عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
لا يرغب فى مزيد من المناصب ويفضل إنهاء كتبه المؤجلة جابر عصفور: أقسمت فى صغرى أن أكون مثل طه حسين
23 مايو 2018
حوار ــ أسامة الرحيمى
تصوير- محمد حجازى



  • جرثومة عدم قبول الاختلاف أصابت الجسد الثقافى المصرى فلم يعد أحد يقبل الاختلاف مع الآخر


  • يجب مراجعة دور الدولة فى الهيئات الثقافية فلولا وجودها فى إنتاج الكتاب بسعر بسيط لسيطرت جماعة الإخوان على عملية النشر  لأنهم يملكون غالبية دور النشر


  • إذا تأملنا تجربة عبد الناصر سنجده فعل ثلاثة أشياء: بناء قصر ثقافة ومدرسة ومصنع ولو اتبعنا هذه الإستراتيجية سنقضى تماما على الإرهاب


  • علاقتى بشِلَّة المحلة جميلة جدا إلى الآن وحين نلتقى نستعيد ذكرياتنا الطيبة وننسى تقدمنا فى السن ونعيش ضحكات الماضى






يُحيّرنِى الناقد الكبير «جابر عصفور»، منذ قرأت له أول مرة، لأنه يمتلك قدرة هائلة على توصيل رؤيته بوضوح، ولغة قويمة عذبة، تخلو من التلكؤ، تستنفر شغف القارئ،فلا يسعه إلا الاستمتاع حتى النقطة الأخيرة، ويدخل معاركه الثقافية بأريحية المستريحين، ويخرج منها بلا نَصَب. ويعتلى منصّات الندوات والمؤتمرات بثقة العارفين، ويتحدث بسلاسة كأنه يقرأ نصاً مكتوبا، ويستحوذ على الأسماع بعمق معانيه، ومفرداته الدقيقة المتواترة. ويحاضر فى الجامعة بذات الحماس والإخلاص، ويتابع طلابه بيقظة ومحبة.



لكن يظل المكان الأقرب إلى قلبه. مكتبه فى البيت، حيث يخلو الناقد إلى نفسه، فيغلق الباب وصوت الهاتف، ويرمح فى مضماره الأثير، لتتعانق الطموحات والرؤى، وتتنادى الأفكار وتتعاضد، ويُحلّق القلب والعقل معا، فى حالة فريدة تُوحِّد الذهن والوجدان، لتكتمل متعته القصوى، بعيدا عن «وجع قلب المناصب».



وبالرغم من هذا كله، يبدو أن للمناصب متعة خاصة، لا يدركها إلا من تولاها. وهذا ما يحيرنى حيال «الناقد الكبير»، فما الذى يدفع أى إنسان نحو الإرهاق إذا كانت الراحة فى متناوله؟!. وإذا كان غارقا فيما يحب !!. ومتميزا فيه!!.



فى حوارنا هذا قطع بأنه اكتفى من المناصب، وسيتفرغ لكتبه المعلقة ما بقى من العمر المديد إن شاء الله. لعله يعفينا من تلك الحيرة، وينحاز للناقد المغوار.



ما حكاية شِلّة المحلة المتميزة فى الثقافة المصرية، التى أمدت الحياة الثقافية بوجوه إبداعية وفكرية ناصعة، كيف تقاربتم، ومن منهم ابتعد عنك بعد تقلدك المناصب الرسمية، ولماذا يبدو أنك لم تدعمهم رغم كل ما أتيح لك؟



تعرفت على شلة المحلة عام 1963، حين عدت من الجامعة إلى المحلة فى إحدى إجازات الصيف، فوجدت مجموعة تعقد «جلسة أدبية»فى قصر ثقافة المحلة الكبرى، كان منهم الجيل الكبير نصر أبو زيد، وسعيد الكفراوي، والجيل الأصغر المنسى قنديل، وجار النبى الحلو، وفريد أبو سعدة، واندمجت معهم فكريا، وكنا نلتقى فى قصر الثقافة، أو فى بيت أحدهم، وكان بين المجموعة شخص يدعى زكريا التوكي، علمت لاحقا عندما أثيرت قضية سيد قطب، أنه كان عضوا بالإخوان المسلمين بالمحلة الكبرى وقتها، ومنزله الذى كنا نلتقى فيه كان مركز أسلحة، ويستخدم كمركز طبي، وتم القبض علينا جميعا، وتعطل تعيينى بالجامعة بسبب هذا، وأنقذتنى من هذا المأزق التحريات التى أثبتت أنني«شاب طايش» ولى تصرفات لا تتفق أبدا مع توجهات الإخوان المسلمين.



