عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
عتمة البوح
10 نوفمبر 2017
خالد عميرة

(1)مر عامان من هنا .. أو يزيد , تقاسمنا خلالهما الليل, والشطائر, ودخان الشاى المحمل برائحة النعناع .. والصمت.
كنت قد أنهيت دراستى الجامعية , ومللت رحلة البحث اليومية عن عمل مناسب , مللت وجوه السكرتيرات الطافحة بالأصباغ , وتنانيرهن القصيرة المحبوكة ,


وابتساماتهن الكاذبة الصفراء الخابية التى لا تكاد تنفرج عنها الشفتان , مللت المقابلات عديمة الجدوى لوظائف تم تحديد شاغليها سلفا , مللت جملة: «سوف نتصل بك لاحقا » التى يلقيها أصحاب الأعمال فى وجهى بينما تضغط أصابعهم على الزر لاستدعاء طالب عمل جديد , مللت كل ذلك , بينما أصابه هو الملل من سقى نبتة الصبار التى تسكن شرفتنا , ومن مطالعة الصحف الصباحية التى تفوح منها رائحة نفط المطابع , ومن جلسة المقهى الليلية بعدما أحيل للتقاعد عقب قيام مستثمر خليجى بشراء المؤسسة التى كان يعمل بها.



بمرور الوقت, وبرغم فارق السنين بيننا, صرنا متشابهين إلى حد كبير, نسختين لصنمين فرا من صحار بعيدة ليسكنا فى قلب القاهرة, الشعر المهوش ذاته, السراويل المخططة من قماش التيل, الفانلات الداخلية المصفرة بفعل العرق, شعر الإبطين الكثيف الذى لم نعد نهتم بنظافته, العيون المعلقة بالشاشة المثبتة فى صدر الصالة , تتابع الإعلانات المتلاحقة اللحوح : أدوات للتجميل, منتجعات شاطئية , سيارات فارهة, جامعات خاصة, ومستشفيات تطلب تبرعات للمرضى, يقطعها فحيح مذيع ذى وجه شمعى أملس, يتحدث عن استثمارات بالمليارات, وارتفاع مستوى دخل الفرد, وتوظيف آلاف الشباب, و...... , و ......, قبل أن يخرس فجأة إثر انقطاع التيار الكهربائى.



لم نكن نعبأ كثيرا بانقطاع التيار, اعتدنا الأمر, فقط كنا نستمر جالسين فى انتظار أن يعود, لائذين بصمتنا المحمل بدخان السجائر ورائحة العطن , فإن لم يعد.. انسل كل منا إلى غرفته , متحسسا طريقه فى الظلام نحو الفراش , لكن فى تلك الليلة طال انتظارنا بعض الشىء, ولما كان النوم عصيا مع صهد يوليو , بادرته بالكلام :



بابا .. هل تسمعنى ؟ , أريد أن أبوح لك بسر».



(2)



هل تذكر تلك الخادمة البيضاء البضة؟ , تلك التى كانت تحمل رغم سنين عمرها الآفلة طراوة الريف وجماله وعنفوانه؟ .. ألا تذكرها؟ , كانت تأتينا كل خميس لسنوات طويلة ثم انقطعت عنا فجأة .. أم شوقى , ألا تذكرها؟.



كنت جالسا فى صدر الصالة , ربما فى هذا المكان ذاته , أتابع مباراة للكرة , بينما أسترق السمع لحوارها مع أمى بعد أن تكومت على الأرض أسفل قدميها , حيث ظلت تشكو لها حال زوجها , ومرضه العضال الذى يزيد عليه يوما بعد يوم حتى أحاله «خرقة بالية» , كانت دموعها تشق خديها أثناء الحكى , بينما كلمات أمى المنمقة الرصينة المواسية , والجنيهات التى تدسها فى يديها , لا تروى جدبا , ولا تطفئ حرقة.



«خرقة بالية» .. فهمت الرسالة ، أو هكذا تصورت , بعد المباراة دعوتها كى ترتب غرفتى , اقتربت منها .. فاقتربت ، تمازجنا , ظلت تتفلت منى بدلال مصطنع .. نعم مصطنع , وتدفعنى عنها بذراعين خائرتين , وحين اقتحمت أمى الغرفة , صرخت فيها .. وفيّ, ثم طردتها بغير سؤال , نظرت أمى نحوى بعينين تتقدان بالغضب , والحزن على تربيتها التى خابت , فاعترفت بكل شىء, قلت لها إن هذه المرأة «بنت كلب .. قذرة» , وإنها طاردتنى وراودتنى فى غرفتى مرات عديدة دون جدوى , وإننى هددتها بفضحها فلم ترتدع , لم تعلق أمى بكلمة , فقط غادرت الغرفة فى هدوء بعد أن صفقت الباب خلفها , هل كانت تعلم أن «أم شوقى» ليست كذلك؟ , هل سمعت قولها لى إننى فى عمر ولدها , وإنها من ربتنى فى حجرها وليدا؟ , هل سمعتها وهى ترجونى خائفة من الفضيحة أن أتوقف , فلها زوج تحبه وابن سيصبح طبيبا «قد الدنيا»؟ , هل رأت أثر الأصابع الذى مازال ساخنا فوق خدى , كخطوط حمراء متوازية ؟ , هل كانت تعلم أننى أنا - ابنها – «القذر» , لكنها طردت المرأة قليلة الحيلة , ما يؤلمنى حقا يا أبى هو إحساسى بقطع عيش تلك المرأة , وكيف ستدبر الآن المال لعلاج زوجها , ومصاريف دروس ولدها؟ .



