوب الاوضاع فى أوكرانيا وسوريا وشبه الجزيرة الكورية، وعدد من القضايا الاقليمية الاخرى. وكان الرئيسان الروسى والامريكى قد سبق أن أعربا عن يقينهما من أهمية وضرورة اللقاء الذى سبق واتفقا حول أهميته منذ لقائهما الاول على هامش قمة العشرين فى هامبورج فى العام الماضى ، نظرا لتراكم الكثير من المشكلات والقضايا العالقة بين البلدين، منذ ما قبل تقلد الرئيس ترامب مهام منصبه فى البيت الابيض، وهو الذى طالما أطلق الكثير من الوعود خلال حملاته الانتخابية حول عزمه تحسين علاقاته مع موسكو، وقال أنه لا ينوى اغلاق الأبواب أمام مواصلة الحوار مع نظيره الروسى بوتين، مؤكدا أن ذلك لا يخدم وحسب مصالح البلدين، بل قضايا الامن والسلام العالميين.
الإتفاق حول عقد القمة المرتقبة، اعتراف ضمنى من الجانبين بالاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة، وإن كانت الظروف الدولية تقول إن الوقت لم يحن بعد للكشف عن المدى الذى يمكن ان يقطعه كل من الجانبين على هذا الطريق، وكذلك عن الموضوعات والقضايا التى يمكن ان تكون محل نقاش وجدل فى هذا الصدد. المراقبون فى معظمهم، يقولون ان قمة هلسنكى لن تسفر سوى عن «مجموعة من اعلانات النوايا «للاستهلاك المحلى والدولي»، وإن كان هناك من يقول انها يمكن ان تصل الى اتفاق حول تشكيل مجموعات عمل سوف يُعْهَد اليها الدراسة والفحص والبحث عن حلول للقضايا الخلافية. وثمة من يعيد الى الاذهان قمة ترامب مع زعيم كوريا الشمالية، التى حاول الرئيس الامريكى ان يضفى على نتائجها الكثير من «الايجابيات» التى لم ير العالم منها بعد، سوى انها كانت اعلانا عن «نزع فتيل المواجهة والتوتر» بين الرئيسين والبلدين، بمساعدة صينية روسية.
عموما، الحوار الذى ينتظر العالم بدايته فى هلسنكي، يعتبر فى حد ذاته انجازا. بل وهناك ما يشير الى ان الاتفاق على موعد عقد القمة يبدو اضافة الى مكاسب بوتين. وكان الرئيس الروسى رفض موعد 15 يوليو الذى عرضه الامريكيون بسبب عدم امكانية ان يظل ترامب بعيدا عن الولايات المتحدة مدة ثلاثة ايام بعد قمة بروكسل وزيارته بريطانيا، وهو ما اضطر الى قبوله نزولا على «اصرار» بوتين على البقاء فى موسكو فى هذا التاريخ الذى يوافق موعد اختتام بطولة العالم لكرة القدم-2018 التى نظمتها روسيا باقتدار غير مسبوق، ونجاح منقطع النظير.
هذا الحوار سوف تتصدره الى جانب العلاقات الثنائية، الازمات الاقليمية ومنها الاوضاع فى اوكرانيا وفى سوريا والاتفاق حول البرنامج النووى الايراني. وثمة من يقول ان هذه الملفات يمكن ان تحمل بين طياتها ما يقال حول «آليات الانفراج»، واحتمال ان يكون منها ما يمكن ان يروح «ضحية التنازلات المتبادلة»، على غرار ان يسلم ترامب بمصالح روسيا فى سوريا وخروج قواته من هناك، مقابل تنازلات من جانب موسكو فيما يتعلق بالملف الايراني، فى حدود المسائل المتعلقة بوجود فصائل الحرس الثورى فى سوريا والحد من رغبات اقامة قواعد ايرانية هناك، مع تأمين قوى المعارضة السورية. وكانت صحيفة «واشنطن بوست» كتبت تقول ان اتفاقا غير معلن جرى التوصل اليه بين روسيا والولايات المتحدة واسرائيل حول الاعتراف ببقاء بشار الاسد رئيسا لسوريا، مقابل ان تضمن روسيا «الحد من النفوذ الايراني» فى سوريا. وفى هذا الصدد نقلت الصحف الروسية ما أشارت اليه كثير من الصحف الامريكية والبريطانية ومنها «واشنطن بوست»، و»نيويورك تايمز»، و»اندبندنت» حول استكانة الرئيس الامريكى لنجاحات بوتين فى توطيد علاقاته مع كل بلدان منطقة الشرق الاوسط، بغض النظر عن خلافاتها وتناقضاتها الداخلية، ومنها تركيا وايران واسرائيل. اما عن الازمة الاوكرانية فيقول مراقبون روس إنها لم تكن من اولويات ترامب خلال حملاته الانتخابية، وهو الذى وعد بتحسين العلاقات مع روسيا دون ربط ذلك باعادة القرم الى أوكرانيا، فضلا عن قوله خلال لقاء مع المستشارة الالمانية ميركل، ان «الازمة الاوكرانية مسئولية الاتحاد الاوروبي».
