أشرنا فى مقالنا السابق الى أن الولاية الثانية للرئيس عبد الفتاح السيسى تتطلب الانتقال إلى المرحلة الثانية من الإصلاح الاقتصادى, وتحقيق التنمية بالبلاد, وذلك عن طريق العمل على احداث زيادة مطردة ومستمرة فى اشباع الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية للأفراد، وبالتالى إحداث تحول جذرى فى المجتمع يؤدى الى القضاء على التخلف ويزوده بآليات التقدم والنهضة. ولهذا يجب العمل بمفهوم «التنمية الاحتوائية الشاملة» التى ترى أن النمو وعدالة التوزيع وجهان لعملة واحدة، وأن العدالة الاجتماعية تعد قوة دافعة للنمو الاقتصادي. وذلك انطلاقا من إن السياسات الملائمة للنمو الاقتصادى طويل الأجل، هى تلك التى ترتبط بتحسين توزيع العوائد الاقتصادية على جميع قطاعات وفئات المجتمع. وحجر الزاوية هنا هو زيادة التشغيل ورفع الإنتاجية. وهذا لن يتم إلا عبر تفعيل آليات السوق الديمقراطية وتنشيط جهاز الأسعار وتدعيم القطاع الخاص مع رفع كفاءة الدولة فى إدارة العملية الإنتاجية. فهناك العديد من القضايا التى تهم المواطن وتحتاج الى العناية الفائقة من جانب صانعى القرار الاقتصادى بالمجتمع، ونقصد بها تحديدا تواضع مستويات الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتاكل الاراضى الزراعية نتيجة للزحف العمرانى عليها، وارتفاع معدلات الأمية وغيرها من المشكلات. وهو ما يدفعنا بالضرورة الى المطالبة بالإسراع باتخاذ سلة من السياسات والإجراءات التى تساعد فى تحقيق الانطلاقة الاقتصادية.
إن الانطلاق بأى عملية تنموية فى مصر يواجهه تحد رئيسى هو كيفية تحول المجتمع إلى مجتمع منتج؟ ويدفعنا للتساؤل عن الكيفية التى يمكن بها إحداث النقلة المطلوبة فى المجتمع وجعله أكثر كفاءة وقدرة على التعامل مع الأساليب التكنولوجية الحديثة واستيعابها داخل الاقتصاد القومي؟
إن التصدى لهذه المشكلات وغيرها يتطلب العمل على إحداث التغييرات الهيكلية المطلوبة فى الاقتصاد المصرى التى تساعد على زيادة قدرته على توليد المزيد من فرص عمل والدخول لمختلف فئات المجتمع. وذلك عن طريق تدعيم القطاعات الإنتاجية (الصناعة والزراعة على وجه التحديد) وإزالة المعوقات التى تحول دون ذلك. جنبا الى جنب مع مراعاة الفئات الاجتماعية الضعيفة ومحدودى الدخل عن طريق زيادة قدرتهم على الكسب وإصلاح سياسة الدعم بما لايضر بمصالح الفقراء ومحدودى الدخل. فضلا عن الاستمرار فى محاربة الفساد بجميع اشكاله وتحقيق الاصلاح الادارى المنشود. مع تأكيد ان ذلك كله لن يتم إلا فى إطار إصلاح مؤسسى شامل يقوم على أسس الحوكمة الجيدة كمدخل أساسى لانطلاق عجلة الإنتاج. وكلها أمور لن تتحقق إلا برفع معدلات الاستثمار ليتحقق معدل النمو المستهدف واللازم لاستيعاب الداخلين الجدد فى سوق العمل. وذلك عبر العمل على إعادة تشغيل المصانع المتوقفة عن الإنتاج أو تلك التى تعمل بأقل من طاقاتها الإنتاجية. أيضا تسوية المنازعات الخاصة بالملكيات العقارية فى شأن أسس تسعير الأراضى وحقوق الاستغلال والانتفاع. وتوجيه الاستثمار العام نحو استكمال وتطوير وتنمية البنية الأساسية. مع إعطاء دفعة قوية للمشروعات القومية الكبرى فى شرق بورسعيد وشمال غرب خليج السويس، وسيناء وكل اقاليم الصعيد. على أن يتم ذلك من خلال تشجيع النمو المكثف للتشغيل ودعم القطاعات الحديثة سريعة النمو وقطاع الصناعات التصديرية والصناعة التحويلية بحيث ترتفع الإنتاجية وتزداد فرص العمل, وزيادة القدرة التنافسية للصناعات التصديرية.
