عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
فى ذكرى صاحب أجمل معالجة إذاعية لـ «ألف ليلة وليلة» الشاعر طاهر أبو فاشا.. راهب صوفى فى محراب العشق الإلهى
6 مايو 2018
فاطمة دياب
طاهر أبوفاشا


بعد ايام قليلة، تحل علينا ذكرى الراحل الكبير الشاعر «طاهر أبو فاشا»، وليس ثمّة أفضل أمامنا التجول في عالمه الإبداعي والصوفي، الذي كشفت جانبا منه أغنيات فيلم «رابعة العدوية» شهيدة العشق الإلهي، وهو الهائم في دنيا الإبداع والروح، وراهب الليل الذي أعجز «سيف شهريار» عن بطشه بعد سنوات من سفكه دماء الجواري الحسان، وأعلى مكانة «شهرزاد» إلى مرتبة عجز عنها الحكماء، لتمكنها من تحويل فكر «الملك شهريار» المتعطش للإطاحة برقاب نسائه، فكانت ببساطتها الفطرية وعقلها الذى سبق للمعرفة ايذانا بميلاد جديد لها ولليالى العشق المنسية وقصائد وحكايات الليل غير المنقطعة سوى بخيوط الفجر الإلهى. وهذا ما صنعه «طاهر أبو فاشا» بعبقريته في «ألف ليلة وليلة» الساكنة في وجداننا حتى الآن. وهو ما يشجعنا على فتح أبواب عالمه لنذكر من يعرفه، ونعرّف الأجيال الجديدة به.



ولد «أبو فاشا» في دمياط يوم 22/12/1908، وتعاودنا ذكرى وفاته 12 مايو المقبل. وهو أشهر من حوّل كتاب «ألف ليلة وليلة» إلى مسلسل إذاعي، يذكره كل مستمعى الإذاعة في مصر وخارجها، واستطاع أن يستخلص منه الحكايات المدهشة، من دون الإباحيات التي يعج بها، بلغة وسرد لا مثيل له، وأضاف إليه كثيراً من حكاويه الخيالية، التي اكتسبها من واقعة لسردها ضمن روعته هذا كما قال هو شخصيا. ويعتبر المعنيون أن تألقه الرئيسي كان فى هذا المسلسل، حيث عكس وعيه العميق بالتراث، وقدرته المدهشة على محاكاته، وإعادة الاعتبار لهذا الكتاب الأعجوبة، الذي اعتبره بعض المثقفين من أبناء جيله كتاب خرافات وأساطير وإباحية. وبالرغم من تعليمه الأزهرى، كان منفتحا على التراث الشعبى، ويدرك أنه السجل الحقيقى للهوية الثقافية، وحقيقة الخيال المصرى الذى صاغه بقالب قصصي بديع اختار له لغة رائعة، وأصبحت اللهجة العامية المصرية أدبًا رفيع المستوى، حيث احتشدت المفردات العامية التى نستخدمها فى الحياة اليومية بمضامين درامية شعرية غاية فى البلاغة، وسجع موسيقى يجسد الطابع الاسطورى والخيالى الذى تدور ضمنه حكايات شهرزاد العبقرية.



وهنا يقول عنه الشاعر والباحث «مسعود شومان»: أبو فاشا كان أحد المستلهمين الكبار للتراث الشعبى العربى، ولم يلتزم بالنص الأصلى، بل طوعه بإبداع لا نظير له، وقدم فيها عيون القصص الشعبية، لكنه حافظ على الهيكل والبناء الكلى لفكرة الكتاب والحكايات فى إطار تتوالد من خلاله القصص، وهى عبقرية لا يستطيعها غير أبو فاشا، وأستطاع أن يطور لغتها التراثية دون المساس بها للغة تخاطب زمانها».



ويتفق معه د. «أحمد درويش» بقوله: «مؤلف ألف ليلة وليلة هو الراوى الشعبى الذى استطاع أبو فاشا التقاط جملها ونصوصها ليقدمها بعبقرية فذة عن طريق الإمساك بجوهر العمل واللغة المناسبة للمتلقى». «واستطاع اللعب على عنصر الزمن بإبقاء شهريار فى حالة نشوة مستمرة، وانتظار للغد غير آبه بفكرة استعمال السيف على يد سيافه، بل جعل من الزمن عنصر التشويق، والتمنى بامتداد العمر حتى يسمع شهريار حكايا شهرزاد التى لا تنتهى، كما أنه نجح فى إظهار القوة الحقيقية للمرأة فى تعطيل سيف سياف شهريار، كما أظهرت قدرته على المحاكاة، وعمق تملكه وتمكنه من التراث والثقافة العربية. وربما جاء هذا على حساب إبداعاته الأخرى، فله ستة دواوين من الشعر،«لا تجف دموعى»، و«راهب الليل» و«الأشواك»، و«صورة الشباب»، و«القيثارة السارية»، و«الليالي».