ما يفزعنى حقا يا أبي, هذا الإحساس بظلمى لها وامتهانها , هذا الإحساس الكثيف بالوضاعة .. والقذارة والخسة.



(3)



هل أنهيت الحكاية؟ .. حسنا , أنا أيضا لدى سرى الخاص .. سر بسر إذن , لعل الأسرار تسرى عنا قليلا , تقاربنا أكثر , وتمنحنا بعض الشجاعة فى هذا الظلام.



أنت تعرف بالتأكيد معاناة أمك فى أيامها الأخيرة , كان السرطان اللعين ينخر عظامها , ينهشها نهشا , ولم تعد المسكنات تجدى , صدقنى يا حبيبى .. أنت لم تكن تراها وهى تتلوى بجانبى , تصرخ , تجلب قطع الثلج لترصها فوق مواضع الألم لعلها تتجمد فلا تشعر بشىء , لم تمنحها الأدوية أو العلاجات الكيميائية والإشعاعية سوى مزيد من الألم وانكسار الروح , تساقط الشعر وبقى الشعر المستعار مستعارا , لم تعتبره شعرها بالتأكيد , مجرد رقعة صفراء فوق الرأس توارى بها سوءتها , شحب الوجه , انسحبت عليه ظلال سوداء متعرجة , نحل جسدها , حتى صارت هشة كضوء يمر , كشبح لا يشعر به أحد , حتى بدت كالسراب, وهنت العضلات فصارت عاجزة عن التحكم فى كل شىء, كانت تنظر للبقع الصفراء على الفراش بعين كليلة , منكسرة , وتغالب دموعها التى لا تنغلب .



تقلب مزاجها بشكل عنيف , ازدادت عصبيتها وتوترها , و غضبها غير المبرر , ازداد بكاؤها لأتفه الأسباب , ولم تعد مواساتى لها , واحتوائها تحت ذراعى يمنحها إلا مزيدا من الإحساس بالضعف والألم , لكنها فى النهاية لم تمت بالسرطان , ماتت بغيبوبة السكر , هكذا كتب الطبيب فى تقريره , وهكذا يعلم الجميع , لكن هذه ليست الحقيقة الكاملة .. للأسف ليست الحقيقة.



الحقيقة أن أمك طلبت منى أكثر من مرة أن أزيد لها جرعة الإنسولين حتى ترتاح من عذاباتها , كنت أرفض فى كل مرة , محاولا تشجيعها وتحفيزها لمواجهة المرض , فى المرة الأخيرة ألحت على كثيرا , كانت الدموع تغمر وجهها , و بينما تستجدينى كان جسدها كله يرتجف , استجبت لها فى النهاية بعد سلسلة من الرفض المتوالى , رفض استمر لشهور, لم أعد أحتمل موتها البطىء أمامى , وانسلاخ روحها الذى تعانيه كل مساء .. لكنه يخيب رجاءها و لا يكتمل, ما يؤلمنى حقا يا حبيبى أننى لا أتذكر جيدا هل طلبت هى ذلك منى بالفعل ؟ .. أم أننى رققت لحالها متطوعا , بعد أن عجزت عن احتمال رؤيتها تتألم كل هذا الألم ..والانكسار؟ , شىء ما غائم فى الذاكرة , لكن هل يختلف الأمر؟ , هى طلبت منى هذا الأمر كثيرا .. ورفضت , فهل إن نفذته فى وقت لاحق دون طلبها .. أو بناء على طلبها – صدقنى لا أتذكر – أكون قد ارتكبت جريمة أو خطيئة؟ , هى من فتحت الباب للأفكار اللعينة كى تمر كفئران ليلية سوداء .. فمرت , هى من فتحت الباب .. ليس أنا .. ليس أنا.



(4)



عادت الأضواء من جديد , فأغلقنا عيوننا حتى نقوى على استقبال فيضها , عاود التلفاز العمل مرة أخرى , انسابت منه موسيقى راقصة , كانت مقدمة لفيلم السهرة الكوميدى , خرجت أمى من المطبخ متهللة , تتحدث بصوت عال:



»أخيرا عادت الكهرباء .. الحمد لله لم يدم انقطاعها اليوم أكثر من دقائق».



كانت تعدل من وضع أكمام عباءتها الزرقاء الزاهية , المزينة بورود صفراء, وتتفلت من تحت خمارها بعض شعرات من خصلة صفراء , بينما تتبعها «أم شوقى» دافعة أمامها منضدة خشبية ذات عجلات , تعلوها صنيتان , بإحداهما شطائر للعشاء , وبالأخرى ثلاثة أكواب من الشاى بالنعناع.



نظرت لأبى وابتسمت , ركز نظرته على الشاشة المعلقة كأنه لا يرانى , ولم يبادلنى الابتسام.