كنت «فالنتينو» يا دكتور؟!



إلى حد ما، وعدت للجامعة، وتم تعيينى معيدا، المهم أن علاقتى بكل أفراد شلة المحلة، موصولة حتى الآن مع كل قيود الحياة.أما بالنسبة لسؤالك، لماذا لم يستفد أحدهم منى وأنا فى وزارة الثقافة، فهذا ببساطة يرجع لأننى كنت وزيرا محترما، وهم أيضا كانوا مبدعين محترمين، لم يطلبوا شيئا، وأنا لم أعرض عليهم، وعلاقتى بهم جميلة جدا إلى الآن، وحين نلتقى نستعيد ذكرياتنا الطيبة، وننسى تقدمنا فى السن، ونعيش ضحكات الماضي.



وماذا عن علاقتك بالدكتور نصر أبو زيد رحمه الله؟



كانت علاقتى به جيدة جدا، وكنا من المؤمنين بالإسلام العقلانى، وكنا أقرب إلى الاعتزال، وكان رجلا متدينا، وأخطأ كثيرا من اتهمه بالكفر، ولم يقرأ كتبه، والحكم كان ظالما. وأبسط وصف لنصر أبو زيد، أنه كان معتزليا معاصرا، وكتبت عن كتابه الأول مقالة فى مجلة إبداع، بعنوان «الاعتزال المعاصر»، ولا تنطبق عليه تلك التهم الباطلة التى ألصقوها به، كل الحكاية أنه كان يملك عقلية اعتزالية، ودرس النص الدينى على هذا الأساس.وهذه أشياء تعجب البعض، ولا تعجب البعض الآخر، ولا ننسى أن حق الاجتهاد مكفول بالإسلام، بل إن حق الخطأ مكفول أيضا، فالحديث المشهور يقول: «من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر»، ومن ينكر هذا الحديث كأنما ينكر الإسلام، ومن هنا كان الحكم على نصر أبو زيد حكما ظالما، وفى إحدى ندوات الدكتور محمود زقزوق، ذكرنا بحديث الإمام مالك بن أنس، وكان يردده دائما الإمام محمد عبده: «إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولم يحمل على الكفر».وهذه روح الإسلام السمحة، التى تكفل حق الخطأ، وعندما نتخلى عنها، فكأننا نتخلى عن الإسلام نفسه، لكن المشكلة الآن أن المذاهب السلفية تسيطر علينا، وإن شئت فالوهابية أيضا، وأظن هذه النزعة، ليست فقط مسئولة عن تخلف مصر، بل مسئولة عن كل المحن والكوارث التى نمر بها الآن.



هل استطعت تفعيل خطتك الثقافية التى أعددتها وتحدثت عنها غير مرة؟



كل ما كنت أتمنى عمله من اتفاقيات مع هيئات أهلية أو حكومية، أو شبه أهلية، تم تنفيذه، فقد تم عقد اثنتى عشرةاتفاقية تعاون مشترك مع عدد من الوزارات، ولكن قبل البدء فى تفعيل هذا، فوجئنا باجتماع كبير لرئاسة الوزراء، لتغيير الوزارة كلها.عملت وزيرا للثقافة ثمانية أشهر، ولم أستطع أن أنفذ الخطة التى جئت من أجلها، وبعد خروجى كتبت رسالة لرئيس الوزراء، شرحت له أننى لم أخسر شيئا، لكنهم خسروا مشروعا جيدا،واستراتيجيتى لتطوير الثقافة على مكتب الرئيس، ومطروحة للعمل بالتعاون بين خمس وزارات، التربية والتعليم، والشئون الاجتماعية، والشباب والرياضة، والتعليم العالي، وأخيرا الأوقاف، من أجل وعاظ المنابر عبر بروتوكول يجمع كل هذه الجهات، وتعمل بعض المجموعات الوزارية، ويكون هدفها تثقيفيا، يجب مراجعة دور الدولة مرة أخرى فى الهيئات الثقافية فلولا وجودهافى إنتاج الكتاب بسعر بسيط لسيطرت جماعة الإخوان على عملية النشر لأنهم يملكون غالبية دور النشر. ودور الدولة يجب أن يعود فى السينما، فبعدما كان فى مصر مئات دور عرض، تم إغلاق أغلبها خاصة فى الأقاليم، بسبب سيطرة السلفية هناك. وتأمّل مشروع السعودية الآن بإنشاء ألفى دار عرض، ومصر فيها الآن أقل من مائة دار فقط، ونذكر كيف كانت السينما الجماهيرية تؤثر قديما فى الناس، حيث كانت الأعمال الفنية تعرض على الحوائط، بأبسط التكاليف، لتثقيف الناس، فى أنحاء مصر.الحقيقة أننى كوزير لم تتح لى الظروف التى تجعلنى أنجح فيما طمحت إليه، كما نجحت كمثقف.



