عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
احذر أحلامك
16 نوفمبر 2017
د.جمال عبدالجواد

القادة الكبار أصبحوا كذلك بسبب الأحلام الكبيرة التى ألهمتهم سياسات وخططا، نفذوها، فأخرجوا بلادهم من الهزيمة إلى النصر، ومن الفقر إلى الثراء، ومن الاستعمار إلى الاستقلال والسيادة، ومن العنصرية والاستبداد إلى الحرية والديمقراطية والكرامة. إنهاء الاحتلال الأجنبي، وتحويل الهزيمة إلى نصر، وإعادة توحيد البلاد التى اقتسمها المنتصرون فى الحرب العالمية الأولى، كل هذا لم يكن حلما سهل المنال، فحتى السلطان خليفة المسلمين سلم بالهزيمة والاحتلال والتقسيم، لكن مصطفى كمال نجح فى تحقيق الحلم ، فاستحق عن حق لقب أتاتورك أبو الأتراك. لى كوان يو حول سنغافورة الصغيرة الفقيرة إلى واحدة من أغنى دول العالم فى غضون عقدين من الزمان. نيلسون مانديلا نجح فى إنهاء التمييز العنصري، ومد مظلة الديمقراطية، لتشمل كل الأعراق فى جنوب إفريقيا.

الأحلام الجيدة تصنع قادة كبارا. لكن هناك أيضا أحلاما مسمومة يدفع القادة وشعوبهم ثمنا فادحا لها. قبل أسابيع قليلة حاول السيد مسعود البرزانى تحويل حلمه بكردستان مستقلة إلى حقيقة عبر استفتاء يقود إلى الاستقلال. استنفرت خطة السيد البرزانى قوى معادية لا قبل للكرد بها، فأجبر السيد البرزانى على الاستقالة من منصبه رئيسا لإقليم كردستان العراق، وأجبر الكرد على التخلى عن كثير من المكاسب التى كانوا قد حققوها خارج إطار المعاهدات والدستور والقانون عبر سنوات طويلة بدأت بعام 1990، وتم فى النهاية إلغاء نتيجة استفتاء الاستقلال، وكأنه لم يكن.

فى العراق سر يجعله أرضا خصبة تنبت فيها الأحلام المسمومة. صدام حسين هو أشهر من تعاطى الأحلام المسمومة فى تاريخ العرب الحديث. أراد صدام حسين استغلال فرصة الضعف الذى أصاب الجيش والدولة الإيرانية عقب ثورة الخمينى عام 1979، فتذرع باعتداءات الإرهاب التى دبرتها ومولتها إيران، وهى بالمناسبة اعتداءات حقيقية غير مفبركة، فإيران الخمينية لم تضمر أبدا الخير لجيرانها. نجحت إيران فى لملمة نفسها، فعوضت الهزائم التى حلت بها فى مراحل الحرب الأولى. دامت الحرب ثمانى سنوات، ولم تنته إلا بعد أن تم إنهاك الطرفين بشكل كامل. خرج صدام من الحرب مزهوا بنجاحه فى تجنب الهزيمة، فسمى هذا انتصارا، وراح يطالب العرب بمكافأته على نجاحه فى وضع حد لتحرشات إيران الشيعية والثورية. اجتاح صدام الكويت، ففتح على نفسه وعلى العراق كله أبواب الجحيم، التى مازالت مفتوحة إلى اليوم. تم القبض على صدام، وإعدامه، لكن العراق مازال يعانى تبعات انتصارات صدام وهزائمه.

الأحلام المسمومة تنبت بكثرة فى العراق، وما حلم أبو بكر البغدادى بتأسيس دولة الخلافة، وتبوئه منصب خليفة المسلمين، سوى أحدث حلقات مسلسل الأحلام المسمومة التى تنبت هناك. بيئة العراق ليس الوحيدة التى تغرى قادتها على مثل هذا الهذيان. مازال المؤرخون يتجادلون حول الدوافع التى أرسلت جيوش محمد على باشا إلى قلب دولة بنى عثمان. كاد محمد على يفعلها، لولا تدخل القوى الأوروبية، لكن القوى الأوروبية هذه ليست نبتا شيطانيا أو عملا تحتيا، ولكنها دول قوية موجودة، معروفة طموحاتها ومصالحها وأطماعها. تكالبت القوى الأوروبية على محمد علي، فأرغمته على التراجع، وتقليص جيشه، وتعطيل صناعاته، والانصياع لأوامر السلطان.

