عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
زهرات الياسمين
18 أغسطس 2017
محمد قطب

ما الذى جعله يزاحمني بالليل ويغشاني.. ثم يقدم لي وردته البيضاء التى كان يكتنزها لي كلما ذهبنا إلى الأورمان؟. فى الحلم تعجبت منه.. لم يكتف بالبسمة واللمسة، تجرأ واقتحم.


كنت أظنه كما هو.. بريئا فى حبه.. كيف يتجرأ علىّ ويتمادي؟..



أيكون المكان الجديد فى البلد الجديد، قد درّبه على الاقتحام؟!



أين هو من تعسيلة العين وخفقة الخجل معاً؟!.. أين حصاته التى كان يدخرها ثم يرمي بها عين الماء تحت الجسر فيترقرق الماء ويصيح مهللا.. انظري وجهك مرسوم على سطح «الميّه»..



وأتداخل فى ملابسي خشية أن يفضحنا صوته.



.. كان حلمه أن يتخرج ويعمل، ويكنز، ثم يتزوجني.. كان يقول لي سآخذك إلى الإسكندرية بلدي، وعشقي، وسكني..



وحين اعترضت على كلمة عشقي، ابتسم وقال فى شغف لا أنساه..



ـــــــ أنت عشقي يا سميرة



.. وهو ينسلخ منى ومن حلمه الوالج، ويمضي كالطيف الهارب من نور يولد فى الأفق.. قال مداعبا..



ـــــــ انتظرينى سأعود



.. وأهب من نومي فزعة.. وأنا أتمتم فى وجل



ــــــ انتظرك أيها الهارب.. بعد كل هذا الزمن!



خشيت ـــــــ لضعفى معه ـــــــ أن يأخذني الحلم.. فطويت جسدي ودفعت به إلى الحمام.. كي أغتسل واتبرد.



.. بعد أن احتسيت قهوتي، قلت لنفسي فْلأمضي إلى حديقة الأورمان، وأشهد احتفالها بالربيع.. وأتوقف عند أماكن المحبة التى ذكرني بها الحلم..



.. كانت وهى فى الجامعة تفضل قضاء وقت الفراغ بين المحاضرات بالحديقة..



كان يسبقها، ويواليها بنظراته وهى تخطو متوردة، ممشوقة القوام، ذات شعر منسدل.. يراها وهى تلج من المدخل، وهى تتأود فى مشيتها الخاصة بالحديقة، وهى تعتلي الجسر فى اتجاه «الكافيتريا».. يراقب عينيها وحركة الرأس وهى تطل على قناة المياه تحته، واهتزاز نباتات الماء التى تتمدد على السطح.. يستدير سريعا، يختار مقعده تحت ظلال شجرة باسقة، ويجهز المقعد الآخر.



.. حين توقفت أمام المقهي لمحته فى كنف الظلال، هلّ واقفا يلوّح لها ويبتسم.. غزتها فرحة راحت تسيل مع نور العين حتى كادت تنكفئ فى خطوها، نهض واقفا وتأهب.. رأى استقامتها فعادت بسمته.



ابتدرها فى جذل حقيقي



ـــــــ تأخرتِ ربع ساعة



سوت شعرها المنسدل، ووضعت حقيبتها على المنضدة.



تنفست فى عمق فكشف الهواء صدراً ثريا..



.. كان يضع قلبه أمامها ويطالبها أن تحسب نبضاته..



وكانت تضاحكه وتقول:



ـــــــ إن أخرجته ثانية فلن أعيده إليك



يستدير ثم يخرج وردته البيضاء المخبوءة ويقدمها إليها..



تهتز حين تزاحمها الرائحة.. ويفتر ثغرها عن بسمة رائقة..



.. تمر اللحظات سريعة..



تستمهله كي تشرب الساخن والبارد..



وهو يتلكأ حتى تفوتهما المحاضرة..



. كان ينسج معها رداءً شفيفا.. يلتفان به.. ويطيران..



يصف لها البيت الذى يضمهما..



كأنه عش عصافير، يستر ويحتمي بأوراق الشجر



وتقول له، وهى تضحك..



ـــــــ اختر شيئا ضيقا فالعش فسيح



ويضحك زاعقا ويمسك بأصابعها ويعدُّها



ـــــــ واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة..



وينظر إليها مبتهجا، وتنظر إليه فى بهجة.. وعينها تضوي



ـــــــ لم يبق إلا شهران..



تريح خدها على كفها وتتأمله



ـــــــ ثم !!



يغمس نور عينه فى وجهها فيلتمع



ـــــــ نبحث عن عش فسيح



ويضحكان، يضجان بالفرحة.. فتنتفض العصافير فوق الشجرة..



