عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أمين حداد: أكتب شعرا رائعا عندما أحقق نجاحا فى عملى كمهندس
21 مايو 2018
حوار ــ دعــاء جــلال > تصوير ــ هاشم أبوالعمايم
أمين حداد



  • يرى أنه لا توجد وسائل للتعريف بالشعراء الجدد ليأخذوا مكانهم الحقيقي


  • فؤاد حداد الرافد الأساسى لتكوينى وصلاح جاهين الرافد الثانى والرافد الثالث الحياة والمجتمع المتمثل فى جدتى وحكاياتها ووجودى فى بيئة شعبية بمنطقة الإمام الشافعى


  • هزتنى حرب الخليج الثانية (1990 ـ1991) واحتلال الكويت بجانب القضية الفلسطينية طبعا ووصلت إلى ذروتها فى 2003 مع سقوط بغداد ودخلت فى صمت تام بسبب الإحباط


  • ظهور بهاء جاهين وعمر الصاوى وجمال بخيت ورجب الصاوى وعمر نجم فى منزلنا وعرض أشعارهم على فؤاد حداد هو الذى شجعنى على كتابة شعر عامية أعجب فؤاد حداد






يتحلى الشاعر «أمين حداد» بكل خِصال والده الراحل العظيم الشاعر «فؤاد حداد»، من ثقافة عميقة، وحياء مقيم، وعزوف الاستغناء، والحضور الحميم الحيّ الذى يشيع الثقة فى كل شىء، والقدرات الشعرية أيضا، لكنه ظل لسنوات يبحث عن صوته الخاص، ويصفيه، ليكتسب صفاته الإبداعية الخاصة، ليس ابتعادا عن منبعه العظيم، ولا تجنبا لهيمنته الضافية، فهو الحاضر بكامل بهائه إلى الآن، وسيبقي، لكن. لأن الشاعر يجب أن يصنع ظله الخاص، لا أن يكون ظلا لأحد مهما يكن عظيما كفؤاد حداد، فلا تميز للأشباه مهما برعوا، ولا حياة للظلال لأنها تنحسر. فالأصل عند آل حداد ثابت، والفروع وارفة الظلال.

ولن نجد أجمل من كلام «أمين حداد» عن نفسه، وعن والده، ونشأته، وحياته، لنقدمه به إليكم: «اسمى أمين فؤاد سليم أمين حنا عيد حداد، اسم كامل يكشف دين الأجداد وعروبتهم وتحولات العباد، وأنا رضيع سرقوا أبانا لمدة خمس سنوات، وزرته وأنا طفل فى معتقل الواحات، أنا ابن مصر بعطفها وقهرها، عشت فى عاصمتها فى جنوبها وغربها وشرقها، وُلدت فى الحلمية الجديدة وعشت طفولتى فى الإمام الشافعي، جزيرة الأحياء بين الجيرة والعشرة، والمدارس والقبور، والموالد والنذور، وعودة أبى من المعتقل، وعشت مراهقتى وشبابى فى مدينة الطلبة بين إمبابة والمهندسين ألعب الكرة فى الشارع وأقرأ الشعر والروايات وأذهب للسينما وأعود فى الليل بردانا أغنى لطيف الخيال وأنا أفرك يدى وأتمنى أن أحب، ثم أحببت حين دخلت الشمس إلى دنيتى وتزوجت حبيبتى وولدت لى أبنائى وغنيت مع أولادى الصغار، درست الهندسة فى جامعة القاهرة ومن عام واحد وثمانين وأنا أعمل فى القطاع العام والخاص والهيئات الحكومية بين الحاسبات ولغات البرمجة والشعر المرتجل ومتعة العمل وعكننته والجرى على لقمة العيش، لم أدخل الجيش ولم أحارب ولم أمت فى بحر البقر ولم أُسجن ولم أُعتقل ولم تصقلنى التجارب ولا أعيش إلا ما أقوله لكم».




