عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
جريدتى
5 أغسطس 2017
أمينة شفيق

فى بداية شهر إبريل عام 1960 تلقيت رسالة شفهية من الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام يطلب نيل مقابلته فى مكتبه فى مبنى الجريدة فى شارع مظلوم حيث كان المبنى القديم. قفز قلبى فرحا للرسالة لأنى توقعت ان يلحقنى بالعمل فى جريدة الأهرام. فى الموعد المحدد بالضبط اتجهت إلى المقابلة احتراما لشخص الأستاذ هيكل أو ربما خوفا منه، وهو الأدق. فى مكتبه استقبلتنى الأستاذة نوال المحلاوى مديرة مكتبه والتى كانت زميلتى فى الدراسة فى الجامعة.


سألنى الأستاذ هيكل «إيه رأيك تنضمى لأسرة تحرير الأهرام؟». لم يحتج السؤال وقتا للتفكير. أجبته فورا «بالقطع». ثم سألنى تعرفى صلاح هلال؟ أجبته «طبعا» فقال «هو مسئول صفحة الرأي، اطلعى له فى الدور العلوى وقابليه». كنت أعرف الزميل صلاح هلال منذ أن كان يعمل فى مجلة آخر ساعة وكنت حينذاك اعمل فى مجلة الجيل الجديد. كما كنت اعرف زوجته الراحلة الزميلة الرائعة فتحية بهيج مسئولة صفحة المرأة فى عدد الجمعة من الأهرام.



 






وبسبب الجوار بين المجلتين كنا نتبادل التحية. لا اكثر ولا أقل. تحمست.. وفى أول شهر عمل لى فى «جريدتي» نشرت سلسلة من ثلاث حلقات فى صفحة الرأى عن طفولة مصر. وفى اليوم السادس والعشرين من شهر ابريل طلبنى الأستاذ فرحات، أمين الخزينة، فى مكتبه الصغير فى الدور الأرضى لتسلم مرتبى الذى كان 30 جنيها. فرحت جدا بالمبلغ الذى زاد خمسة جنيهات على مرتبى السابق الذى كنت أتقاضاه فى جريدة المساء. ولكن لم تكن كل سعادتى بسبب الجنيهات الخمسة بقدر ما كانت بوجودى بالأهرام وبدايتى لجانب جديد من حياتى المهنية فى هذه الجريدة اليومية التى كانت ولا تزال أقدم الصحف اليومية المصرية. ومنذ شهر ابريل عام 1960 استمرت جريدتى الأهرام هى مكان عملى ومصدر رزقى والمؤسسة التى ارتكزت عليها لبناء مجرى حياتى المهنية وقاعدتى البشرية النقابية. كما استمر يوم 26 من كل شهر من اسعد أيامى خاصة وأنا اتجه إلى الخزينة لتسلم مرتبى أو مكافأتى وحتى أرباحى السنوية.



ولما كان التعيين فى جريدة الأهرام من طموحات العديد من الصحفيين فى ذلك الوقت، فقد كان لخبر تعيينى فى «جريدتي» صدى فى ذلك الوقت خاصة وقد كنت قد انضممت إلى نقابة الصحفيين وبدأت أحضر نشاطاتها الثقافية والترفيهية. كان العديد يسألنى «إنتى رحت الأهرام بصحيح؟». كنت فرحة مبتهجة بعملى فى جريدتى وبعضويتى فى نقابة الصحفيين.



ولم يكن العمل تحت رئاسة تحرير الأستاذ هيكل سهلا أو هينا، لقد كان صحفيا دقيقا ومدققا لا يقبل الأخطاء سواء كانت صغيرة أو كبيرة. لذلك كنت شديدة الحرص على أن ادقق فى عملى حتى لا ارتكب أخطاء تضعنى أمام محاسبة رئيسى المباشر الأستاذ صلاح هلال، المعروف عنه الكفاءة والمهارة الشديدتان وخاصة فى كتابة التحقيقات الصحفية واختيار عناوينها. ومن المؤكد أن أى أخطاء سوف تضعنى تحت محاسبة رئيس التحرير، الأستاذ هيكل.



