ينطلق الشاعر «مسعود شومان» فى ديوانه الأخير « عارف يارب» من ثنائية «الروح والجسد»، ولا يجعل منها ثنائية ضدية على عادة الرومانسيين، بل يوازى بينهما ويوحدهما، فالجسد عنده يأخذ خفة الروح وشفافيتها لأنها مقتبسة من روح الله، وعائدة إليه بعد فناء الجسد.
لا صراع بين الطرفين إذن، بل تكامل وتوحد ولاشك أن هذا راجع إلى الرؤية الصوفية التى تنظم الديوان، وتندمج فى العالم وتجعل منه وحدة شاملة يقترب فيها الإنسانى من الطبيعى على نحو مما كان يسميه ابن عربى «وحدة الوجود» فلا فرق بين الإنسان والطيور والبحر والشجر، وغيرها من مظاهر الطبيعة، وهى دلالة تتضح من عنوان الديوان الذى تتوجه فيه الذات إلى الله مؤكدة صفة الربوبية بما فيها من معانى الرحمة والغفران، ويستدعى الإهداء هذه الصفة « إلى نوره / وإلى فقد شفت روحى / ولم تبق سوى الحروف تنحت فى العظام»، وهذه الدوال الثلاث (النور وشفافية الروح والحروف) التى هى رمز للشعر تكشف لنا أهم جوانب الديوان حيث نجد فى بعض المواضع إيحاءات بفاعلية الأدب، سواء كان شعرا أو سردا، فحين تسأله «الأبلة فى المدرسة» عن «شغلة أبيه» يلمح عصفورتين على الشباك ويطير «وياهم»، وفى هذا تفعيل للخيال الذى يتجاوز الواقع وتمهيد لقوله بعد ذلك « وكل ما الحدوتة تكمل العش يوسع والشمس تبعد بعيد» (ص 13). فخيال السرد والفن قادر على تبديل الواقع وخلق عالم بديل وهذا يفسر تشبيهه لقلبه بالصوت الذى يلون الظلمة أو ينيرها، وعندما نقول صوت الشاعر لانعنى ابتعاده عن أصوات جماعته البشرية التى ينتمى إلى ثقافتها ووعيها ورؤيتها للحياة على نحو ما يظهر فى قوله «الليل قديم بس صوتنا نهار/ انزل هنا وقول للنار تصفى الجروح/ خلِّى الحبايب يفرحوا بالشمس / ومن جديد هانشوف كلامها / ونبتسم للغيم» (ص32)، فالصوت الذى كان ينسب إلى الأنا ويضاف إليها أصبح منسوبا إلى هذه الجماعة التى صار صوتها نهارا، بعد أن كان واهنا فى الاقتباس السابق وقادرا على « تلوين الضلمة» هذا التداخل بين الشاعر والآخرين وبينه وبين الطبيعة جعل من تراسل الحواس وأنسنة الطبيعة من التقنيات الجمالية المتكررة فى هذا الديوان فيحيل المسموع إلى مرئي: «خلِّى الحبايب يفرحوا بالشمس ومن جديد هانشوف كلامها»، وتشخيص النور: «والنور بيعرج بس رابط عينه»، وقد تكون الطبيعة نفسها أكثر وعيا «تحت الجبل/ فهمت الصبَّارة معناها وحاولت أفهم معاها»، وتصبح أشياء الإنسان كأنها بضعة منه : «زعلت السبحة وورت دمعها لعياله». إن ما سبق يوحى بأننا لسنا أمام صوت واحد بل أصوات متعددة منسوبة إلى الذات والأشياء والعالم، ما أبعد الديوان عن سمة الغنائية، وجعله قريبا من الحس الملحمى الذى ساعد على تأكيده بنية الديوان القائمة على قصيدة واحدة مرقمة إلى عشرين مقطعا تتكرر فى بداياتها عبارة «عارف يارب» فيما يشبه الإيقاع الداخلى الذى يمهد لاستقبال لحن جديد. وهذا التعدد الصوتى يتوازى مع تعدد النماذج البشرية التى يقدمها الشاعر سواء كان منتميا لها أو ساخرا منها، ولنتأمل هذا المقطع الذى يمكن وصفه بالهجائية الساخرة «وفى النهاية هايظهر البلياتشو يبقى حكيم العيلة وصندل الباشا فى عز الطين»، ووجود هذه النماذج يؤكد الصراع والدرامية على مستوى الواقع والفن ويفسر تعدد الضمائر بين المتكلم والغائب، وهذا أضفى على الديوان صفة التركيب، بحيث يصعب الفصل بين الروحى والاجتماعى بوصفهما همين أساسيين من هموم الديوان، كما يبدو فى قوله: «أنا صاحى لسه وقلبى نفسه يدق/ كأنه زهرة فيها من روحك/ كأنه عيل يتيم بيملسوا على شعره/ كأنه خرج مليان تين ورايح للغلابة». (ص10). إنه قلب الشاعر الذى انعكست على مرآته صور العالم على اتساعه وتنوعه وثرائه.