بدأت لجان مجلس النواب المختلفة فى مناقشة مشروعى خطة التنمية الاقتصادية والموازنة العامة للدولة عن العام المالى 2019/2018، وذلك بعد ان انتهت تقريبا من مناقشة الحساب الختامى عن العام المالى 2017/2016، وكلها وثائق مهمة وضرورية نتمنى أن تأخذ حقها من مناقشة موضوعية نظرا لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة اليومية للمواطن خاصة بعد أن أصبح العجز والدين العام يمثلان عقبة أساسية أمام صانع القرار فى اتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات لتحسين معيشة السواد الأعظم من المجتمع ،لكل هذه الأسباب وغيرها أصبحت مسألة إصلاح المالية العامة وتوليد المزيد من الإيرادات وتوجيهها نحو الانفاق والتعامل مع الدين العام، من الأمور السياسية الساخنة أكثر من أى وقت مضي، فى معظم بلدان العالم وأصبح هناك مطلب عام بضرورة استعادة الجانب الأخلاقى فى الفكر الاقتصادي، بما يؤدى الى ان تركز عملية صنع السياسات الاقتصادية على المصلحة العامة، بوصفها قيدا أساسيا على الية السوق، وهو ما يعنى السماح للجميع بإطلاق قدراتهم مع ضمان توجيه هذه القدرات نحو أهداف مشتركة متفق عليها فى إطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة لهذا لم يكن غريبا ان تناقش الوثيقتان معا حيث إن الاولى هى التعبير المالى عن الثانية
وعلى الرغم من تراجع العجز الكلى فى الموازنة العامة من 12٫5% عام 2015/2016 الى 10٫9% عام 2016/2017 الا انه مازال عند مستويات مرتفعة، ناهيك عن ارتفاع حجم الدين العام (المحلى والخارجي) بصورة كبيرة، حيث وصل إجمالى دين أجهزة الموازنة الى نحو 106% فى نهاية مارس 2018 الامر الذى أدى الى ارتفاع عبء الدين (الفوائد والاقساط) اذ تشكل الفوائد فقط نحو 70% من الإيرادات الضريبية فى مشروع موازنة 2018/2019، أى ان خدمة الدين المرتفعة تؤدى الى تحويل الموارد اليها بدلا من الاستثمار فى المجالات الحيوية والخدمات الاجتماعية الضرورية ولذلك من الضرورى أن تبذل الحكومة الجهود لوضع العجز والدين فى اتجاه تنازلى ثابت وفى اتجاه الأهداف التنموية على الاجل المتوسط وهنا يصبح التساؤل ماهى أفضل السبل للتعامل مع العجز والحد من خطورته؟ وكذلك السيطرة على الدين العام؟ وهى مسألة مثارة بشدة فى الادبيات الاقتصادية حيث يرى البعض أن خفض الانفاق العام هو أفضل الوسائل المحققة لذلك، بينما وعلى النقيض من ذلك يرى الآخرون ان خفض الانفاق يلحق ضررا كبيرا بالنمو الاقتصادى وبالتالى يجب المزيد من الإنفاق.
