لا أذكر أين قرأت هذه العبارة لكنى أعتقد أنها صحيحة تماما: «التعبير عن الموسيقى بالكلام مستحيل مثل التعبير عن فن المعمار بالرقص». المقصود أن كلا منهما لا جدوى منه إلا إذا اكتفى بذكر أشياء مثل الظروف التى تم فيها تأليف القطعة الموسيقية وملابساتها دون التعرض «للموضوع» نفسه، أى دون محاولة لوصف أو تحليل المشاعر التى تثيرها، فهنا يصبح التعبير بالكلام أمرا مستحيلا أو لا فائدة ترجى منه.
هناك الوصف المشهور لبداية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن بأنها «تصوّر دقات القدر على الأبواب»، لكن الحقيقة أن ما نسمعه فى بداية هذه السيمفونية هو مجرد «دقات» وليس هناك أى مبرر لوصفها بأنها دقات القدر دون غيره، هناك وصف آخر لا مانع من قبوله لإحدى حركات السيمفونية الثالثة لبيتهوفن أيضا بأنها تصور «عرسا ريفيا» لكن هذا ليس شرحا لمعنى الموسيقى وإنما مجرد وصف للإيقاع، وربما أيضا لبعض النغمات التى يمكن أن تستخدم فى احتفال بزواج ريفي، لكن هذا وصف شكلى محض للقطعة الموسيقية دون محاولة لوصف «مضمونها» إذا جاز هذا التعبير.
يذكرنى هذا بفقرة طريفة وردت فى مذكرات المثقف الفلسطينى الكبير إدوارد سعيد، المسماة «المغترب» التى ترجمت وصدرت بالعربية تحت عنوان ليس موفقا تماما هو : «خارج المكان» إذ يصف جلوسه مع أمه للاستماع إلى بعض المقطوعات الموسيقية الغربية الكلاسيكية، فإذا بهما يتبادلان النظر والابتسام، كلما وصلا إلى جزء من هذه القطعة يعتبران أنه يتمتع بجمال خاص. نعم من الممكن أن يحدث هذا لكن أن يغامر أيهما بالتعبير عن معنى أو مضمون لهذه القطعة أو تلك، فهذا هو المستحيل.
إن من الممكن بالطبع أن نتحدث عن موسيقى زكريا أحمد مثلا ونقارنها بموسيقى رياض السنباطى أو محمد القصبجي، فنعتبر موسيقى زكريا أحمد أكثر مراعاة لتقاليد الموسيقى العربية، ونعتبر موسيقى القصبجى أكثر تأثرا بالموسيقى الغربية (التى كان يهواها أيضا)، وموسيقى السنباطى أكثر جرأة فى الخروج عن تراثنا الموسيقى دون أن يصل فى ذلك إلى الدرجة التى وصل إليها القصبجي.
نعم هذا ممكن، لكن هذا أو ذاك حديث عن الشكل أكثر من المضمون، ويظل التحليل أو الشرح عملا نادرا وأقل قبولا بكثير.
ربما كان هذا هو السبب فى اعتبار الموسيقى فنا مختلفا جدا عن غيره من الفنون (وقد يعتبرها كثيرون أعلى شأنا) ففى الأدب مثلا نجد الفن يختلط بالكلام المنطقى أو التحليل، بينما تصل الموسيقى إلى القلب مباشرة (أو إلى الجهاز العصبي)، دون اعتماد من أى نوع على التفكير المنطقي. ولعل هذا هو السبب أيضا فى أن الموسيقى تستطيع الوصول إلى عدد أكبر من الناس والتأثير فيهم بالمقارنة بالقصة والرواية أو بالفنون التشكيلية أو المعمار.
هناك أيضا فارق آخر يميز الموسيقى عن الفنون التشكيلية وفن المعمار، وقد يكون هذا من أسباب قوة تأثيرها، وهو امتدادها الزمني، أى أن من يستمع إلى الموسيقى يتلقاها عبر فترة زمنية وليس دفعة واحدة، كما يحدث فى الفنون التشكيلية، ومن ثم يمكن للموسيقى أن تثير توقعات ثم تلبى هذه التوقعات بعد فترة زمنية طالت أم قصرت، بينما يقدم الفن التشكيلى إلى متلقيه فى اللحظة نفسها، مما قد يضعف ما يحدثه من أثر.
هناك أيضا العلاقة الوثيقة بين فن الموسيقى وفن الرقص. إن من الموسيقى ما لا يعتمد على إثارة الرغبة فى الرقص لكن كثيرا منها يتوقف أثره على ما يخلقه من رغبة فى الحركة على ايقاع الموسيقي، وقد تعتبر هذه الرغبة فى التحرك على إيقاع الموسيقى من السمات الطبيعية فى الإنسان (بل وقد توجد فى بعض الحيوانات أيضا).
العلاقة إذن بين الموسيقى والإنسان أكثر تلقائية وأقرب إلى الفطرة من العلاقة بين الإنسان وأى فن آخر بل قد يقال إن الإنسان يمكنه أن يستغنى عن أى فن آخر بسهولة أكبر مما هى فى حالة الموسيقي.