ما كل هذا الفرح الذى سرى فى عروق المجتمع المصري، احتفالا بحصول مصر على موقع فى التنافس على كأس العالم التى سوف تقام فى موسكو فى العام المقبل؟ وما كل هذا الإبداع فى التعبير عن الفرح: أعلام، وشارات، وغناء، وصياح، ورقص، وزمر، وتصفير، وبكاء أيضا؟ وما كل هذه الحشود التى اكتظت بها الشوارع والحارات والأركان فى كل مكان، فى الريف والحضر؟ وما كل هذا الزخم من الدعاء بالنصر وتجليه عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟ ثمة حالة تشكلت فى خضم الاستعداد للمباراة، وفى أثناء سيرها وفيما بعدها، حالة تحتاج منا إلى مزيدٍ من تأملها ونحن بصدد ما يحدث فى مجتمعنا من تغيرات وما يتشكل فى رحمه من آمال.
وأطرح فى هذا الصدد ثلاثة تفسيرات على سبيل الافتراض والتأمل:
أولاً: علينا أن نتأمل حال الشعب خلال الفترة الممتدة من نصر أكتوبر عام 1973 حتى الآن. لقد خرج الشعب من الحرب وهو فى قمة نشوته وسعادته، وتشكلت بعد النصر المجيد آمال وطموحات، وسمعنا خطابات حول العبور إلى المستقبل، على غرار معجزة العبور الكبير للجيش المصرى لقناة السويس إبان حرب أكتوبر. وانطلقنا نحو سياسة جديدة من التحرر الاقتصادى والانفتاح العالمي. وصاحبت هذه السياسات آمال وطموحات أكبر، وتشكلت فى أفئدة القطاعات العريضة من السكان آمال عريضة بالرخاء ولم يخل الخطاب السياسى من تأكيدات أن الرخاء قادم لا محالة، وأن المسألة هى مسألة وقت. ولقد استمر ذلك لفترة طويلة امتدت طيلة حكم السادات ومبارك. ولم يتحقق الحلم، فالرخاء لم يأت، بل تزايدت مشكلات الفقر، وانضغط أفق الحياة وزادت ضغوطها. وأحسب أن هذا الظرف قد عود الشعب على تأجيل طموحاته، تأجيل حلمه، تأجيل فرحته التى لم تأت قط. ومع الصبر وتأجيل الفرح لمدة طويلة تعود الشعب على أن يذكر نفسه بأنه يحب الفرح، وأنه يفرح بالقليل حتى وإن كان فوزاً فى مباراة.
وثانيًا: فإن هذه الفترة الطويلة من الزمن الممتدة من بعد حرب أكتوبر 1973 قد شهدت حالة سكون فى المجتمع المصري، مع تمدد كبير لصور من التدين تدفع الناس إلى الركون للماضى والارتماء فى أحضان الخرافة، مع انهيار للتعليم وجفاف للمنابع الثقافية. ومن الطبيعى فى هذا الظرف أن يقل الإبداع، وأن يتباطأ الإنجاز وفى هذا الظرف يصبح أى نجاح وإن كان بسيطًا نجاحًا استثنائيًا، يكسر القاعدة. كما تصبح الفرحة به كبيرة. قد يتجاوز الفرح بالاستثناء فيصور إنجازات بسيطة جداً على أنها إنجازات كبيرة (أفكر فى هذا السياق بالفرحة التى تعم جامعة من الجامعات عندما يكون ترتيبها الدولى فى المائة الخامسة) يبدو لسان حالنا فى هذا الظرف وكأنه يقول: فرح صغير ربما ينقلنا إلى فرح أكبر؛ وإنجاز بسيط ربما يدخلنا فى إنجاز أكبر خاصة بعد الفرح الكبير بالقضاء على الحكم الغاشم للإخوان المسلمين، وهو فرح قد يضاهى الفرح بالنصر فى أكتوبر 1973، وعند هذا الحد يمكن أن نفسر تلك الفرحة الغامرة بالانتصار فى مباريات التأهل لكأس العالم، على أنها فرحة لنجاح استثنائي، نأمل أن يدخلنا فى فرحة أكبر بنجاح كبير، النجاح فى تحقيق مجتمع الرخاء الذى انتظرناه طويلاً.
وثالثًا: كثيرا ما يذهب المحللون إلى القول بأن الشعب يعيش ظروفا صعبة، وضغوطا شاقة لا تجلب له سعادة بقدر ما تجلب له الشقاء والمعاناة. لذا فإنه يبحث عن الفرحة فى أى شيء. وربما يكون هذا القول صحيحا ولكننا عندما نتحدث عن هذا الشعب من زاوية أخرى وفى موقف آخر نتحدث عن تفكك القيم وانحلال الأخلاق وسيادة الروح المادية والسلبية أو روح النقد والرفض الذى لا يحده حدود...إلخ هذه الأوصاف التى لا تترك رذيلة إلا أحصتها. ماذا يمكن أن نقول إزاء هذا التناقض. صحيح أن الشعب يبحث عن فرح من قلب المشقة، وصحيح أيضًا أن العلاقات بين الناس والقيم التى تحكم سلوكهم قد تغيرت أو ربما أصابها الوهن فى بعض جوانبها (قد نعود إلى الكتابة فى هذا الموضوع فيما بعد). ولكن ثمة شيئا صلبا هناك، شيئا يقبع تحت السطح، لانراه ولا نشعر به إلا فى ظروف معينة. وذلك الشيء هو ما أطلق عليه علماء الاجتماع الأوائل روح الجماعة أو روح الاجتماع. إن ما حدث ويحدث فى مصر يؤشر على أن ثمة روحا جماعية قوية، وثمة رابطة تربط الناس بالوطن والأرض والتاريخ واللغة، واحسب أن هذه الروح الكلية هى التى تحفظ المجتمع متماسكا صلبا، رغم ما يقال عما أصابه بضروب من التفكيك والتباعد الاجتماعى والثقافي. تحتاج هذه الروح الجماعية إلى ما يوقظها ويوجه مسارها، على أهداف عامة واحدة، كما تحتاج إلى من يجمعها ولا يفرقها، وإلى عدل يتمدد فى جسدها فيجدد نشاطها وهمتها وإرادتها فيحول الفرح الضيق إلى فرح كبير.