عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أين وكيف ومتى كانت «حرب الاستنزاف»؟
حرب الألف يوم..
4 أكتوبر 2017
> ثابت أمين عواد


 



◙ شهادة جنود وقوات العدو من خلال مشاركات حية كما نقلها الاعلام العبرى

◙ كيف خدع الجيش المصري اليهود؟ ولماذا فشلت المخابرات العسكرية الإسرائيلية في التنبؤ بالحرب حتى قبل اندلاعها بدقائق؟

◙ المثير للدهشة أن أهم موقعين حصينين، من بين 16 موقعا شكلا خط بارليف، لم يصمدا أكثر من 24 ساعة ليقعا في الأسر المصري، هكذا وصفوا فى إسرائيل ما حدث

◙ المصريون وقفوا منتصبي القامة، وعندما تردد أحدنا فى إلقاء سلاحه تم إطلاق النار على قدمه وألقوا القبض علينا بسهولة ..مثلما يتم جمع البيض من عشة دجاج!



 



 



«حرب الاستنزاف»، اسم أطلقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد احتلال العدو لسيناء ـ باستثناء بورتوفيق ـ وتقع في نطاقها قرية «رأس العش»، التي استعدت قوات العدو لاحتلالها لاستكمال احتلالها لسيناء، ولم تكد دباباته ومدرعاته وآلياته تقترب من القرية، حتي فوجئت بمقاومة من قوات الصاعقة والاسلحة الاخري منعتها من استكمال احتلالها لكل سيناء، وظلت هذه المنطقة طاهرة مطهرة لم يدنسها الاحتلال مطلقا..لنحو 3 سنوات، واصلت قواتنا استنزاف قوات الاحتلال، وأطلق عليها العدو «حرب الألف يوم»، ويبدو من هذه التسمية أنهم كانو يعدون لها، ويحصونها باليوم من ثقل وأعباء أيامها عليهم، بعد أن كان يتم خلالها استنزاف قواته، فكانت قواتنا تعتمد علي كسب الوقت لاسباب عديدة، أهمها اعادة بناء القوات، أما العدو فكان الوقت حاسما بالنسبة لتنفيذ المهام وسرعة الانتهاء منها،و كانت المواجهات والجولات الحربية السريعة اسلوبا لقواته في المواجهة والاشتباك، الا أن خطط واسلوب «الاستنزاف» نجحت في حرمان العدو من احد أهم خصائصه..





ضابط شديد الانضباط



بعد حالة الفوضي التي سادت مصر بعد النكسة، وجسدتها كارثة فشل ادارة الحرب من قبل قيادات الجيش وقتها، كان الهدف أمام عبد الناصر هو لملمة شتات الجيش، وأن يجعله قادراً على الوقوف على قدميه، ولم يجد عبد الناصر أفضل من الضابط «شديد الانضباط» محمد فوزي لقيادة الجيش.. فقد كان صارما، فضلا عن شخصيته التي نالت التقدير والاحترام.. وتم تعيينه قائدا عاما للجيش، ثم وزيرا للحربية في فبراير 1968، وكانت أولى الخطوات التي اتخذها القائد الجديد هي تطهير الجيش من قيادات الصف الثاني المسئولة عن هزيمة 1967.



ويعد الفريق أول محمد فوزي مهندس وقائد حرب الاستنزاف، فقد تمكن من إعادة تنظيم صفوف الجيش، وبناء حائط الصواريخ ضد طائرات العدو، والذي استُعمل بكفاءة في ايقاع خسائر جسيمة في صفوفه خلال هذه الحرب، وفي مقدمة كتابه بعنوان «الاعداد لمعركة التحرير» كتب الفريق أول فوزي : «الي ارواح شهداء الجولة الرابعة من الصراع العربي الاسرائيلي، والذين تحملوا صدمة الهزيمة المرة، وحولوا بدمائهم مسيرة الصراع لتكون نقطة تحول تاريخية، قلبت الوضع العسكري والسياسي خلال ثلاث سنوات، الي حالة من توازن القوي مكنت مصر من النهوض والاستمرار في الصراع والتحدي، حتي أن العدو اجبر علي طلب وقف اطلاق النار المؤقت في اغسطس 1970، بعد اسبوع من تساقط طائراته، فجاء ذلك اعترافا منه بتجاوز القوات المسلحة - بقدرتها الجديدة - لهزيمة يونيو في كبرياء وشمم..ان هذه الأرواح بذلت أغلي مالديها في سبيل الحفاظ علي الوطن ونظامه وتقاليده، لتسجل تاريخه خالدا أبد الدهر».