واذا كان هناك من يقول ان القمة المرتقبة تصب فى مصلحة الرئيس الروسى وتدعم مواقعه على خريطة السياسة الاقليمية والدولية، وذلك صحيح الى حد كبير، فان الواقع يقول أيضا ان ما جرى ويجرى من أحداث يأتى فى وفاق مع ما أعلنه ترامب من سياسات تصب فى مجملها لصالح ما يتخذه من قرارات على الصعيد الداخلى ويدعم مواقعه فى مواجهة خصومه قبيل الانتخابات النصفية للكونجرس فى نوفمبر الماضي. وذلك ما يؤكده ارتفاع نسبة شعبيته ولم يكد يكمل نصف ولايته الاولى. وكان ترامب قد حقق الكثير على صعيد «ترويض» العديد من فرسان الساحات السياسية فى أوروبا، بما يخدم مصالح المؤسسة الصناعية العسكرية وكبريات الشركات والمؤسسات الامريكية فى أوروبا ومنطقة الشرق الاوسط، فى توقيت مواكب لدعم علاقاته مع أبرز نجوم المعسكر الشرقى فى روسيا والصين وكوريا الشمالية.
ونقلت وكالة «انترفاكس» عن دميترى بيسكوف الناطق الرسمى للكرملين ما قاله نقلا عن الرئيس بوتين حول ان روسيا على استعداد للمضى فى طريق تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة بنفس الدرجة التى تبدو واشنطن على استعداد لها. وكانت صحيفة «موسكوفسكس كومسوموليتس» قد استطلعت آراء بعض مشاهير الخبراء والمعلقين الروس والاجانب تجاه النتائج المتوقعة من القمة المرتقبة ومنهم الخبير الالمانى فى الشئون الروسية الكسندر رار الذى قال انه «إذا لم نتوقع تحقيق أهداف عالية جدًا، ولم نستسلم لأوهام احتمالات تطبيع العلاقات بين البلدين، فانه يمكن توقع تحقيق النجاح فى هذا الاجتماع. اما الأهم فهو أن الأجواء فى العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا يمكن أن تتغير. هناك إمكانية لاتفاقات بشأن سوريا ونزع السلاح». ومضى رار ليقول «هناك احترام متبادل بين ترامب وبوتين. سيكون حديثا قاسيا، لكن لدى كل من الجانبين مساحة للحلول الوسط. السياسيون فى بريطانيا وألمانيا، يخشون بحق من احتمالات تنازلات من جانب ترامب لروسيا. ففى السنوات الماضية، ولأسباب مختلفة، قاموا ببناء موقف سلبى تجاه روسيا. وهم يخشون أن لا يتصرف ترامب فى مصلحة هذه النخب التى تحكم أوروبا». اما فيدور لوكيانوف رئيس تحرير مجلة «روسيا فى السياسة العالمية»، ورئيس مجلس شئون السياسة الخارجية والدفاع المعروف بعلاقته الوثيقة مع الخارجية الروسية، فقد اشار الى انه لا ينبغى توقع اختراقات، إذا كان كل ما تبقى على الاجتماع أسبوعين فقط فإن الحد الأقصى الذى يمكن تحقيقه هو ترسيم حدود معينة لما ينبغى التحدث عنه. إذا حدث ذلك وتم اعتماد وثيقة، فسيكون ممكنا القول إن الاجتماع كان ناجحًا. واستطرد لوكيانوف ليشير الى اقراره بمدى تأثير تطورات الاوضاع الداخلية فى الولايات المتحدة على مباحثات القمة المرتقبة بين بوتين وترامب، وإن قال بضرورة عدم الافراط فى تضخيم مثل هذه الظاهرة، مؤكدا ان ترامب يركز معظم اهتمامه بالدرجة الاولى على الاقتصاد العالمى رغبة من جانبه فى تغييره لصالح بلاده، بما يعنى ضمنا انه يولى روسيا الاهمية التى تعادل قدر تأثيرها على الاقتصاد العالمي. ورغم صحة تقديرات لوكيانوف فان الواقع الراهن يقول إن ذلك لا يمكن ان يكون القول الفصل، نظرا لان روسيا تظل لاعبا محوريا على خريطة القوى الجيوسياسية وهو ما يقر به العالم كله بما فيه الولايات المتحدة. ومن هذا المنظور تحديدا يمكن قياس المدى الذى يمكن ان تذهب اليه نتائج قمة هلسنكى فى السادس عشر من يوليو الجارى .