مرحلة تكوينك كيف كانت وأنت محاط بعمالقة الشعر والإبداع فؤاد حداد وصلاح جاهين؟

فى بداياتى لم أُعد نفسى أبداً لأن أكون شاعرا، ورغبة الكتابة لم أرتب لها، لكن فؤاد حداد بالتأكيد كان هو الرافد الأساسى لتكويني، وصلاح جاهين الرافد الثانى من خلال القراءات له، وكان كتابه «قصاقيص ورق» أول كتاب أقرؤه فى حياتي، والرافد الثالث الحياة والمجتمع المحيط بي، المتمثل فى جدتى وحكاياتها، ووجودى فى بيئة شعبية بمنطقة الإمام الشافعى وقضاء طفولتى هناك، هذه الروافد شكلت وجدانى وتكوينى دون قصد أو سعى مني، لكنى كنت بداخلى أشعر بالخوف من كتابة الشعرفى بداياتى رغم وجود رغبة قوية لدي، وكانت هذه الرغبة مجرد أوهام أو أحلام بداخلي، حتى أننى ابتعدت تماماً عن الكتابة واتجهت إلى الرسم، ثم بدأت الكتابة باللغة الفصحى فى السر دون أن يعرف أحد، لخوفى الشديد من المقارنة بوالدى إلى جانب إحساسى بما هو الشىء الذى سأضيفه مع وجود العملاق فؤاد حداد، إلى 1981 عندما بدأ ظهور شباب شعراء فى منزلنا ويعرضون شعرهم على فؤاد حداد مثل بهاء جاهين وعمر الصاوى وجمال بخيت ورجب الصاوى وعمر نجم وغيرهم. وجدتهم يكتبون الشعر بطريقة مختلفة عن فؤاد حداد، وتيقنت وقتها بأنه ليس من الضرورة أن أكتب مثل حداد، من الممكن أن أكتب مثلهم، وبعد أن تخليت تماماً عن الشعر والخواطر وقمت بتمزيقها، بدأت كتابة الشعر العامي، وقرأته على فؤاد حداد ونال إعجابه، ومنذ ذلك الوقت أصبحت من هؤلاء الشعراء الشباب الذين لهم طريقتهم وأسلوبهم الخاص بهم.

حاولت الخروج من هيمنة فؤاد حداد، فكيف حققته، وهل وجدت صعوبة؟

فى البداية لم أجد أى صعوبة فعمرى كان 23 عاماً وكان لدى الوعى التام بمتى أشبه فؤاد حداد ومتى لا، وبرغم وجود المقارنة الدائمة بينى وبين والدى بأن «أمين يقلد والده لكنه ليس مثله»، ورغم عشقى لشعر فؤاد حداد فإننى لم أجد أى ميزة كونى ابنه، فوجود المقارنة الدائمة بيننا شىء مرهق ومربك للغاية، ويضع حملا ومسئولية كبيرين على عاتقي، لكنى استطعت أن أتصالح مع هذا الأمر لحبى الشديد للشعر كهواية وعشق، ولم يكن هدفى الشهرة أو الانتشار مثل فؤاد حداد، وكنت فى البداية مكتفيا بآراء أصدقائى فيما أقوم بكتابته مع النشر البسيط فى بعض المجلات مثل صباح الخير والثقافة الجديدة التابعة لقصور الثقافة، وإحساسى هذا بعدم الرغبة فى الانتشار أو أن أصبح شاعرا مشهورا مثل والدى كان يسهل الأمر كثيراً.

هل حب الشعر لدى الشاعر وأبنائه وراثة، ويدخل فى تكوين الجينات من وجهة نظرك أم يحدث بتأثير المجتمع المحيط فقط؟

بالتأكيد له علاقة بالتكوين الوراثي، وهذا ليس فى الشعر فقط إنما فى الفن بوجه عام، فليس شرطا بأن يكون ابن الشاعر شاعرا، قد يكون قصاصا أو يتجه لنوع آخر من الفنون، فالفن بجميع أنواعه يُورّث، لكن بالنسبة لى كانت البيئة المحيطة بى أرضا خصبة لذلك، ففؤاد حداد طوال الوقت كان يقرأ علينا أشعارا، وليس شعره فقط بل لشعراء آخرين أيضاً، فذلك لابد أن يجعل الشخص رغماً عنه يتجه لذلك.