وتعزف لهما «زقزقات» من النغم الجميل



علقت فى تغريدة كأنها تحاكي العصافير



ـــــــ تفاءلِ.. أبواب العمل ستفتح أبوابها لنا



نهض وفرد ذراعيه وعبًّ الهواء.. ولوَّح للشجر



ـــــــ سنغرف المال ونكنزه



ضحكا معاً حتى دمعا



ـــــــ ستكونين زوجتي



رفعا رأسيهما إلى أعلى



كان عصفوران يتراودان.. تنتظر العصفورة على فنن يهتز والعصفور يروح، يقفز، ينفش ريشه، ويهف بجناحيه ويحوّم.. ويقتحم..



يضحكان.. يغمرها حياء يخضب وجهها وتقول:



ـــــــ إنه يستعجلنا



ويبتسم، ويقول فى مسرة بادية



ـــــــ «هانت.. كلها شهرين»



.. لكنه نأي.. هاجر وابتعد



هل تظلين كلما جئت إلى المكان تستدعين الوجه وبهاءه؟



والقلب ونبضه؟



لماذا حين أخرج قلبه لم تحتفظي به، وتتركيه بلا قلب؟



.. كادت تنكفئ فى خطوها فعلا صوتها، ونترت يدها فى الهواء..



حتى هذه تتكرر!



توقفت، اعتدلت، أدارت رأسها ولم تسأل: لماذا تكرر المجئ؟ لكنها تساءلت: متى تهتدى إلى لحظة سلام تعيد لها صحوها؟



.. اختارت المكان الذى كانت تجلس فيه، والشجرة ريانة الغصون وعلت برأسها وتسمعت، لم يصلها صوت عصفور واحد، فابتأست. اختارت ماذا ستشرب؟ فضلت النسكافيه،.. هى تحتاج إلى إفاقة، أن تصحو، وتخلع من رأسها حلمها الذى أتي بها..



وهى تسير إلى العامل لمحته.. فازدادت عجباً!



وكادت أن تمضي..



تري أيتعقبها؟.. يحتاج الأمر إلى وقفة.



نهضت وتعجلت العامل، استدار، رآها، عاد إلى صحيفته..



توقعتْ أن يلوح لها أو يبتسم، لكنه لم يفعل فذهبتْ إليه..



وقفت أمامه واجمة.



ــــــ توقعت أن ترحب بي.. أو تبتسم.



نهض سريعاً ومدّ يده.. دعاها إلى الجلوس واعتذر



ـــــــ خشيت أن تصديني



ـــــــ لم ؟



ـــــــ أحرجني انسحابك من حلبة الرقص الشعبي



وسألها فى ودّ يلتمس به الرضا.



ـــــــ هل حدث منى شئ؟.



ـــــــ أنسيتَ لمساتك الجريئة؟



ـــــــ كأنك لم تراقصي أحداً



رأته يطوى صحيفته فبادرته قائلة:



ـــــــ هل تأتي هنا كثيراً؟



ـــــــ أحيانا.



ـــــــ لم أرك من قبل هنا



ـــــــ الحديقة فسيحة.. آتي، اجتمع مع بعض الأصدقاء



نتسامر، نتصفح الجرائد، ونعلق على الأخبار..



ثم نحتسي شيئا.. ونمضي..



.. فوجئ بها.. فى كل مرة يفاجأ بها.. رآها فى النادي تمارس رياضة المشي فى (التراك).. وها هى فى الأورمان تجلس فى المقهي.. لا أحد معها.. لعلها لا تحتفظ بالصداقات، أو تتحفظ فى العلاقات.. لم ذلك فى المرتين.. المصيف، ولقاء الصدفة بالنيل.



لكن يقلقه أنها فسرت ما حدث على غير حقيقته، فلم يرد على ذهنه، مناورة ما، لكنه الموقف الذى استدعي نوعاً من المخاصرة..



.. طلب الشاي، وعصير البرتقال



غزتها دهشة وهو يكثر من أكياس السكر



ـــــــ كيف تستسيغه؟



راح يفك وريقات من الريحان.. هبت رائحة عطرت المكان. رمقها وهى ترشف عصيرها وتساءل: أين بهجة الوجه التى لمسها أثناء المصيف والماء يناوشها.



.. سألها فى تودد وهو ينهي شايه.



ـــــــ يقيم النادي رحلة إلى مرسي مطروح.



قالت فى حسم:



ـــــــ ليس لي فى الرحلات



نظر إليها، فنظرت إليه، ودت لو يدرك المعني



ـــــــ إذا أردت.. سافرت بمفردي، أو مع أسرتي



وصديقاتي القليلات.