ويكشف اللواء سعيد عوني أحد قادة القوات المسلحة، «أركان حرب مسئول متابعة عمليات اللواء 8 مشاة - خلال حرب الاستنزاف»، عن أحداث معركة دارت رحاها جنوب البحيرات المرة، عند نقطتين مهمتين علي ضفة القناة الشرقية، هما موقع «التبة المسحورة»، ونقطة «تبة الملاحظة» علي حافة القناة في سيناء، ولا تبعد أحداهما عن الاخرى سوي600 متر تقريبا، فكانتا مسرحا مشهودا وفاصلا لعمليات الاستنزاف، تلاها العبور والنصر في عام 1973.



قال: «ولعل شهادات ومقابلات جنود العدو خلال تلك الحرب في هذه المنطقة خير شاهد علي ما قمنا به»، ورأى أن شهادات وافادات قادتنا وضباطنا وجنودنا عن تلك الحرب، دليل دامغ علي المعركة ونتائجها الا أن شهادة من الجنود اليهود وهم يروون يوميات ما حدث لهم خلال الحرب تضيف الي مايرويه رجال قواتنا المسلحة، باعتبارهم، اي اليهود، رد فعل لما فعلته قواتنا، ومؤكدا أحداث الحرب ونتائجها ..وبعد مرور أكثر من 4 عقود علي حربي الاستنزاف واكتوبر، الا أن أثر هذه الحرب مازال يترك المرارة داخل وجدان كل إسرائيلي، وكأنها اندلعت بالأمس».



يروي اللواء عوني، كيف كان ضباط و جنود جيش العدو، الذي كان يروج لمقولة «أنه لا يقهر»، محتشدين في موقعين حصينين من مواقع خط بارليف وكشفوا، مؤخرا، لأول مرة لجريدة «معاريف» عن أسرار جديدة حول تفاصيل عمليات خداع الجيش المصري لهم، وفشل المخابرات العسكرية الإسرائيلية في التنبؤ بالحرب حتى قبل اندلاعها بدقائق..«هذه شهادة جنود وقوات العدو ننقلها من خلال إعلام العدو.»



التبة - المراقبة - لطوف



عن موقع «التبة والمراقبة»، وكان يطلق عليه «لطوف»، تقول رواياتهم عبر اعلامهم: « كان أحد 16 موقعا حصينا تشكل خط بارليف، ولعله كان أهم هذه المواقع ويقع عند جنوب القناة «الكيلو 135» عند نقطة التقاء البحيرة المرة الصغرى بقناة السويس، وتنقسم في الواقع لموقعين «لطوف أ» و«لطوف بـ» ومع هذا فوجئ مثل غيره من المواقع بعبور المصريين لقناة السويس دون مضايقة تذكر، وتم سقوط عدد كبير من الإسرائيليين قتلى، بعد أن قصفت المدفعية المصرية، التي استيقظ النيام على صوتها خطوط الاتصال بين المواقع الأمامية و الصفوف الخلفية.. والمثير للدهشة أيضا هو أن الموقعين الحصينين لم يصمدا أكثر من 24 ساعة وقعا بعدها في الأسر المصري، هكذا يصفون ويؤرخون لما حدث.



وطبقا للأرقام الإسرائيلية، كان يدير الموقعين 27 ضابطا وجنديا اعتمادا على قدرة المخابرات الإسرائيلية على التنبؤ بالحرب، وسرعة حشد قوات الاحتياطي، وقد لقى 10 منهم مصرعهم في القصف المصري على الموقعين، ولقى 4 مصرعهم بشكل غامض لم يعرف حتى الآن بينما استسلم ثلاثة عشر للأسر المصري..



وحول تفاصيل الحرب المريرة قال مجند من اليهود المتطرفين: اسمي «شلومو شاحوري»، وكنت انتمي للكتيبة 68 في اللواء الأورشليمي والذي كان جنوده يشغلون أغلب مواقع خط بارليف الحصين عند اندلاع الحرب، وصلت إلى موقع «لطوف» يوم الثلاثاء السابق للحرب، أرسلني قائد الموقع لـ «لطوف ب» الذي كان مخصصا بشكل أساسي لأعمال المراقبة نهارا، والتي عند انتهائها يعود الجنود الإسرائيليون للموقع الرئيسي، وبالفعل رأيت بالنظارة المعظمة قائد كتيبة مصرية يشبه أنور السادات بدرجة مذهلة وهو يوجه جنوده ويرشدهم بحزم لطريقة الهجوم، أبلغت قادتي بأنهم يستعدون لاحتلال موقع «لطوف»، لكني من داخلي كنت لا أصدق ان الحرب ستندلع بالفعل..