والسؤال هل هناك حد أمثل لعجز الموازنة يمكن ان يتحقق دون ان يؤدى إلى آثار سلبية على الاقتصاد القومى والمجتمع ككل؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فما هو هذا الحد وكيف يمكن تحديده أو قياسه؟ وهل هذا الحد يصلح لجميع البلدان بغض النظر عن ظروفها الاقتصادية وأوضاعها الاجتماعية؟
ولا شك ان الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ليست بالبساطة التى يتصورها البعض ،خاصة ان الدراسات تؤكد ان نفس مستوى العجز يمكن ان ينتج عنه آثار اقتصادية شديدة الاختلاف من دولة لأخرى وذلك حسب هيكل الإنفاق العام والهيكل الضريبى والأساليب المختلفة لتمويل العجز. فهناك ارتباط وثيق بين الطريقة التى يمول بها العجز والأهداف الاقتصادية التى تسعى الحكومة إليها كما أن علاج عجز الموازنة لا يعنى إنهاءه بل يشير ببساطة إلى المستوى الذى يصبح عنده الاقتصاد قادرا على النمو دون مشكلات تضخمية او ركود، وهو مستوى يجب البحث عنه بدقة وعناية فى ضوء الخبرة التاريخية للاقتصاد القومى وكذلك الأوضاع الاجتماعية الراهنة. وهو ما يجب أن يتم فى إطار رؤية تنموية متكاملة ومن منظور شامل وواسع يأخذ بعين الاعتبار علاج الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد القومى ويدفع عجلة التنمية إلى الأمام، وبالتالى ينبغى أن توجه سياسات الإصلاح المالى إلى تحقيق هدف النمو الاقتصادى على الأجل الطويل. وذلك عن طريق رفع كفاءة الاستخدام للموارد المتاحة وتنميتها. وهو ما يتطلب بالضرورة تحول النقاش من حجم العجز إلى مكونات الإنفاق العام والهيكل الضريبى الخ. فالتركيز على خصائص السياسة المالية لا موقفها هو الأجدى والأنفع من المنظور التنموي. وبالتالى يجب تطبيق السياسة المالية الذكية وهى التى تقوم على النمو الاحتوائى وتتجنب عدم المساواة فى توزيع الدخول الذى يعيق عملية التنمية ويضعف التماسك الاجتماعي، وهو ما يتطلب استخدام الأدوات المالية بطريقة سليمة وبالذات الضرائب عبر الاتجاه نحو الضرائب التصاعدية والإصلاح الضريبى الشامل مع تبسيط الإجراءات وإلغاء الاعفاءات، وعلى الجانب الآخر اصلاح الإنفاق العام وخفض الانفاق غير الضرورى والمظهري، والحفاظ على الاستثمارات العامة الدافعة للنمو وتحسين كفاءتها وتحسين جودة الخدمات العامة كالصحة والتعليم فزيادة الاستثمار العام لتحسين البنية الأساسية المادية لتسهيل الاستثمار الجاد والمنتج، قد تؤدى إلى ارتفاع نسبة العائد على رأس المال. كما أن الإنفاق العام على التعليم يزيد من رأس المال البشرى وبالتالى يعد بمثابة استثمار قومى جيد يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول وهذا لا ينفى بالطبع أهمية العمل على تحقيق فاعلية الإنفاق العام عن طريق ضمان التأكد من إن هذا الإنفاق يذهب فى الغرض المخصص له، والعمل على بناء حيز مالى عن طريق توليد المزيد من الموارد العامة، خاصة من الأصول المملوكة للدولة وغير المستغلة وهو ما يمكن ان يولد عائدات كبيرة للخزانة العامة من هنا يحتاج التحرك نحو إصلاح السياسة المالية إلى سلة من الإجراءات والسياسات تتفاعل مع بعضها البعض وتتناول جميع جوانب السياسة المالية الإيرادات والنفقات بل وأيضا أسلوب إعداد الموازنة. ولكن مع التنبيه على خطورة علاج العجز بمزيد من الانكماش لأنه يعطل التنمية ويزيد من مشكلة البطالة ويؤثر بشدة على مستوى معيشة الأفراد. ولذلك علاج العجز ينبغى ان ينطلق من عدة مبادئ أساسية تكمن فى أن علاج العجز لا يعنى القضاء عليه بل الوصول به إلى مستويات مقبولة مجتمعيا، كما أن هذا العلاج سوف تترتب عليه تكاليف معينة يجب ان تتحملها الشرائح الاجتماعية المختلفة وفقا لاعتبارات العدالة. وأخيرا فإن علاج العجز يجب أن يتم على مدى زمنى متوسط وطويل وليس على المدى القصير.