هل هو مشروع يصلح لأن ينفذه أى وزير آخر؟



نعم بالتأكيد، لكن بشرط، أن يكون تحت رعاية رئيس الجمهورية، فنحن شعب نسير بتوجيهات رئيس الدولة، وهناك تجارب عالمية تشهد بذلك، ففى فرنسا مثلا، الجنرال ديجول كان وزير ثقافته الكاتب أندريه مورو، واستطاع إقناع ديجول بتبنى مشروع فرنسا الثقافي، والذى نقلها لما هى عليه الآن.وإذا تأملنا تجربة عبد الناصر سنجده كان يفعل ثلاثة أشياء، بناء قصر ثقافة، ومدرسة، ومصنع، ولو اتبعنا هذه الإستراتيجية سنقضى تماما على الإرهاب، فالمسألة ليست صعبة، ولا معقدة.ومن الممكن أن نسير فى هذه الخطة القومية على خطى عبد الناصر، فهو درس أسباب الهزيمة، وسمح لأول مرة بقبول الجنود الحاصلين أولا على شهادات متوسطة، ثم شهادات عليا، فأصبح لديه جندى يستطيع موازنة أموره، لا يتلقى الأوامر فحسب.وبالمثل كنت أتمنى أنا أيضا أن أعمل على تغيير عقلية جميع العاملين فى هيئاتنا الثقافية، بحيث يتم إنشاء «معهد الإدارة الثقافية»، نقبل منه فقط جميع العاملين بالهيئات الثقافية، لكن لقصر فترة بقائى بالوزارة لم أستطع أن أقوم بهذا.



ما أحب المكاتب إلى قلبك، وقد تنقلت بين أربعة منها، بالمجلس الأعلى للثقافة، والجامعة، والناقد فى البيت، ومكتب الأهرام؟



مكتب الناقد فى بيتى هو الأحب إلى قلبي، فلدى مكتبة كبيرة جدا، تعج بالكتب، ولدى بيت آخر فى أكتوبر به مكتبة، ويرجع اهتمامى بالكتب، لأنى أقسمت منذ صغرى بأن أكون مثل طه حسين.



هل قابلت طه حسين؟



نعم قابلته مرة واحدة فى الجامعة عام 66 أو 67، وكتبت عن اللقاء مقالة، قبيل وفاته بعدة شهور تقريبا.



وماذا تحقق من قسمك بأن تكون مثل طه حسين؟



حققت الكثير جدا، وراض عن نفسى، ليس رضاءكاملا، لكنى راض، وسأظل أعمل حتى أموت.



هل تذكر وصف «حظيرة المثقفين» الذى استخدمه الوزير السابق فاروق حسنى، هل كان مناسبا كخطاب وزير للمثقفين؟



أرى أنه أداء لغوى غير موفق فقط، ففاروق حسنى لغته الأجنبية، سواء الإيطالية، أو الفرنسية، أقوى بكثير من العربية، لذلك هو لم يحسن التعبير فقط.



ألم يكن أسلوبا سلطويا فى الحديث مع المثقفين؟



لا.. إطلاقا..الحقيقة أنه بالفعل كان وزيرا ذكيا ومثقفا، ويعلم تحديدا خطواته، وله رؤية.