التكوين الأول لدى فؤاد حداد مدهش، لأنه مزيج من المسيحية، والإسلاميات، منحنا هذا الخليط الرائع من وصف طقوس رمضان والمساجد ومكونات الجماعة الشعبية؟

هذا السؤال كان يجيب عنه «فؤاد حداد» بشكل أفضل مني، فأنا نشأت بين بيئة إسلامية، وفؤاد حداد من الأصل وفى تكوينه مشدود إلى الثقافة العربية المصرية الشعبية أيا كانت ديانتها، ويعشق الهوية العربية وقلبها مصر، فكان دائماً يقول لي: «أحب بيوت الفلاحين وملابس الفلاحات وألوانها المبهجة».

حدثنا عن تجربة شاعر العامية «متولى عبداللطيف» عندما سُجن مع فؤاد حداد وعملا ديوانا معاً؟.

فؤاد حداد كان يحاول طوال الوقت التجديد فى الشعر، ويميل لابتكار تجارب وأنواع جديدة، وحين كان فى المعتقل عام 1959 وإلى 1964 حدثت هدنة ووقف لعمليات التعذيب بعد استشهاد السياسى شهدى عطية، وفى تلك الفترة السلمية، تم إنشاء مسرح فى المعتقل وعمل عروض مسرحية عليه لألفريد فرج، ومسرحية «الشاطر حسن» الرواية الشعبية التى كانت مكتوبة بالنثر العامى المصرى بشكل رائع ولا مثيل له ومن تأليف فؤاد حداد ومتولى عبداللطيف، وكانت تُعرض كل يوم خميس من شهررمضان وكان فؤاد حداد هو الراوى ومحمد حمام المطرب أو سجين آخر يدعى شوكت وهو ملحن المسرحية، وفكرة التعامل مع الشاعر متولى عبداللطيف جاءت فى هذه الظروف، فهو شاعر جميل ومبدع ذو ثقافة ريفية ومقدرة رائعة على الحكى بالشكل الريفى البسيط وكان مثل حداد يريد دائماً عمل أفكار جديدة، وعندما يمتزج كل هذا بفصاحة فؤاد حداد يكون الناتج إبداعات فنية عظيمة، وبعد خروج حداد من المعتقل شجعنى أنا وشقيقى على الرسم ويقوم هو بكتابة أشعار على هذه الرسومات تصفها وقد نُشرت بعضها فى مجلة سمير فى عام 1966.

سئلت مرة فى إحدى الندوات كيف تدخن وأنت شاعر؟، وكانت إجابتك أنا أدخن كمهندس وليس كشاعر، ما الفرق بين أمين حداد المهندس والشاعر وما الأشياء المشتركة والمختلفة بينهما؟

هذا سؤال صعب. فلست أدرى هل يوجد تشابه واختلاف أم الاثنان يكملان بعضهما؟، فأنا فى الأساس مهنتى مهندس، والهندسة فى الحقيقة أفادتنى فى البعد عن شر إرغام نفسى على كتابة شىء أنا لست راضيا عنه، والهندسة والشعر شيئان مختلفان تماماً ولا يشبهان بعضهما البعض، وقد يكون ذلك سبب ارتياحى فى كتابة الشعر لبعد مهنتى الأساسية عنه واختلافه الكامل عنه، لقد اكتشفت فى خلال مشوارى بأننى أكتب شعرا رائعا عندما أحقق إنجازا ونجاحا فى عملى كمهندس، فجزء كبير من النجاح فى الفن والشعر يعتمد على الثقة بالنفس والرضا عنها حتى أصدق ما أكتبه، فحالة الرضا هذه كثيراً ما كانت تأتى بسبب مشروع رائع فى عملى كمهندس فأترجم السعادة بالإنجاز والزهو بالنجاح إلى شعر، الرضا عن الشعر يأتى من الهندسة، لذا أرى أن الشيئين يكملان بعضهما، وكل شخصية سواء كانت الشاعر أو المهندس أضافت للأخري.

