عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
هل قرأت شيئًا لكافكا؟
31 يناير 2018
◀ سمير الشحات


الذى يزور معرض القاهرة الدولى للكتاب المنعقد حاليًا سوف يدهشه حجم الإقبال الكبير لفئة الشباب من الجنسين على المعرض.. وحتمًا سيسأل المرء منا نفسه هذا السؤال: معقول.. كل هؤلاء الأولاد والبنات جاءوا لشراء الكتب أو على الأقل للفرجة عليها؟ إذن ما هذا الذى يتردد عن موت الكتاب وانعدام الرغبة فى القراءة.. وأن الثقافة فى البلد تلفظ الآن أنفاسها الأخيرة؟



هذا الإقبال الشبابى ينم عن معنى خفى تاه منا فى غمرة مشاغلنا اليومية، وهو أن الشوق للكتاب والقراءة سيظل قائمًا ما بقيت الحياة وإن تراجع أحيانًا لهذا السبب أو ذاك. وبطبيعة الحال فإن البداهة تقول إن الكتاب لم يعد وحده مصدر المعرفة والمعلومات الوحيد كما كان الأمر فى الماضي، بل أصبحت ثمة روافد أخرى كثيرة بديلة، كالميديا، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الإنترنت اللا محدودة، إلا أننا لو فكرنا قليلًا لوجدنا أن القاسم المشترك بين تلك الوسائط كلها هو «القراءة».



والواضح أن شبابنا مدركون هذه الحقيقة لكننا نحن الكبار- غير المدركين، وأنه ليس صحيحًا ما يروجّه هؤلاء الكبار من أن شباب «اليومين دول» مائع رخو غير جاد وغير مكترث.. ما يستدعى بالضرورة منا إعادة التفكير فى الكثير مما نعتقده وننظر إليه بحسبانه أمرًا واقعًا قائمًا مع أنه لا «قائم ولا حاجة»، ومن ثم فإن علينا بسرعة إعادة قراءة حقيقة هذا الجيل الجديد التى يبدو أننا لا نفهمها.. ولا نريد أن نفهمها.



قال لى أحد الآباء إنه فوجيء بابنه - الذى فى السابعة عشرة- وقد تهيأ منذ الصباح الباكر السبت الماضى للخروج مع أنه عادة ما يكون فى هذا الوقت يغط فى نومه العميق. «خير اللهم اجعله خيرا.. على فين العزم يا باشا هكذا فى الصباح إن شاء الله؟».. هكذا سأل الأب نجله فأتته الإجابة مدهشة: «رايح المعرض .. هات فلوس!». دق قلب الأب من الفرح «عاوز كم؟».. «هات 200».. «لا.. بل سأعطيك 500»!



أردف الأب وهو يحكى سعيدًا أن الفأر لعب فى عِبّه فأراد اختبار الولد لعل فى الأمر سرًا ما. سأله: وماذا تنوى أن تشترى إن شاء الله يا كابتن؟ قال الصغير: سأشترى الأعمال الكاملة لكافكا.. وسوف أبحث عن طاعون ألبير كامو.. وهناك كتاب دنيا الله لنجيب محفوظ!



.. كانت الإجابة مذهلة للأب الذى انعقد لسانه. معقول؟ كافكا، وكامو، ونجيب محفوظ مرة واحدة.. يا بركة دعاء الوالدين. وعندما مرت سحابة اليوم.. وعاد إليه الابن المثقف.. فوجيء الأب بأن الولد اشترى فعلًا هذه الكتب بل زاد عليها كتابين أو ثلاثة عن فن الإخراج السينمائي. ما هذا الذى يجرى بالضبط؟ كيف هذا والابن لا يترك الموبايل من كفيه ليلًا أو نهارًا؟ متى بالضبط عرف هذه الأسماء الكبيرة يا تري؟



قال لنفسه: لأختبره.. إذ ربما الأستاذ الصغير هذا يتباهى بأسماء رآها على الموبايل وهو لا يعرفها.. فإذا بالولد يعرف الكثير مما لم يكن الأب يحسب أن الابن يعرفه. ثم وقعت المفاجأة عندما سأل الابن أباه: هل قرأت أنت أى شيء لكافكا؟ قال الأب فى تردد: آآآآه طبعًا لكن منذ زمن بعيد والآن قد نسيت فلو سمحت ذكّرنى يا ولدى والأجر والثواب على الله. وهنا أخذ الابن النابه يشرح لأبيه ما استغلق عليه عن أدب كافكا وما وراء أدب كافكا. همس لى الأب مبهورًا: اسمع.. نحن لا نفهم أبناءنا وعلينا الانتباه.



إن القراءة هى وسيلتنا إلى الدخول إلى قلوب وعقول أبنائنا.. بل وإلى ما هو أجلّ وأعظم.. وهو قلب وعقل العصر. وحسنًا فعلت إدارة المعرض عندما جعلت شعاره هذا العام «القوى الناعمة.. كيف؟». وللذين تغيب عنهم تلك الحقيقة فإن تميز مصر وريادتها طوال عشرات السنين الفائتة لم يكن تكديس السلاح، ولا الاستغراق فى الخطط الاقتصادية والتنمية (على أهمية كل ذلك)، بقدر ما كان تفوقها فى قوتها الناعمة.. وما القراءة إلا الباب الملكى لولوج تلك القوة.



إن ثمة ما يشبه الإجماع بين مثقفينا هذه الأيام على أن التحدى الأكبر الذى يواجهنا جميعًا الآن هو الإرهاب الأسود والتطرف الفكري.. كما أن ثمة ما يشبه الإجماع كذلك على أن الثقافة هى السبيل الأهم لمواجهة هذا الخطر.. وهل ثمة ما يأخذك إلى الثقافة كالقراءة؟ فلماذا لا نجعل مشروعنا القومى الأكبر تشجيع القراءة لتصبح مصر ورشة كبيرة تضج بالقارئين من كل الأعمار؟



ولسنا هنا فى وارد كيف يمكن تحقيق هذا المشروع القومي..



فكم من الخبراء والباحثين تحدثوا من قبل عن ضرورة النهوض بصناعة النشر والكتاب، ودخول الدولة بمؤسساتها المختلفة كطرف فاعل فى هذه الصناعة التى بات كاهل القطاع الخاص والناشرين يئن من مشاكلها.



إنك وأنت تقرأ- ستكون أمام بدائل وخيارات فكرية عديدة، وبالتالى سوف تصبح متسامحًا مع آراء غيرك، ومن ثم تتكرس فضيلة التسامح وقبول الآخر التى للأسف نفتقدها بشدة فيما بيننا الآن. كما أنك- وأنت تقرأ- ستأخذك القراءة إلى عوالم جديدة من الفن والموسيقى والآداب وفهم النفس البشرية والانفتاح على ثقافة غيرنا من الشعوب، ما يقود فى نهاية المطاف إلى تقزيم الفكر الظلامى المنغلق العاشق لثقافة الموت الكاره للحياة.



القراءة صدق أو لا تصدق- هى ما سيعيد لمصر تميزها وتفوقها ووسطيتها وبهاءها الذى عرفت به منذ أجدادنا صناع الحضارة والإعمار والحياة، وسوف تكون تلك هى البداية الحقيقية لحل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية أيضًا. فإلى كل أب.. هل ذهب ابنك إلى المعرض هذا العام؟ وهل سألك يومًا عن كافكا؟