ألا يحتمل رأيك هذا بعض المجاملة، لأنك توليت أول مناصبك فى عهده؟



لا أبدا، فأذكر أنه رغم طول فترة عملى معه لم يتدخل فى عملى، ولم نختلف سوى مرة واحدة فقط، عند طرح فكرة الاحتفال بمئتى سنة على دخول الحملة الفرنسية مصر، وعارضتها بشدة، فكيف نحتفل باحتلال بلادنا، وكنت متحمسا للوطنية المصرية، أما هو فقد دافع عن رأيه بإقامة الحفل، من منطلق «رحلت المدافع وبقيت المطابع»، وانتصر لرأيه وأقيمت الاحتفالية.



لماذا ما تزال ثقافة عدم قبول الاختلاف قائمة إلى الآن بتقديرك ؟



نعم قائمة إلى الآن، إنها جرثومة، أصابت الجسد الثقافى المصرى، فلم يعد أحد يقبل الاختلاف مع الآخر، فأنا مثلا تركت الوزارة بسبب هجوم المخالفين على من الأزهر والسلفيين.



هل كان هذا سبب استبعادك من منصبك فعلا؟



بالطبع.



وما زلت تكتب ضدهم فى جريدة الأهرام، فهل إصرارك على المواجهة هذا إحساس منك بالمسئولية الاجتماعية، أم لأنها قناعاتك الدائمة؟



الاثنان. السببان وجهان لنفس العملة، تحدى لهم، ولأنها قناعاتي، وواجبى المجتمعي.فأنا مثلا كنت أكتب عن كتاب رجائى عطية، عن تجديد الخطاب الدينى، لماذ يسمح الإسلام بزواج المسلم من كتابية، ولا يسمح بزواج المسلمة من كتابى، أو صاحب الدين المسيحى واليهودى، فكان ردهم علي، بأننا كرجال مسلمون مؤمنون بالأديان التى نزلت من قبل الدين الإسلامى، وسنعامل الزوجة الكتابية، معاملة حسنة، أما المسيحى أو اليهودى، فهما غير مؤمنين بالإسلام، ولذلك سيعاملان الزوجة المسلمة معاملة سيئة، فما معنى هذا؟ فلماذا لا نغير بعض النصوص بما يتواكب مع متطلبات العصر الحديث، كما أخذنا بقوانين الغرب حين شرّع إلغاء العبودية، فنحَّينا كل الآيات التى تتحدث عن العبودية والاسترقاق جانبا؟ واعتبرنا آيات الرق من المنسوخ وقتها، والخديو إسماعيل الذى أمر بتحرير العبيد، لماذا لم يوقفه الأزهر وقتها، وقال إنه يخالف الدين؟!. ولماذا لا نعتبر كل ما يتعارض مع قواعد العصر الحديث الآن من المنسوخ أيضا؟فتونس فعلتها من قبلنا وسمحت بزواج المسلمة من أصحاب الديانات الأخرى.



تتحدث كما تكتب، وتكتب كما تتحدث، ومتألق على جميع المنصات كأن بينكما مودة تاريخية، فمن أين يأتى هذا التوافق بين الكلام والكتابة، وهل هى مهارة خاصة بتكوينك، أم إمكانية يمكن تجويدها بالتدريب؟



لا. هى درجة عالية من الصدق، وتحدث عندما تعمل بشىء تحبه، وتؤمن به.



حصلت على ليسانس لغة عربية بامتياز مع مرتبة الشرف، والماجستير بامتياز ومرتبة الشرف، ودكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، فهل لنا أن نعلم تقديرك، كموظف ووزير ثقافة، ورئيس المجلس الأعلى للثقافة، ورئيس المركز القومى للترجمة؟



كوزير، وموظف أعتبر نفسى فى أدنى درجة، أو أننى لم أنجح، طبعا لظروف خارجة عنى أوضحتها، وأعطى نفسي، اثنين من عشرة، أما المجلس الأعلى للثقافة، ومركز الترجمة، فقد نجحت، لكن أعطى لنفسى ستة من عشرة.