ماذا عن دور الأم البسيطة فى حياة أمين حداد والزوجة فى حياة فؤاد حداد، بكل ما مرت به الأسرة من أحداث سواء الإبداع والنجاح والشهرة، أو السجن والاعتقال وتحمل المسئوليات؟

والدتى سرها يكمن فى البناء الإنسانى القوي، فالإنسان المصرى البسيط هو من وجهة نظرى حامى مصر عبر كل الأزمنة والعصور، من خلال صفات بسيطة مثل الأمانة ومساعدة الغير ومد يد العون للمحتاج وتحمل المسئولية، هذه الأشياء البسيطة الموجودة بشكل قوى وجاد، وأمى هى مثال واضح وصريح لهذا الإنسان المصري، فبالنسبة لتحملها المسئولية فهى كانت مؤمنة إيمانا تاما بزوجها فؤاد حداد وأنه رجل وشاعر عظيم جداً، بجانب حبها وعشقها الشديد له، وتحملت أيضاً مسئولية طفلين عندما كان فى المعتقل لمدة خمس سنوات، فكانت هى المسئولة عن تربيتهما وتعليمهما مع قلة الدخل وكسب جنيهات قليلة جداً لبعض الكتب التى كان والدى يقوم بترجمتها لمجلة صباح الخير، وهى كانت من النساء اللاتى ليس لديهن تطلعات فوق طاقة أو مقدرة زوجها، وكانت طلباتها للملابس أو المجوهرات مثلاً غير واردة إطلاقاً، وهذه البساطة والبناء القوى الأخلاقى المصرى المؤمن بحقائق الحياة البسيطة هو الذى جعلها تستمر وتحافظ على الأسرة بالرغم من بساطتها، فإنها كانت تملك نظرة نافذة تمثلت وظهرت بوضوح فى كيفية الحفاظ على تراث فؤاد حداد بعد وفاته، فالأسرة تملك تراثا ضخما ومهما، الدولة لم تقم بنشره بالرغم من سعينا فى جميع الأماكن لنشر هذا التراث الرائع، وكان أول شىء فكرت فيه والدتى بعد وفاة والدى فؤاد حداد هو شراء خزنة حديد لنضع فيها أعمال فؤاد حداد بخط يده خوفاً من ضياعها فهى كنز ثمين لا يقدر بثمن، واعتبرت تراث حداد الذى لم ينشر مسئولية وطنية وشيئا مهما جداً من وجهة نظرها لمصر وللتاريخ، وقُدمت لنا عروضا كثيرة لنشر هذا التراث خارج مصر لكن أسرة فؤاد حداد رفضتها لإصرارنا على وجود مؤسسة قومية هى التى تقوم بنشر أعمال الشاعر الكبير فؤاد حداد، وظللنا هكذا حتى عام 2006 عندما نشر دكتور أحمد مجاهد الأعمال الكاملة لحداد فى هيئة قصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب، و لا أستطيع أن أنسى دوره فى هذه المبادرة العظيمة لنشر تراث فؤاد حداد، شخصية أمى موجودة داخل شخصيات كل المصريين والمصريات، لكننا لا نعرف قيمة الكنز الذى بين أيدينا ولا نعيره اهتماما.

كيف أثرت الأحداث السياسية والتاريخية التى مر بها الوطن العربى بشكل عام ومصر بشكل خاص فى شخصية الشاعر أمين حداد من إحباط لأمل لغيرها من مشاعر تختلف بالتأكيد من مواطن عادى لشاعر؟