شباك تمويه «سام3»



نعود الي شهادات الجنود اليهود، حيث يتحدث «بني فينشتين» الي جريدة معاريف قائلا: «لم يحذرنا أحد، حيث فوجئنا تماما على الرغم من اإننا لاحظنا قبل اندلاع الحرب بعشرة أيام تحركات، لكن عندما قمنا بابلاغ المخابرات العسكرية بها سخروا منا و قالوا: هل أنتم واثقون أنها دبابات و ليست مدافع، كيف عرفتم أنها دبابات؟».. وعن المشاعر المتباينة عند بدء الحرب قال «اساف جوتسفيلد»: كنت نائما ظهر يوم السادس من اكتوبر، واستيقظت على القصف المصري، وادركت على الفور انه سيقطع خطوط اتصالنا مع الصفوف الخلفية، بينما قال «كوبي شنيدرمان»: كنت اعتقد عند بدء الهجوم، اننا سنستطيع بمعاونة بقية الخطوط من خلفنا صد المهاجمين و دحرهم على الفور.



وفي موقع «لطوف ب» كان يوجد رجال المخابرات العسكرية وكانوا مستقلين بمعنى انهم لا يتبعون قائد الموقع.. و من بينهم «جيورا ماركس» و «موتي بن اسحق» يراقبون منذ الصباح و فجأة انطلقوا يغنون و يرقصون و استدعوا قائد الموقع لأنهم استطاعوا تصوير صواريخ «سام 3» بعد أن نزع عنها المصريون شباك التمويه، دون أن يدرك رجال الاستخبارات الإسرائيلية أن الحرب ستندلع الآن وانهم بعد دقائق سيعانون اليأس والإحباط وسط الحصار المصري المطبق عليهم.



و في الاطار نفسه قال : «شحوري» قائد الموقع لم نعلن حالة الاستعداد لتلقى هجمات الا في الواحدة و النصف ظهرا، ولم يلتزم بذلك عدد من الجنود وظلوا يسخرون مني ويرفضون الدخول للتحصينات حتى بدأ قصف المدفعية و لم أر أحدا ممن كانوا يجادلونني بعد ذلك.



وكيف رددت على القصف المصري؟



كان قصفا مرعبا و لم استطع الا أن احاول امتصاص هذه الهجمات بأقل خسائر، لكن الأرض كانت ترتعد من حولنا، وكنت انا ايضا ارتعد من الخوف، و اول ما خطر على ذهني هو ان زوج شقيقتي لقى مصرعه في حرب 67 و انني سأموت ايضا في هذه الحرب، كما تذكرت ما فعلناه بالسوريين عام 67 حيث التففنا حول المواقع السورية و كل من وجدناه داخل المواقع الحصينة قتلناه، و قلت لنفسي سيفعل بنا المصريون الشيء نفسه.



وماذا فعلت ؟



شربت ماء حتى أقلل من ارتعاد جسمي، وعند أول توقف للقصف قفزت خارج المخبأ أحضرت اللاسلكي الآلي الخاص بي الذي كنت تركته في الخارج، وكانت المفاجأة الكبرى أن المصريين استطاعوا فك شفرة موجة اللاسلكي الخاص بنا ودخلوا عليها لأسمع عبر الجهاز الخاص بي تهديدات و سباب بالعبرية، وكانت صدمة مذهلة، كنت اسمع بالعبرية «نحن قادمون لكي نقتلكم» و بالفعل سيطر علي اضطراب غير عادي، و لم يكن أمامي إلا الانتظار. بالفعل وصل المصريون ووفقا لاعتراف الإسرائيليين، فقد قتل كل من كان يتحصن أمام فتحات لاطلاق النيران تجاه الغرب أو الجنوب (حيث مواقع المصريين على الجبهة) على الرغم من أنه وفقا للأوامر فقد بدأ جنود المدفعية داخل الموقع يطلقون الدانات في كل اتجاه و هي التعليمات التي أعطيت لهم لتطبيقها عند حدوث غزو للموقع، كل من كان يطلق النيران لقي مصرعه خلال نصف ساعة فقط.!



أما الذين كانوا في «لطوف ب» فقد طلبوا النجدة من الموقع الرئيسي لكنهم اخبروهم بأنهم هم أيضا تكبدوا خسائر و ان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، وفي تمام الساعة الثانية و النصف قرر من في الموقع الحصين «لطوف ب» الهروب منه نحو الموقع «لطوف أ» بدعوى استدعاء مدد.



البيض من عشة الدجاج!