حصلت على عدة جوائز، جائزة الكويت والعويس الإماراتية، وغيرها كثير، لكن أكثر ما استوقف الناس جائزة القذافي، وكنت قد وعدت بردها، ولم تفعل، فما الذى لا نعرفه عن هذاالموضوع؟



بالفعل أعلنت استعدادى لرد الجائزة وقيمتها المالية، لكن لم يطلب منى أحد أن أعيدها، رغم أن الجائزة كانت شرعية تماما، وأنا لازلت عند كلامى.



جوتسيلو اعتذر عنها، وقال عنها كلاما قاسيا بحق القذافي، وقيل إنك جئت كبديل له، لإعفاء اسم الجائزة من الحرج؟



أولا لم أتسلم الجائزة من القذافى، بل إنه حتى لم يحضر حفل تسليمها، فهى نوع من أنواع المجاملة فقط أن تكون باسمه، كما أننا لدينا جائزة باسم مبارك، حصل عليها أدباء كبار مثل الأبنودى، حتى إنه طلب منا تغيير الاسم له، وغيرناه إلى جائزة النيل، لكنها كانت باسم مبارك.وفى الحفل طلب منى الحديث عن كتبه، لكننى رفضت طبعا، وتسلمت بعض كتبه، وعدة نسخ من الكتاب الأخضر، لكننى تركت كل هذا بالفندق، وفوجئت بهم يرسلونها لى إلى المطار.وأنا سألت قبلها، لماذا هى باسمه، فكان الرد: لأنه رئيس الدولة، وأنتم لديكم جائزة باسم مبارك.



هل هناك ملل ينتج عن النجاح والتحقق، وكيف كنت ترتب وقتك بين مسئولياتك العديدة، مناصب وجامعة، وكتابة؟



الحمد لله لا أعانى من الملل أبدا، لأن حلمى فى البحث العلمى، لا ينتهى، فلدى شهوة للمعرفة كبيرة جدا..



وللمناصب؟



لا.. لا أرغب بمزيد من المناصب، فما تبقى من العمر لا يسمح، وأفضل استخدامه فى إنهاء ثلاثة كتب فقط، أتمنى منذ زمن أن انتهى منهم.



ما هذه الكتب؟



أولها وأهمها كتاب «بلاغة المقموعين» وهو كتاب على غرار «كليلة ودمنة»، كان بحثا أجريته فى بداياتي، وهو مشهور عالميا، وقرأه إدوارد سعيد، وكتب عنه فقرة جيدة، أشاد به فى أحد كتبه، وفكرة الكتاب تدور حول مقدرة البسطاء على التعبير عن قهرهم من الحكام بطريقة بليغة، تحوى أحيانا أكثر من معنى، فمثلا عندما خاطب المتنبى، كافور الأخشيدى قائلا:



وما طربى لما رأيتك بدعة



وكنت أرجو أن أراك فأطرب



فهذا البيت البليغ، يحتمل المدح والذم، فى آن.فالبسطاء عندما يكتبون عن السلطان، يكتبون بأسلوب كتاب كليلة ودمنة، الذى اتخذ من الحيوانات، وحكاياتها مع بعضها رموزا، لإسقاطها على العلاقة بين الحكام والمحكومين، فلا يقدر البسطاء على التحدث عن الحكام بطريقة مباشرة، فالسلطان سلاحه القوة المادية، لكن المثقف سلاحه العقل.



ما الكتاب الثانى الذى تريد الانتهاء منه؟



أعمل الآن على كتاب «الإرهاب الدينى فى الرواية والمسرح والسينما»، وكنت قد أصدرت كتابا فى 2003 عن مواجهة الإرهاب، والآن أعيد صياغته، حتى أشمل الإرهاب فى البلاد العربية، فقد كان الكتاب يشمل مصر والجزائر فقط، أما الآن فدول عربية عديدة تتعرض للإرهاب، منها العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان واليمن.



هل سيتضمن استخدام أمريكا للإسلام السياسي؟



نعم بالتأكيد، وقد ضمنت فيه حكاية قصف برجى التجارة، وبن لادن، بالإشارة إلى رواية «أساطير رجل الثلاثاء» لـ «صبحى موسى»، التى نشرت بالأهرام فقد اتخذ هذا العنوان، لأن قصف البرجين كان يوم الثلاثاء.



