عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
صراعات سلطة
9 نوفمبر 2017
د.جمال عبدالجواد

الصراع على السلطة قديم قدم الخليقة. السلطة تمنح أصحابها أشياء يريد كل الناس التمتع بها، لكن الأقوياء والطموحين منهم فقط هم من يدخلون الصراع من أجلها. السلطة تمنح أصحابها الجاه والهيبة وربما الثروة أيضا. صاحب السلطة يقرر مصير الآخرين، فيختار لهم طريقة عيشهم، وحدود حريتهم، ومقدار الثروة «المقسومة» لهم. بعض أصحاب السلطة يوظفونها لنفعهم الخاص، فيما بعضهم الآخر يوظفونها لخدمة فئات أوسع وقضايا أكبر، لكنك لا تستطيع التمييز بين الفريقين إلا بعد انتهاء المباراة, وعندما يكون الأمر كله قد أصبح فى ذمة التاريخ.

لم يكن طلاب السلطة فى الماضى يحتاجون لتبرير تصرفاتهم، فقوة الغلبة وسطوة السيف كانت تكفيهم الحاجة للشرح. عندما طلب الخليفة معاوية بن أبى سفيان من الناس مبايعة ابنه يزيد لخلافته، خطب يزيد بن المقفع فى الناس، فقال «أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية)، فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد)، فمن أبى فهذا (وأشار إلى السيف)». السيف أصدق أنباء من الكتب، وبه وحده كانت النخب فى الماضى تحسم صراعاتها. أربعمائة وخمسون من أمراء المماليك نحرهم محمد على باشا فى مذبحة القلعة الشهيرة، دون كلمة واحدة تشرح ما جرى لأهل القاهرة، الذين اضطربت أحوالهم لثلاثة أيام، كان فيها جنود الباشا يطاردون بقايا المماليك، ويجتاحون بيوتهم، ويصادرون ممتلكاتهم.

المآل التاريخى لصراعات السلطة أمر لا يمكن التنبؤ به. فاز معاوية، وأصبح يزيد خليفة وأميرا للمؤمنين، وانقسمت أمة الإسلام بعدها إلى شيعة وسنة، مازالوا فى صراع إلى اليوم. انتصر الوالى محمد على باشا على المماليك، فنجح فى إرساء قواعد الدولة الحديثة، وهو المعروف الذى مازال المصريون يحملونه فى أعناقهم لمحمد على باشا حتى اليوم.

صراعات السلطة قبل زمن الحداثة تجرى وراء أبواب، بلا جمهور يشاهد، فيستحسن أو يقبح. الجمهور هو اختراع جديد جاءت به الحداثة، أما قبل ذلك فلم يكن لدينا سوى دهماء، تهيج مشاعرهم، فيشيعون الفوضى أحيانا، ويخضعون للسلطان أغلب الوقت. فى زمن الحداثة خرجت صراعات السلطة من دهاليز القصور، إلى مسرح السياسة الكبير، أمام جمهور من المتفرجين. تغيرت الأحوال، وظهر الجمهور طرفا فى لعبة السياسة، متفرجا أغلب الوقت، ومشاركا أحيانا.

الديمقراطية تنظم صراع أجنحة النخبة على السلطة، وتترك لصناديق الانتخاب إعلان نتيجة الصراع. فى الديمقراطية يجلس جمهور الناخبين على مقاعد المتفرجين فى مسرح السياسة لأربع أو خمس سنوات، حتى يوم الانتخاب، فيصوت إعجابا بأداء أحد أجنحة النخبة، واستهجانا لأداء جناح آخر، ليعاود بعدها الجلوس فى مقاعد المتفرجين. دور الجمهور فى الديمقراطيات يشبه دوره فى مسرح أوجستو بوال، حيث الجمهور مدعوا للمشاركة، لتحديد مسار ونهاية نص كتبه وأخرجه ومثله فنانون محترفون، ليتولى المحترفون بعد ذلك تنفيذ المسار والنهاية التى اختارها الجمهور. دور الجمهور يظل محكوما بنص أعدته نخبة محترفة، وليس للجمهور المبالغة فى التحمس للمشاركة، وإلا فسد النص، وعمت الفوضى.