بلاد العرب ليست متفردة فى إغراء قادتها بهذيان يظنونه أحلاما. هاجم اليابانيون بيرل هاربر، ودمروا أسطول المحيط الهادى الأمريكى بأكمله. انتظر اليابانيون الاستسلام الأمريكي، ولكنهم لم يدركوا سوى بعد فوات الأوان أنهم أيقظوا المارد بدلا من أن يقتلوه. نفس السلالة الذهنية التى أتى منها القادة اليابانيون أتى منها الزعيم الألمانى هتلر، الذى تصور أن بإمكان بلده السيطرة على كل أوروبا. لا قادة كبار بغير أحلام كبيرة، فالقادة معدومو الأحلام يضيعون على بلادهم فرص التقدم قفزا، فيجبرونها على الزحف وربما التقهقر إلى الخلف. ولكن ما السبيل للتمييز بين الأحلام الجيدة والأحلام الرديئة؟ المؤسسات والتشاور وعدم الانفراد بالرأى هو الضمانة الأهم، لكن لا بديل عن حكمة القائد وحدسه وقدرته على التحليل والتفكير المنطقي، ولا بأس من التذكرة ببعض القواعد العامة للتفكير والتخطيط السياسى السليم.

رتب أولوياتك، وكن مستعدا لتقديم تنازلات جوهرية فى مجالات أقل أهمية. لم يكن مصطفى كمال لينقذ تركيا لولم يمتنع عن المطالبة بأملاك الإمبراطورية، ولو لم يتخل عن حلم الوحدة مع الشعوب التركمانية المنتشرة إلى الشرق حتى وسط آسيا. رضى مصطفى كمال بتركيا صغيرة، لكنها قوية ومتماسكة، فيما أهدر العرب الأوطان الصغيرة التى ورثوها عن العثمانيين، جريا وراء سراب الوحدة العربية الكبرى. أنظر إلى الأمام، واجعل فى أهدافك متسعا لاستيعاب آخرين، وركز على المصالح التى يمكن للآخرين أن يجنوها حال نجاحك، وليس على استبعاد الخصوم والانتقام منهم. نجح نيلسون مانديلا لأن جنوب إفريقيا الجديدة كان فيها مكان للبيض إلى جانب السود، فتم توفير طاقات كثيرة كان من الممكن إهدارها فى الثأر من الماضي. فشلت ثورات الربيع العربى لأن الثوار انشغلوا باجتثاث الماضى أكثر من اهتمامهم ببناء المستقبل. اختر لبلدك حلما عادلا، لا حلما عظيما. الأحلام العادلة «تعدل» الأوضاع، فتضع الأمور فى نصابها، وتعطى كل ذى حق قدره، فيما أحلام العظمة تنفخ الذات، وتستصغر الآخرين، فتخسرهم. لا تنخدع فى ميزان القوى القائم، لكن فكر أيضا فى ميزان القوى الكامن. انخدع صدام حسين بالضعف الذى اعترى إيران بعد الثورة، ونسى ما يمكن للبلد الكبير أن يحشده بعد امتصاص الصدمة. انخدع اليابانيون بقدرتهم على تحطيم الأسطول الأمريكي، فلم يلاحظوا أن الأمريكيين يمكنهم حشد موارد هائلة لبناء أسطول جديد أكثر قوة. لا تتصرف باعتبارك أكثر ذكاء من الآخرين، أو باعتبار الآخرين أغبياء، لا يفهمون مغزى ما تقوم به من إجراءات. قد تكون مناورا بارعا يمكنه خداع الآخرين، ولكن تأكد من أنه لا أحد يستطيع خداع كل الناس طوال الوقت. لا تكتفى بكثرة الأتباع، وابحث عن حلفاء حقيقيين، يشاركونك النوايا والأهداف والخطط، ولا تستبدل هؤلاء بحلفاء مضطرين للتحالف أومتورطين فيه، فهؤلاء سيتخلون عنك عند أول منعطف.