كان اهتمامى بالشأن العام فى بداياتى وليس مصر بصفة خاصة، فكلمة مصر بالنسبة لجيلنا كانت كلمة كبيرة وضخمة بعكس جيل فؤاد حداد وصلاح جاهين، ففكرة أننى أخاطب الجموع مثل حداد عندما يقول «يا سامعين أبناء بلد واحدة تحت السما الواحدة..» فهو يكلم شعبا بأكمله، وعندما قال صلاح جاهين «على اسم مصر التاريخ..»، ويخاطب مصر ويقول «اسمعى يا مصر اللى مفارق الدنيا..»، أما جيلى فكان شعره لمخاطبة حبيبته أو نفسه وكان هذا هو الغالب بالنسبة لنا، أما بالنسبة لى أنا كأمين حداد بدأت الكتابة فى الشأن الوطنى الصريح بعد وفاة صلاح جاهين وفؤاد حداد وكتبت قصيدة بعنوان «الوطن»، ربما لإحساسى بأن من كانوا مسئولين ومسموحا لهم بالكلام عن الوطن قد ذهبوا ولم يعودوا موجودين، ومسئوليتى أن أتكلم بعدهم وأستكمل مسيرتهم، ومع ذلك استطعت أن أتكلم عن الشأن العام بشكل مختلف عنهما، وبعد أن كنت لا أستطيع كتابة كلمة مصر لأنها أكبر منى حتى فى قصيدة «الوطن» لم أذكر كلمة مصر صريحة، وإنما قلت أن الوطن بالنسبة لى مفردات صغيرة، الحدث الثانى الذى هزنى هو حرب الخليج الثانية عام 1990 و1991 واحتلال الكويت، بجانب القضية الفلسطينية طبعا، ووصلت إلى ذروتها فى 2003 مع سقوط بغداد، فهذه الأحداث القوية جعلتنى أكثر جرأة فى تناول ما يحدث، لكن بعد 2003 مباشرة وسقوط بغداد لم اتكلم مطلقاً عن أى حدث عام ودخلت فى حالة صمت تام، عدا الكتابة فقط بسبب ما أصابنى من حالة إحباط قوية، وأثر ذلك فى شخصيتى فكنت أكثر مرحاً وانطلاقاً قبل هذا الحدث الذى كان بمثابة زلزال حدث بداخلي، فعام 2003 يعتبر كسرة شديدة جداً لي، فصورة شد وتحطيم تمثال الرئيس العراقى صدام حسين من قبل الجنود الأمريكان كان إحباطا وحزنا لا أستطيع وصفهما مع غياب وفقدان للأمل، إلى أن جاءت ثورة 25 يناير 2011 التى كانت من أكثر الأشياء التى حدثت لى وكانت بمثابة هزّة عنيفة لى للخروج من حالة الحزن والإحباط، ونطقت وقتها بأعلى صوت «يا مصر» وأتحدث إليها وأخاطبها، فما حدث فى 25 يناير وما بعدها هو تغير كبير فى الشخصية المصرية، وأن الشباب المصرى الذين عاصروا وشهدوا الثورة بأعينهم هم جيل مختلف وقوى شىءنا أم أبينا.

الشعر يعتبر قوة ناعمة، كيف ترى مكانته الآن، وهل يختلف عن الماضي، وهل يوجد بصورة جيدة مع التطور التكنولوجى الرهيب فى العالم؟

أرفض استخدام تعبير «الآن والماضي»، ففؤاد حداد نفسه لم يظهر فى أمسيات شعرية إلا فى آخر سنة من حياته عام 1985، وفى فترة السبعينيات والثمانينات لم يكن فؤاد حداد وصلاح جاهين من شعراء الصفوف الأولى والموجودين فى المقدمة، لكن كان يوجد شعراء آخرون سواء فى شعر الفصحى أو العامى هم الذين دائماً فى المقدمة وهم من يُلقى الضوء عليهم، مثل الأستاذ فاروق جويدة والشاعر عبدالرحمن الأبنودي، أما فؤاد حداد فبدأت معرفة الناس به بعد وفاته، فنحن نواجه مشكلة أكبر من الشعر والرواية مشكلة تواجه الثقافة بشكل عام فى مصر، فنحن لا نملك خريطة ثقافية مصرية، فمثلا عند ذكر اسم فؤاد حداد على عامة الشعب قد لا يعرفه الكثيرون عدا المثقفين والنقاد والمهتمين بالشعر، فلا توجد آليات ووسائل للتعريف بالشعراء الجدد المتميزين ورسم طريق لهم حتى يأخذوا مكانهم الحقيقى فى خريطة مصر الثقافية، ولا توجد كذلك حركة نقدية ثابتة نستطيع من خلالها غربلة الشعراء مع وجود هذا الكم المرعب من شعراء العامية الذين ظهروا فى مصر واختلاط الجيد بالسيئ، ولذلك فالمشكلة ليست شعر إطلاقاً ولكنها الثقافة بشكل عام.

أين أنت من الأشعار الغنائية خاصة أنها من السبل المهمة للوصول إلى المصرى البسيط كتترات المسلسلات مثلاً؟

كنت أرى أننى أكتب الشعر كهاوٍ، ولست محترفا، أنا مهندس وأكتب شعرا، لكن بعد قيام ثورة 25 يناير وظهور فرقة اسكندريلا وغنائها أشعارى وقصائدي، بجانب أغان قمت بكتابة كلماتها خاصة بالفرقة، فوجدت أنها لاقت نجاحاً وانتشاراً واسعا، لكن لم أتلق أي عروض لكتابة كلمات لمقدمة أو نهاية مسلسلات، ولا أسعى لذلك، فتوجد أسماء معينة معروفة فى هذا المجال ومنهم عظماء مثل سيد حجاب وأيمن بهجت قمر على سبيل المثال، وأيضاً نفس الكلام على الملحنين أسماء معينة فقط هى الموجودة على الساحة.