وكذلك رفع نسبة مساهمة القطاعات الإنتاجية فى الناتج المحلي، فمازالت نسبة مساهمة الصناعة المصرية فى الناتج المحلى محدودة للغاية، بل وتتجه للانخفاض عاما بعد آخر. هذا فضلا عما تتصف به الصناعة التحويلية من قاعدة صناعية ضعيفة، مصحوبة بانخفاض فى الإنتاجية. بل والمشكلة الأكثر أهمية للصناعة المصرية تكمن فى كون القيمة المضافة منها مازالت تبنى على الموارد الطبيعية وهو مالا يشجع على النمو الاقتصادى المرتفع. من هنا يجب العمل على إعطاء أهمية كبرى والتركيز على تعديل الهيكل الحالى وصياغة استراتيجية جديدة للصناعة المصرية. وتوفير مناخ مناسب للاستثمار الجاد يستند فى الأساس إلى زيادة قدرة المستثمرين على تقدير العوائد والمخاطر الاقتصادية المتوقعة. وإزالة المعوقات القائمة التى تعوق قدرة بعض المؤسسات على الاضطلاع بمهامها. كل هذه الأمور وغيرها ستمكن الاستثمار الجاد من التفاعل مع آليات السوق والمنافسة فى ظل مناخ يتسم بالشفافية، وبالمزج بين المساندة والرقابة الفعالة من مؤسسات الدولة.
وهذا لن يتم إلا عن طريق إحكام السيطرة على المنافذ لإيقاف التهريب والذى أغرق السوق المحلية بالعديد من السلع مما أثر بالسلب على الصناعة المحلية. وحصر التشريعات المعوقة للاستثمار وإعداد التشريعات اللازمة لتعديلها. مع تفعيل قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وقانونى مكافحة الاغراق وحماية المستهلك. مع ضرورة السعى نحو تعميق التصنيع المحلى عن طريق وضع خطط قطاعية لتحديد الصناعات التى يمكن إضافة مراحل جديدة لعملية الإنتاج الحالية بها مثل صناعة الحديد والصلب وصناعة الغزل والنسيج والملابس وكذلك البتروكيماويات والصناعات الوسيطة. وتحقيق الربط المستمر بين الصناعات الرئيسية والصناعات المغذية لها. وكلها أمور تتطلب تطوير القدرات التكنولوجية للدولة ،خاصة ان حروب المستقبل ستعتمد فى المقام الأول على القدرات التكنولوجية بالأساس. فإذا ما أردنا تحقيق الانطلاقة الكبرى لمصرنا الغالية، ونجد مكانا متقدما على الخريطة العالمية فإنه لا سبيل أمامنا إلا بتطوير وبناء قاعدة تكنولوجية محلية.
وهذا كله لن يتأتى إلا من خلال الجهد المتصل الذى تشارك فيه جميع القواعد البحثية والإنتاجية فى مختلف المؤسسات والوحدات وبما يعمق الدور المتنامى لأهمية التكنولوجيا والبحث العلمى فى إيجاد تكنولوجيا مصرية قادرة على المنافسة والتركيز على الصناعات غير التقليدية ذات القيمة المضافة العالية والميزة التنافسية فى الأسواق الدولية.
وهكذا فإننا نهدف الى تعديل السياسات الراهنة وإعادة تخصيص الموارد المتاحة بالمجتمع بغية جعلها أكثر قدرة على تحقيق الأهداف التنموية للمجتمع. خاصة وأن المجتمع المصرى لديه من الإمكانات والمزايا التى تمكنه من تحقيق ذلك، حيث تتمتع القوى العاملة بمزايا الأجور التنافسية التى تتيح للدولة ميزة فى الصناعات كثيفة العمل. كما يسمح المناخ فى مصر لأرضها الزراعية بالتنوع فى المحاصيل، ويتيح لها موقعها المتوسط من حيث قربها من أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأقصي. سرعة النفاذ إلى الأسواق ويفتح الفرص أمامها لتكون مركزا للنقل والخدمات الأخري، وقاعدة تنطلق منها الصادرات إلى الأسواق العالمية ككل.