وقال الكاتب الراحل «ثروت أباظة» عن ديوانه «راهب الليل»: « كل بيت فيه يشعرك بالأسى، فهو رواية وذكر، وقصيدة فيها رنين خاص تموج بالحياة فيها الأعاصير القوية. وهو الراهب فى «راهب الليل»، فى محراب الملكوت والعشق، ولعل ديوان الاشواك الذى قدم له مطران من أروع ما قيل فى الشعر، لأن قصائده كانت صك اعتراف من مطران الشاعر. وأبو فاشا الشاعر الإنسان لم يسلم من أقداره التى زادته ثقلا إبداعيا، فكتب ديوانه «لا تجف دموعى» فى قصيدة واحدة رثاء لزوجته نازلى، وقال فيه:



أتى العيد نازلى ولم نلتق



وغامت سمائى فلم تشرق



أتى العيد يطرق بابى فما أجاب



سوى دمعى المهرق



وأبو فاشا الشاعر الإنسان، والراهب الصوفى العاشق لكل شىء. خرج من الثقافة الأزهرية لينضج فى بيت إبراهيم الدسوقى أباظة الذى فتح له أبواب الصعود للتعرف فيها على تيارات ومدارس فكرية مختلفة، فتنوعت رؤاه بين المحافظة والتجديد، واستخلص لنفسه أسلوبا تميز به عن أبناء جيله، وكان خليقا أن يكون أعظم شعراء جيله فصياغته المنسابة الرصينة مع حداثة التعبير والقدرة الفائقة على اختيار الألفاظ الشعرية والتعميق، فى اللغة مع الموهبة الباذخة كل ذلك كان جديرا بأن يجعله غير متشابه.



وأكد رأى ثروت أباظة هذا الباحث «عزت عبدالرحمن على الدين» الذى أعد عنه رسالة ماجستير «أبو فاشا شاعرا». جمع فيها كل أعماله، وقال عنه معتدلا بين إفادته من التراث القديم، ومحاولات التجديد، ومحافظته على أن تكون القصيدة عربية الشكل، والمضمون، ويستعمل فى الوقت نفسه الخيال وتنوع شعره بين الغزل والمدح والوصف والرثاء، ورغم ذلك لم يكن مقلدا لأحد، وهذا ما جعل الامير فيصل يطلب من وزير الثقافة السعودى «عبدالعزيز فحيص» جمع أعمال أبو فاشا «الصوفي العاشق»، و«أبو فاشا وألف ليلة وليلة» الذى ربط الواقع بالخيال بحركة الزمان، وكأنه تأرجح بين وحى ثقافته التى شبّ عليها وتمرده وثورته، وهو ما ظهر فى عمله «رابعة العدوية»، الذى قدم فيه معالجات تظهر صوفية رفيعة، ولونا متميزا من خلال مقامات التصوف العليا التى لا يصل إليها المريدون إلا بعد عبور جسور عديدة من المجاهدة النفسية والرياضية داخل دائرة ومتاهات النفس والروح، وهو المتأثر برموز التصوف كالحلاج والسهروردى وابن عربى وابن الفارض، لكنه وحده مزاوجة العلاقات الإنسانية بالأشواق الإلهية، وتميز فيه بروح خاصة، حيث يرى التصوف طبيعة إنسانية عليا ظهرت مع ظهور الإسلام، وهذا هو ما جعل ملحمة رابعة العدوية خالدة، العشق الإلهى فى ذات الله تجعلنا نشعر به وبقيمه النبيلة فى الحياة.



