عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
المغرد البهيج
21 يناير 2018
السماح عبد الله


ضحك علينا مكاوي سعيد، وغافلنا طيلة ربع قرن كامل، واستوى كاتبا كبيرا.. كنا أوائل الثمانينيات، نلتقي في مقهى البستان، وريش والجوريون والمستنقع والنادي اليوناني وأتيليه القاهرة، وحفنة المقاهي المتناثرة حول ميدان طلعت حرب، التي تمتد أطرافها من باب اللوق وحتى التوفيقية، ومن شارع شامبليون وحتى مقهى وزارة الأوقاف، وكان بعضها لا يغلق أبوابه ليلا ولا نهارا (أوديون)، والمأسوف عليهما (علي بابا وأسترا). كانت أحلامنا عريضة، وفي قلوبنا إصرار لا نهائي على تحقيقها، وكانت نقاشاتنا تدور حول الكتابة، ودائما ما يفرد أحدنا أوراقه في دائرة الصحاب والرفاق، وينهمكٌ في قراءة قصيدته الجديدة، أو قصته التي انتهى للتوّ من كتابتها، وكنا ننهمك حتى آذاننا في تفاعيل الشعر، وشخوص السرد، ونشتجر حتى قلوبنا في فضاء النص.



وحده مكاوي سعيد، لم يشاركنا هذه الجلسات، ولا تظهر عليه سيماء الكتّاب المعهودة، وكنا نعرفه كهاوٍ للكتابة، متذوقٍ للشعر، لم يدلُ مرة بدلوه في قصة أو قصيدة لأحدنا، وإذا تصادف وأجبرته زنقة الكراسي في المقهى على الانضام إلينا، لم يزد كلامه عن آراء مكرورة لا توضح موقفا ولا رأيا، كأن يقول: «فلان كتابته كده على طول»، أو «ده الفرق بين الكتابة الحقيقية وغير الحقيقية»، ولا يتاح لأحد أن يعرف إن كانت كتابة فلان جيدة من وجهة نظره أم غير جيدة. غير أن مكاوي آنذاك، كان ذا سطوة خاصة، إذ كان دائما يظهر بصحبة الفتيات الجميلات، وكنا نرمقه بحسد كبير، بينما نجاهر بصوتنا العالي أننا أصحاب قضية في الكتابة، وأن الكتابة الحقيقية أكثر جدوى. لكن فتياته كن كثيرات، ومن الواضح أنه معشوقهن أكثر من كونه عاشقا لهن، وسبحان العاطي الوهاب من غير حساب، وكنا إذا واجهناه بتعليقاتنا اللاذعة الحاسدة، أجابنا بابتسامته اللصيقة بوجهه: «السعيد في الحب تعيسٌ في الكتابة، والسعيد في الكتابة تعيس في الحب». ونظل أطراف النهار وآناء الليل نضرب ورقاتنا البيض بأحبارنا، لنشفي غليلنا من الزمان الذي لا يسمح لنا بأن نكون سعداء في الحب كمكاوي، مصدقين أننا سعداء في الكتابة، ننشر كتاباتنا في المجلات والجرائد ونحضر ندوات الأتيليه ودار الأدباء وجريدة المساء وكرمة ابن هانيء ونادي القصة، ونقابل فتيات يبدين إعجابهن الشديد بما نكتب، ويضربن لنا مواعيد لا تأتي أبدا، وفي انتظارنا لهذه المواعيد في فضاء قلوبنا، يظهر مكاوي بصحبة فتيات أكثر جمالا، فنقول: دعوه ينعم بعنب اليمن، ويكفينا نحن بلح الشام.



وهكذا، ظل إبراهيم عبد الفتاح يكتب أشعاره الصافية، وأغانيه الفريدة لكبار المطربين والمطربات، وأصدر إبراهيم داود دواوينه الشعرية بالغة الأهمية، وبجانبها أصبح أحد أبرز كتابنا الصحفيين، وظل أسامة خليل حتى النفس الأخير يتزوج ويطلق ويتزوج ويطلق، ويكتب القصص والسيناريوهات، وإبراهيم فهمي على كرسيه في البستان يدخن الشيشة ويحلم بنسائه الوهميات حتى مات وهو في انتظارهن، وأصدر هشام قشطة الكتابة الأخرى حتى كفر بالكتابة الأولى والأخرى فاقتطع نفسه نهائيا من المكان، وفجأة، وبلا مقدمات، انفرطت من أصابعنا خمسة وعشرون سنة كاملة، وكأنها سنة واحدة.



وإذا قادتك قدماك إلى مقاهي وسط البلد، فستجد مكاوي سعيد جالسا، على نفس كرسيّه القديم، وحوله الفتيات اللواتي يزددن جمالا، وتكتشف حجم الخديعة التي عيّشنا فيها، ستجد في يمينه عنب اليمن، وفي يساره بلح الشام، وأنه بالفعل أصبح كاتبا كبيرا، يحصد الجوائز العربية والمحلية، ويكتب السرد النفيس، ويشار إليه ببنان التفرد والتميز والجودة، وستجده مع صديقه النبيل، وصاحبه الخلوق، الفنان محمد صلاح، الذي لم يتح له أبدا طوال خمس وعشرين سنة، تحقيق أي انتصار في لعبة الطاولة بأشكالها المتعددة، وقدما معا للساحة الثقافية واحدة من أهم دور نشر الكتابة الجديدة، وفي شهور قليلة احتلت مكان الصدارة في دور النشر الخاصة.



ونحن ضيّعنا عمرنا نضرب بأحبارنا على بياض الورقات، مضحّين بعنب اليمن، متوهمين امتلاكنا بلح الشام، وربما مرت علينا خمسة وعشرون عاما ثانية، كأنها سنة واحدة، كسنوات هذه الأيام، ونحن في وهمنا، بينما مكاوي سعيد يمر علينا بخيلائه، لا يتكلم كثيرا عن الكتابة، لكنه امتلك ناصيتها تماما، يمر علينا بفتياته اللواتي يتغيرن ويزددن حلاوة، وبرواياته التي تتعدد طبعاتها في السنة الواحدة ثلاث وأربع مرات، وتتصدر الكتب الأكثر مبيعا، يمر علينا بعنب اليمن وبلح الشام معا، ونحن نبلل شفاهنا متسائلين:



يا سيد مكاوي، ترى ما طعم عنب اليمن؟



الجمعة، ذهب كعادته لقعدة الزهرة صباحا، وغادرها، لتناول بعض السندويتشات، وهاتفني بين المغرب والعشاء، وحدثني عن جائزة «كتارا»، وأخبرته أن الشأن السياسي غير الشأن الثقافي، وضحك عندما سألته عن عنب اليمن، وتواعدنا على لقاء، وقال إنه دائما يسبقني إلى الموعد، ودائما ينتظري.



نعم، لقد سبقني، وسوف ينتظرني.



مع السلامة يا صديقي.