أين فرقة الشارع وفرقة اسكندريلا؟

فى حالة سكون نوعاً ما وليس اختفاء تاما، فكيان فرقة إسكندريلا موجود، وفرقة الشارع أقل تواجداً، ومن المعروف أن دورة حياة الأمسيات الغنائية غير دورة حياة الحفلات الغنائية، ولابد أن نعترف بأن المنابر التى ينطلق منها الغناء فى مصر أصبحت قليلة جداً خاصة هذا النوع من الفن والغناء الثوري، فمثلاً فى أيام ثورة 25 يناير كانت دار الأوبرا المصرية ومركز الهناجر مفتوحين لهذا النوع من الغناء، ولكن الآن للأسف الأماكن قلت للغاية وأصبحت غير متاحة عدا ساقية الصاوى فقط، فهذا النوع من الفرق الغنائية المستقلة نجد أن إنتاجهم قل لأنهم يحتاجون إلى مساعدة معنوية وتشجيع وتحفيز، إلى جانب أن أعضاء الفرقة يشغلون وظائف أخرى خاصة بهم فهم غير متفرغين تفرغا تاما للغناء، ففكرة تجميعهم فى أوقات مناسبة لهم كلهم تكون صعبة بعض الشىء.

هل بالضرورة يوجد تشابه بين ما يقدمه الفنان من إبداعات وآرائه وصفاته الشخصية؟

قد يبدو وجود ارتباط ما بين الجودة الفنية والعمل الفنى لأى فنان أو أديب وبين موقفه أو رأيه السياسى والاجتماعي، وهذا الرأى خطأ فقد يكون شخصا آراؤه وإتجاهاته السياسية كلها ليست تتفق معى وأنا ضدها ومختلف معه تماماً لكنه فنان وأديب عظيم، فمثلاً الكاتب الكبير نجيب محفوظ فى موقفه تجاه اسرائيل أنا مختلف معه كل الإختلاف، لكنى لا أستطيع أن أنكر أنه مبدع عظيم وعبقري، وأنه أهم روائى عربى لجميع العصور، ومن الممكن أيضاً وجود كاتب أو فنان ليس بالشخصية الطيبة ولكنه قد يكون كذلك أديبا أو فنانا رائعا، وكذلك فنان قد تكون موهبته فقيرة جداً لكن اتجاهاته تناسب تيارا ما فيصبح فنانا مشهورا وهكذا، فيوجد الكثير من الخلط بين سمات الشخصية وبين ابداعاتها وهذا يرجع إلى غياب النقد الفنى الصحيح والواعى والمتخصص الذى يستطيع الفصل الكامل بين الشخصية وما تقدمه، فلابد أن ننظر إلى قيمة الفن والصدق الفنى بمنظور مختلف، فالصدق كما قلت من قبل هو مفتاح النجاح وليس التصنيف السياسى أو الاجتماعى أو الأخلاقي.

والدك الشاعر العظيم فؤاد حداد كيف كان يستقبل أشعارك، هل كان يقوم بتصليح مفردات لغوية أو نحوية؟ وهل تقوم بالدور نفسه مع ابنك الشاعر أحمد أمين حداد؟

موقف فؤاد حداد فى النقد دائماً هو وضع يد القارئ على مواطن الجمال فى النص، فكان عند قراءة قصيدة ما لى فكان يقول على أحد الأبيات مثلاً «إيه الحلاوة دي..» فكنت أطير من السعادة عند سماعى هذه العبارة، وهذه الطريقة كانت مع كل الشعراء الذين كانوا يعرضون عليه أشعارهم وليس أنا فقط، وكان يظل يردد البيت الذى أعجبه علينا حتى بعد ذهاب الشاعر، أما بخصوص الأخطاء اللغوية ولأننى اكتب شعرا عاميا فلا أذكر انه قام بتصحيح أى كلمة، قد يعترض على معنى كلمة ما ويطلب منى تغييرها أو أشياء معينة فى تقنيات الشعر يطلب استبدالها، ومن الممكن ألا تعجبه قصيدة كاملة ويقول رأيه بمنتهى الصراحة، وأنا كنت أعرض عليه جميع قصائدى ومنذ خروجه من المعتقل عام 1964 وحتى وفاته عام 1985 لم يكتب قصيدة إلا وكان يقوم بقراءتها أمام الأسرة كلها. وأنا كذلك مع ابنى ومع الشعراء الجدد لا أقوم بالتصحيح لهم لكن إبداء رأيى فقط بأنه جيد أو لا، ومع وجود مواقع التواصل الإجتماعى أصبح كل من لديه الرغبة فى الكتابة يكتب أى شىء ويضعه عليها وأنا أرى أنه شىء سيئ جداً.