ومع مرور الوقت بدأت الدبابات التي تقاتل من حولنا تعاني من قلة الوقود، كما بدأت تتكبد خسائر فادحة كنا نسمع هذا في اللاسلكي ونحن نرتعد، وفي الصباح وجدنا دبابات و جنودا يحيطون بالموقع، في البداية اعتقدنا انها قوات إسرائيلية، لكننا رأينا قوات مصرية تعبر القناة بزوارق مطاطية فاطلقنا النار عليها و عندئذ تلقينا ردا نيرانيا قويا للغاية وعلمنا ان اثنين ممن كانوا في الموقع الأمامي «لطوف ب» وقعوا في الأسر المصري.



و بعد ذلك قال لنا القادة في الخلف عبر اللاسلكي ان لديهم خطة لتهريبنا و كانت لا تعد سوى الخروج من الموقع فجرا، وكان تنفيذ هذه الخطة يستلزم منا عبور مئات من القوات المصرية التي تحاصرنا، وهنا سألت القادة ما هي احتمالات نجاتنا بهذه الخطة فأجابوا «من يريد أن يعيش عليه أن يجري»، وعندما شرعنا في الهروب فوجئنا باختفاء ثلاثة من الجنود بشكل غامض و اتضح انهم لقوا مصرعهم بسبب القصف. الركض لم يستمر سوى 50 مترا في تقدير الإسرائيليين حيث سقط اول أسيرين و هو ما وصفه أحدهما بقوله : صعدنا لتل مرتفع و عندما هبطنا وجدنا المصريين ينتظروننا و قد وقفوا منتصبي القامة، و عندما تردد أحدنا في القاء سلاحه تم إطلاق النار على قدمه، وتم إلقاء القبض علينا بسهولة مثلما يتم جمع البيض من عشة دجاج ، في النهاية وافق الجميع على الاستسلام باستثناء اصغر الموجودين سنا و يدعى «بسيس» والذي هدد بدون سبب مقنع بأنه سيطلق النار على كل من يستسلم، وفي النهاية أقنعناه بالخروج من جانب على أن نشغل المصريين في الجانب الآخر لكي يستدعى قوات لإنقاذنا، و في النهاية خرجنا من المكان و قد تركنا خلفنا جثث زملائنا و نحن نعلم أن المصريين سينقلونها لإسرائيل بعد مرور 14 شهراً على الأكثر بما فيها جثة زميلنا الذي قرر محاولة الفرار بمفرده.



القائد المصري والذي كان يشبه أنور السادات استقبلنا بشكل متزن ونموذجي.. صافح قائد الطابور الإسرائيلي المستسلم، وفي وجوده لم يتم ضرب أحد من الأسرى. المثير للسخرية ان الأسري تعرضوا بعد ذلك لاصابات لكنها كانت نتيجة قصف إسرائيلي بالنابالم المحرم دوليا. بعد ذلك تم اقتياد الأسرى لعبور القناة ومن هناك تم نقلهم بالحافلات للسويس حيث تم هناك تجميع الأسرى الإسرائيليين و إرسالهم للقاهرة.



كيف كانت التحقيقات معكم؟



ـ كان هناك محقق واحد يتحدث العبرية بشكل ممتاز، بالإضافة للمحقق الذي تحدث معي عن الفلسفة والسياسة الدولية وتاريخ اليهود و أعمالهم الروائية، وكان مثقفا للغاية ويعرف عنا الكثير، و في النهاية أجبت عن كل اسئلتهم بلا استثناء.



ألا ترى في ذلك خيانة لإسرائيل؟



ـ لا فقد كانوا يعرفون أكثر مما لدي من معلومات، وعلى أي حال قررت ان اقول مالدي، على طريقة «أنا و من بعدي الطوفان»، من ناحية أخرى وصل التعاون مع المحققين لدرجة أن احد الأسرى وافق على توجيه نداء عبر الراديو المصري الموجه لإسرائيل «كان يحقق نسبة استماع كبيرة» طالب فيه اليهود الشرقيين المضطهدين بالانضمام للمصريين ضد الغربيين العنصريين بهدف إقامة دولة على أساس العدل.



لم يدع أحد من الأسرى أنه رأى اعتداءات خطيرة أو حالات قتل لأسرى.. أشاروا الى انهم لا يزالون يعانون من الخوف حتى بعد كل تلك السنين، مازالوا يرتعدون من كل من يربت على أكتافهم، ولا يستطيعون أن يتمالكوا مشاعر الخوف داخلهم لو سمعوا صوت طرق مفاجيء على الباب مثلا..



هذا بعض من كثير مما قدمته تضحيات ودماء وأرواح شهدائنا الابرار..فهي رسالة لمن ينتظر من أبناء مصر المرابطين الي أن يرث الأرض ومن عليها.