وهنا الشاعر الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى»قال إن موهبته الحقيقية كانت فى الشعر، وقد أصدر أعمالاً فى العشرين من عمره، وقدم له «مطران خليل مطران ديوان «الأشواك» مما يدل على موهبته ومعرفته بأدوات الكلمة والشعر والمقامات، وأنا لا أنسى وقع ما نظمه فى موشح «حانة الأقدار»:



وهو ضمن إطار شعرى بديع من الشعر الغنائى، والذى لا أجد أجمل منه فيما كتب من هذا النوع فصوفية أبو فاشا فى «حانة الأقدار» وصلت لأعلى مستوياتها، فهو يقول :



حانة الأقدار عربدت فيها لياليها



ودار النور والهوى صاحى



هذه الأزهار كيف نسقيها وساقيها



بها مخمور كيف يا صاح



ويقول حجازى لقد كتبت مقالا عن الموشح قلت فيه إن حانة الأقدار هى أبدع ما قيل فى الموشح الصوفى، الذى اعتلى به أبو فاشا الأمكنة وأزمنة عالية استطاع أن يخرج بالعشق الإلهى لمراتب ومصاف نخبته، حيث يحول شعر الحب والخمر إلى شعر صوفى، فالخمر هى الخمرة الإلهية، وشعر الحب الذى تحول الشعر العشق الإلهى وحانة الأقدار رمز من رموز العشق الإلهى تفسر هذا التفسير الصوفى. وهو كما رأيناه لدى إبن الفارض والحلاج وابن عربى والسهروردى، حيث تزاوج الإنسانية بالأشواق الإلهية مما أعطى التناول بعدا عميقا، أحد بواعثه استرواح الروح المصرية الصميمة.



ولننظر لهذه الأبيات الصوفية العرفانية



عرفت الهوى منذ عرفت هواك



وأغلقت قلبى عمق عداك



وقمت أناجيك يا من ترى



خفايا القلوب ولسنا نراك



ولنرى سويا أحبك حبين حبالهوى



وحبا لأنك أهل لذاك



وأبو فاشا الزاخر بكل ما هو إنسانى ليتحدث للهواء لليل للسماء لكل ما حوله حتى إنه حاور الطير فى حالة عشق غير منطقية لا حساب لها سوى الانغماس فى مشاعر الهوى الخلاقة يقول:



ورحت إلى الطير أشكو الهوى



وأسأله سر ذاك الجوى



فقال حنانك من جمرة



ومن نهيه فيك أو أمره



ومن صحو ساقيه أو سكره



وهكذا يكون أبو فاشا أحد الهائمين فى فضاء العشق الإلهى، حيث يضخ عشقه بقوة فى «رابعة العدوية» حينما يقول:



أشتاق شوقين شوق النوى



وشوقا لقرب الخطى من حماكما



فأما الذى هو شوق النوى فمسرى الدموع لطول نواحتى



ولست على الشجو اشكو الهوى



رضيت بما شئت لى فى هواكما



مما يؤكد عزفه على أوتار الصوفية التى كانت تروق له وتجد صدى فى فؤاده.



وكما تنقل أبو فاشا بين السرد والشعر، برع في التوثيق والتحقيق، فهو الذى وثّق كتاب «هز القحوف فى شرح قصيدة أبي شادوف»، وهى وثيقة تاريخية عن عصور القهر والظلام لشعوبنا تحت الاحتلال، حيث وثق لها وأخرجها للقارئين ليضع أيديهم على معالم حياة الشعوب فى ظل القهر والظلم ووطاة الاحتلال موثقا أن حرية الإنسان هى نبع إبداعه.



وكذا أبدع أبو فاشا فى الكتابات السياسية وأدب الرحلات، وسجل فى كتابه «ما وراء تمثال الحرية» رحلته إلى أمريكا، وكيف رأى الفرق بين ثقافتى العرب والآخر، كما كتب عن حال المبدعين فى عصره من خلال كتاب «الذين أدركتهم حرفة الأدب»، و«قصة ميناء دمياط»، و«بناء السد العالى»، وكثير من الأعمال الإذاعية. ويختم د. حامد أبو أحمد رحلة الغوص فى ذاكرة الثقافة الذى يقول عن أبو فاشا إنه أديب وإنسان لا يتكرر، خاصة فى صوفيته التى خرج بها للفضاء الأوسع ليتربع عند الشعر الصوفى بجوار شخصيات لها رنينها، كالشيخ الأكبر محيى بن عربى مثلا، وهو أديب قريب جدا من التراث عارفا به، ساعده فى الإدلاء بأشعاره الصوفية البديعة.