تجرأ ضاحكاً وقال:



ـــــــ لو وافقت لذهبتُ معك



غمزت بعينها، ونطقت فى مودة



ـــــــ آن لي أن أذهب



.. وقفت، انتظرت أن يقول شيئا.. مدت يدها، فمد يده. أبقاها قليلا..



سحبتها بسرعة..



حيّته ومضت فلم تكن تريد لهذه المسرات الصغيرة أن تقودها إلى ما لا تحب.



.. هفا قلبها إلى المكان فاتجهت إليه.



بدا لها أنه يناديها فهرولت.



أخذها الحنين إلى النجيل المنبسط، والزهور المتناثرة فى كل جنبات المكان.. وجلسات الأنس مع الأحبة، وإلى جلستها المفضلة أمام (الكافيه) وتحت دغل من الأغصان، تداخلت، وتدلت منها أفرع مترعة بزهرات الفل والياسمين.



.. تاقت إلى الأريج الذى يفوح بعطره على المكان.



ودهمها فيض الأبيض الخلاب.. فولجت.



.. شملتْها هزة، أعقبتها سكينة وهى تستعيد أزمنتَها.. المقعد المواجه لـ«حمام» السباحة شهد لقاءات، كانت العيون فيها تومض، والرءوس تدنو حتى تكاد تتلامس.



وأضواء «الكافيه» كانت تشدها بنورها.. فتستكين.



.. مسحت شْعرها وتمتمت:



ـــــــ كانت شاهدةً علىّ..



أدارت وجهها.



ثمة وجوه «فلتت» من الذاكرة.



وتوقفت عينها عليه.



وشى الدم بحمرة الخجل وحركة القلب الذى أخذها إلى زمن الرجفة الأولى.. عرف القلب على يديه كيف ينشغل؟



رأته فكان قلبها وسَترته.



.. رمقته وهو يتراجع إلى الخلف ويتملي، عيناه ترمقانها وتمعنان فى النظر، كأنه لا يصدق، وصلتها لمعة وامضة فتهيأت.



لاح وجهها يفيض بهجة وهى تراه يقترب.



.. استأذنها فأذنتْ.. أحستْ بدفئه فائتنسَتْ..



ـــــــ احتجبتِ فجأة!



مدت يدها ولمست شعرها المسترسل الناعم.



ابتسم.. وراح يحدق فيها، وهو يقول فى صوت متسارع كأنه يخشي أن يوقفه أحد.



وأنه يقصد أنها اختفت فجأة، وأنه ظل يبحث عنها دون جدوى، وأنها تركتْ فى القلب كدمة لا تزال توجعه، وأنها كانت مُحبة، وودودة حتى خالها الجميع أنها لهمُ.



ـــــــ وكنت أغتاظ حتى كدت أهجرك.. أو أضربك.



ضحكتْ زاعقة فاستدارت الرءوس.. لم تبالي وهمست.



ـــــــ كنت تغار علىّ



ـــــــ كنت أحبك



زفرت آهة ساخنة حتى كادت تلسعه.



راحت أصابعها تتلامس مع سطح الطاولة.. وعيناها تهيمان.



.. وحطت عيناه على وجهها.. العين، والحاجب، والأنف المدبب والشفة المزمومة وخصلة الشعر المسدلة على الجبين.



ـــــــ تزوجتِ!



ـــــــ نعم



تفرستْ فى ملامحه، فصادت عيناها هموداً.. وترهُلا..



وابتسمت، وفاضت بعطرها..



مع أن قلبها يقودها، إلا أنها لم تضعف.



أتخبره أنها ظلت تنتظر منه الإشارة، وأنه فى كل لقاءاته معها لم يوح، أو يومئ.



أدركت أنه، لن يقدم على الأمر فابتعدت.



.. راقبها وهى تتداخل، وتنكمش كأنما تقي جسدها من طارئ يدهمها.



زوت حاجبيها وهامت، علا صدرها وارتجف..



.. نهض فخالت جسده يتمايل، مرّ بالأغصان، ومدّ يده. قطف زهرات الياسمين وكوّمها فى كفه.. وعاد، فرشها على الطاولة، وراح يرسم قلباً.



كانت تنظر إليه وتضحك.



وكان ينظر إليها.. ويبتسم.



كان القلب ينبض زهرة زهرة.



حمل النبض رائحته إليها فثملت.



وكان ينظر إليها، ويدير رأسه.. وهو يودّعها.



.. لم يطرأ على بالها ما حدث..



كأن الزمان يصالحها.. ويأتي بالأحبة



كانت فى زيارة لصديقة لها.



أخبرتها صديقتها أنها ستخطب قريباً.. وحين تساءلت:



ـــــــ أهو !



زمت صديقتها شفتيها ولم تجب..



أدركت أن القانون الساري هذه الأيام أن يتنحي الحب.. ويظهر المال.