وما كتابك الثالث؟



كتاب عن أحمد عبد المعطى حجازى، فقد أصدرت كتابين عن أمل دنقل، وكتابا عن صلاح عبد الصبور، وأتمنى أن أنهى كتابى عن حجازى.



هل ترصد تصرفاتك كمسئول وعلاقاتك وكتاباتك، كما ترصد الأعمال الإبداعية، لكاتب ما وتعيد تفنيدها، وتضع يدك على مواطن القوة والضعف، وعليه تعيد حساباتك وتعترف بأخطائك؟



بالتأكيد، ففى حديثى الآن اعترفت بعدة أخطاء، منها خطأ جائزة القذافي، وقلت إننى فكرت فيها وقتها بشكل بسيط، ولم تتوفر أمامى كل المعلومات بشفافية، وقرأت أسماء لجنة التحكيم فقط، ووجدتها أسماء محترمة جدا، من العالم العربى، ومن خارجه، ويشرفنى أن أتلقى الجائزة منهم.



ما أبرز غلطة سجلتها على نفسك؟



أبرز ماسجلته حتى الآن قبولى الوزارة فى المرة الأولى فى فترة الارتباك التى حدثت أيام الثورة على مبارك، لكن هناك ظروف لقبولها، حيث اتصل بى أحمد شفيق وقتها، يسألنى هل لديك مانع من المشاركة فى إنقاذ مصر، بقبولك وزارة الثقافة، فقبلت فورا، لكن عند ذهابى لحلف اليمين، أمام الرئيس، شعرت بشعور غير إيجابى، فقد كان يسود المشهد ارتباك وتخبط غير طبيعى.



هل كنت مع الثورة؟



أى ثورة؟



يناير!!



نعم كنت معها



بشكل كامل؟



نعم بشكل كامل.



لك ترسانة من كتب التنوير، مثل «المرايا المتجاورة، دراسة فى نقد طه حسين»(سيد التنويريين). و«التنوير يواجه الإظلام»، و«محنة التنوير»، و«دفاعاً عن التنوير»، و«هوامش على دفاتر التنوير»، و«إضاءات»، و«أنوار العقل». كل هذا الانتماء للتنوير، والاعتقاد به، والدفاع عنه كخط فكرى أساسي، ومع هذا أحس أن الأصوات المضادة كانت أقوى من كل الكتابات عملياً. فهل ترى للفكر مستقبلا آخر غير أن يبقى رهين الصحافة والمحاضرات والكتب والمكتبات؟.



أرى أن عمر السلفيين قصير جدا، وعمر المد الدينى قارب على الانتهاء، وفى يوم من الأيام سيقرأ الناس جميعا، ويعرفون كيف ضحى جيلنا بالثمن الغالي، ووقف ضد هذه التيارات من الإسلام السياسي، وواجهناها، ولم نخف، حتى عندما تسببوا فى تركى منصبى كوزير، لم أحزن، بل إننى كتبت مقالة بجريدة الأهرام، أشكر فيها رئيس الوزراء أنهم استبعدونى، لأننى سأعود لكتاباتى مرة أخرى، وهذا بالطبع أفضل بالنسبة لى.



وكيف لتنويرى كبير مثلك، وقدم كل هذه الكتابات، أن يذهب للقضاء فى خلاف مع مبدع، وسط القناعات التى تؤمن بها، وذكرت قبل قليل الحق فى الاختلاف، ثم استصدرت ضده حكما بالحبس؟



حسن طلب كان يجب أن أقاضيه لأنه تحدث عن ذمتي، واتهمنى فى إحدى مقالاته، فقاضيته، وكان ممكنا أن أحصل منه على ملايين كتعويض، لكن مع تدخل بعض الناس الطيبين، تنازلت، إكراما لصداقتنا القديمة.



ألا يتعارض هذا مع كلامك عن حرية الآخرين بإبداء رأيهم؟



هذا أمر يختلف تماما عن حرية إبداء الرأى، فلا تسامح أبدا مع شخص يتهمنى بالسرقة، هذه جرائم تمس الشرف، ولا يمكن السكوت عليها.