أروع ما فى الديمقراطية هو أنها تنظم الصراع بين أجنحة النخبة، لا أنها تتيح للشعب أن يحكم نفسه بنفسه.

فى غياب الديمقراطية تتحول الصراعات بين أجنحة النخبة إلى صراعات صفرية، قد يخسر المهزوم فيها كل شيء، بما فى ذلك حياته نفسها. صراعات النخبة فى غياب الديمقراطية هى صدامات شديدة الخطورة لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وبسبب المواقع الاستراتيجية لأفراد النخبة فى مفاصل السلطة والاقتصاد والإدارة والأمن، فإن صراعات النخبة، غير المحكومة بقواعد متفق عليها لإدارة الصراع، قد تترك آثارها على الدولة كلها.

حتى فى ظل أشد نظم الحكم انغلاقا واستبعادا للشعب، يظل الفوز باستحسان الجمهور ضروريا، وتظل النخب المتصارعة فى حاجة لشرح ما يجرى بينهم لعموم الناس. الجمهور والحداثة متلازمان، والعصر الحديث - بما فيه من تعليم وإعلام، ومدن كبيرة فيها مقاه ومنتديات - خلق الجمهور، وجعله مصدرا للشرعية. نظم الطغيان تحرم الجمهور من المشاركة، لكنها لا تستطيع حرمانه من المشاهدة، ومن الأفضل للرواية أن تكون ممتعة، ومحبوكة، ومقنعة، وإلا اضطر الطغاة لإجبار الجمهور على التظاهر بالاقتناع.

التطهير هو المصطلح المفضل لوصف اللحظات الحاسمة من صراعات النخبة فى غياب الديمقراطية. تختلف الرواية التى يقدمها الجناح المنتصر من بين أجنحة النخبة تبريرا للتطهير، تبعا لاختلاف نظم الحكم، والثقافة السياسية السائدة، واحتياجات الجمهور. عندما أراد ستالين تطهير الحزب الشيوعى من منافسيه، فإنه لم يقدمهم للجمهور باعتبارهم منافسين، ولكن باعتبارهم أعداء الثورة التحريفيين. فى مجتمع كانت فيه الماركسية اللينينية دينا جديدا، واعتبرت فيه الثورة هدفا مقدسا ساميا، فإن تحريف العقيدة ومعاداة الثورة تصبح جرائم شنعاء، تستوجب إنزال عقوبة الإعدام، وهو ما فعله ستالين فى خصومه بالفعل.

الثورة الثقافية فى الصين هى أكبر عملية صراع سلطة عرفها التاريخ الحديث. راح ضحية الثورة الثقافية الآلاف من منافسى الزعيم ماو. حاول خصوم ماو تسى تونج مقاومة تسلطه المتزايد، وسعيه لوضع نفسه فوق مستوى النقد، واستثناء نفسه من قواعد العمل داخل الحزب الشيوعى الحاكم. رد الزعيم ماو بالدعوة لثورة ثقافية تطهر الحزب والدولة من عملاء البرجوازية الذين تسللوا إلى الحزب ومواقعه القيادية. كان دينج هسياو بنج أبرز من راحوا ضحية لتطهير ثورة ماو الثقافية، ولكنه عاد بعد وفاة الزعيم ليقود أكبر عملية إصلاح اقتصادى وإدارى فى العالم المعاصر، وهى العملية التى أنتجت لنا الصين العظمى كما نعرفها الآن.

لم يكن الرئيس السادات صاحب عقيدة ثورية عندما صفى خصومه فى الخامس عشر من مايو 1971. كان على السادات تقديم رواية مقنعة، تناسب مزاج الجمهور، وتبرر التطهير الحادث فى أعلى مراتب السلطة. بعد عشرين عاما من مصادرة الحريات والديمقراطية، اتهم السادات خصومه بتشكيل مراكز قوى ترهب الناس، وتنتهك حقوقهم وحرياتهم، وبقية القصة معروف.

التطهير يحتاج إلى رواية تبرر، أما الرواية الحقيقية فلا يتاح للجمهور الاطلاع عليها إلا عندما تصبح القصة كلها مجرد فصل فى كتاب التاريخ.