مَن مِن الشعراء الجدد تتابعهم وتجد فيهم مشروع شاعر جيد؟

يوجد الكثير منهم أحمد حداد ومحمود عزت ومصطفى ابراهيم وهم من الشعراء الذين أتوقع لهم مستقبلا عظيما فى الشعر بالرغم من أنهم مقلون فى الظهور على مواقع التواصل الإجتماعى ولكن لهم دواوين وسعيد شحاتة وعمر سامح وهما أكثرهم نشراً لدواوين جيدة ومايكل عادل شاعر ثورة رائع، ومن الجيل الوسط أذكر محمود فهمي.

حدثنا عن طقوس رمضان فى منزل مسحراتى مصر؟

نحن بيت مصرى عادي، وهذا هو الكنز الذى نمتلكه، ففؤاد حداد كانت عبقريته فى أنه يشبه شعره، فأول يوم فى شهر رمضان توجد عادة منذ وجود والدى ووالدتى وحتى الآن محافظين عليها ولم نتخل عنها وهى تجمع العائلة بأكملها ونتناول الإفطار والذى يتكون من الملوخية بالأرانب وورق عنب، مثلنا مثل غالبية البيوت المصرية، وبمناسبة رمضان والسحور وأغنية مسحراتى لسيد مكاوى والتى هى من كلمات والدى فؤاد حداد فأنا أتذكر أول رمضان أذيعت فيه هذه الأغنية كان فى عام 1964 وكنت وقتها فى السادسة من عمرى ولأنه كان وقت إذاعته عند الفجر تقريباً فأيقظونى أنا وشقيقى لنستمع إلى الأغنية، فأنا أتذكر هذا اليوم وكأنه بالأمس وكنا نتناول ساندويتشات صغيرة من الجبن ونحن نستمع إلى أغنية المسحراتي، وكنت وأنا صغير فى اعتقادى أن هذه الأغنية والسحور هما رمضان، ومن وجهة نظرى نجاح هذه الأغنية وارتباطها الوثيق بشهر رمضان لدى المصريين جاء من الصدق الذى كُتبت بها كلمات المسحراتي، فالمواطن المصرى البسيط ليس ساذجا ويستطيع تمييز ما يصدر من القلب بصدق، فالفنان العظيم محمد عبدالمطلب عندما يقول «أهلاً رمضان» بصوته القوى ويلاقى كل هذا النجاح فلأنه فى المقام الأول سببه الصدق، ولأن هذا الجيل صادق فهو فعلاً يرحب برمضان ويشعر بذلك بكل أحاسيسه، لذلك فإن عبقرية فؤاد حداد وسيد مكاوى فى أغنية المسحراتى جاءت من فرحتهما الحقيقية بكلمات الأغنية وإحساسهما الصادق بها، وبالتالى الشعب ينجذب مباشرة إلى هذا الإحساس الداخلى فهو شىء يشبه المغناطيس، وقد تظهر بعض الأغنيات الأخرى ويكون استقبالها جيدا، لكنها لا تعيش طويلا مع أجيال كثيرة، فالموضوع ليس «شطارة» فقط فيوجد الكثير من الشعراء والمطربين «الشطار» والناجحين لكن قد ينقصهم هذا العنصر المهم وهو الصدق بما يقدمونه، ففؤاد حداد وسيد مكاوى عرفا أين نخاع الشعب ولمساه بمهارة، والشعب المصرى يحب النجاح ويحب الأشياء الجميلة ويسعى لإنجاحها إذا لمست قلبه ومشاعره.