السؤال الأخير عن الحزن فى حياتك، خاصة وفاة ابنتك، كيف تعاملت مع هذا، وهل استوعبته، أم استوعبك هو؟



حكايتى مع الحزن بدأت بوفاة والدى بطريقة أفزعتنى حيث كنت فى السنة الأولى بالجامعة، وأتى لزيارتى وقضى يوما كاملا معي، وتناول معى الغذاء، وبعد العصر شعر ببعض التعب، فاتصلت بطبيب صديقي، فطلب منى إحضاره إلى المستشفى، وأثناء الفحوصات طلب صديقى منى ترك والدى بالمستشفى إلى الصباح، لاستكمال الفحوصات، وفى الصباح ذهبت إلى المستشفى، فوجدت فراشه مرتبا وخاليا، وأخبرونى أنه توفى فى الليل، وحزنت حزنا شديدا، ولم أعرف كيف أتصرف، وإذا بممرض يصف لى محل حانوتى فى شارع قصر العيني، يبيع مستلزمات الغسل والتكفين، وفوجئت بها 25 جنيها وليس معى من هذا المبلغ إلا جنيهات معدودة، وسرت فى الشارع على غير هدى، فقابلنى المرحوم دكتور عبد العزيز الأهواني، وكان أستاذي، وسألني، فلم أتمالك نفسى من البكاء على كتفه، وحكيت له، فذهب معى وأنجز لى كل الإجراءات، ولم يتركني، كأنه كان مرسلا لهذا الموقف، واتصل بأهلى فى المحلة وأخبر الأصدقاء فحضروا إلى بالمستشفى، وتمت إجراءات نقل والدى، وعندما وصلنا به وجدنا الأهل والأقارب يقفون على مدخل المدينة ليستقبلوا جثمان أبى.أما حكاية ابنتى فهى الجرح الثاني، فقد كنت أكن حباً كبيرا لأستاذتى سهير القلماوي، ولما أنجبت ابنتي، أسميتها سهير، وكبرت البنت وكانت شابة جميلة، وبصحة جيدة، وأنهت تعليمها وسافرت أسبانيا لعمل الدكتوراه، ولما عادت إلى مصر أحبت شابا عرفته عن طريق الانترنت، وتزوجا، وبعد عدة شهور حملت بتوأم، وسارت الأمور بسرعة، وحدثت لها بعض التعقيدات فى الحمل، ودخلت المستشفى، وماتت، ومات معها توأمها، ووضعتهما بجوارها فى القبر. والواقعة الثالثة هى وفاة زوجتى قبل أكثر من عام بعدما عانت الفشل الكلوي، وكنا نذهب لمركز غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعيا، لكن جسدها بعد أربع سنوات لم يتحمل وماتت.



كيف استوعبت كل هذا الحزن؟



بالعمل، كنت متألما حتى نصحنى أستاذى عبد العزيز الأهواني،بأن أتأمل الموت بطريقة فلسفية، وفعلت، وقلت لنفسى ليس بيدى شىء، وكل الناس سيموتون، وبدأت أقرأ الشعر العربى القديم، واكتشفت أنه زاخر بأبيات الحزن، فمثلا بشار بن برد يقول:



فقل فى فتىً سدت عليه سبيلهُ



فضاع وقد كان الطَّلوبَ المطلّبا



خطبْتُ عَلَى حَبْلِ الزَّمَانِ لَعَلَّهُ



يساعفنى يوماً وقد كان أنكبا



خُلِقْتُ عَلَى مَا فِيَّ غَيْرَ مُخَيَّرٍ



هواى ولو خيرت كنت المهذبا



أُرِيدُ فَلاَ أُعْطَى،وَأُعْطَى فَلَمْ أُرِدْ



وقَصَّرَ عِلْمِى أنْ أنَالَ الْمُغَيَّبَا



وأصرفُ عن قصدى وحلمى مبلغي وأضحى وما أعقبت إلا التعجُّبا



وما الْبرُّ إِلاَّ حُرْمَةٌ إِنْ رعيْتَها



رَشَدْتَ وإِنْ لم تَرْعَها كُنْتَ أخْيَبَا



ظللت أتأمل ما حدث من فقد كل هؤلاء الأحبة، وما أخرجنى من الحزن عليهم إلا العمل، ووقتها كتبت مجموعة مقالات من أجمل ما كتبت فى حياتى، عن الشاعر محمود درويش، وصدرت فى كتاب عن دار الكتب بعنوان «التحديق فى الموت»، وسلمت أمرى لله.