لكن حدث تحول كبير لم يكن فى الحسبان. فعند توجهى لاجتماع الصباح مع الأستاذ صلاح هلال يوم الخامس من مايو، اى بعد شهر من بدء عملى فى جريدتي، وفى تمام الساعة التاسعة صباحا وزعت وكالة أنباء الشرق الأوسط خبرا يحمل مضمونا غريبا « تنظيم الصحافة المصرية وأيلولة ملكيتها إلى الاتحاد القومى «التنظيم السياسى المسموح به فى البلاد». وضم التنظيم كلا من مؤسسات الأهرام وأخبار اليوم وروز اليوسف ودار المعارف ودار الهلال. ولم يتضمن الخبر دار التحرير للطباعة والنشر لأنها كانت قد تأسست بعد الثورة وكانت الرخصة باسم جمال عبد الناصر. فور توزيع الخبر من الوكالة قامت الدنيا، فى الداخل وفى الخارج، فقد تجمع الصحفيون فى الجريدة، ثم جاء اليها العديد من المراسلين الأجانب العاملين فى القاهرة لاستبيان الأمر والتحقق من معناه غير المفهوم « ماذا يعنى تنظيم الصحافة».



فى تمام الثانية عشرة صباحا انتظم كل أعضاء أسرة تحرير الأهرام فى اجتماع موسع رأسه الأستاذ هيكل والذى صرح بأنه كان يعلم بالخبر ولكنه لم يكن يعلم بتوقيته. وتناقش البعض عن مستقبل حرية الصحافة فى إطار ما يسمى بـ «تنظيمها». وعبر البعض عن مخاوفه على المهنة ذاتها ومستقبلها. المهم أن عبارة «حرية الصحافة» ذكرت عشرات المرات فى المناقشة مما استفزنى وجعلنى اطلب الكلمة.



قلت ما معناه أن التغيير لن يمس كثيرا المهنة او المهنيين ولا حرية الصحافة. ستسير الأمور كما هى وكما كانت. فقدر الحرية الذى أتيح فى الماضى سيتاح بعد التنظيم. سيمس التغيير سياسات المؤسسات التى ستوضع وتحدد للمؤسسات الصحفية.



لم يتقبل الكثيرون كلامى واتهمنى البعض بـ «طولة اللسان» لأنى ألمحت من بعيد الى ان الصحافة المصرية كانت تحت رحمة قلم «سيادة الرقيب» الذى كان يقرأ كل خبر حتى ذلك الخبر الباهت الصغير فى صفحة الحوادث. والآن باتت تحت سيطرة السياسات التى ستوضع لها. لقد رحل الرقيب العلنى وجاء الرقيب غير العلني. لذلك اتهمت بـ «طولة اللسان».



بعد الاجتماع مال على زميل ليسألنى « انت اتعينتى ولا لسه بمكافأة؟» قلت له أنا تسلمت مرتبى من الأستاذ فرحات ووقعت على كشف الصحفيين. فأجاب « احمدى ربنا لو كنت بمكافأة كان هيكل استغنى عنك». لم أصدقه لأنى كنت ولا أزال مقتنعة بالقاعدة العلمية الصحيحة فى موضوع حرية الصحافة وهى أن حرية الصحافة هى فى الأساس حرية مالك الجريدة وليست مجرد حرية المهني. المهم ان يكون المهنى ذكيا حويطا. ومع ذلك أتذكر فى اجتماع للأستاذ هيكل مع قسم صفحة الرأى قال «أنا حاسس إنى رئيس تحرير جريدة معارضة، هى البلد ده مافيهاش حاجة عدلة تكتبوا عنها».



فمالك الجريدة يصدر جريدته وفقا لسياسات فكرية اجتماعية محددة لديه. ومالك الجريدة قد يكون فردا او حزبا أو جماعة فكرية او دولة. وقبل صدور الجريدة تتحدد السياسات التى يتحرك فيها المهنيون. هكذا افهم مهنتى واتعامل معها. واستمرت الأمور بعد «التنظيم» ولم يشك احد. الهام فى الموضوع ان عبارة «طويلة اللسان» استمرت تلاحقنى فترة طويلة.



ولكن بالنسبة لى استمرت «جريدتي» جزءا من كيانى حتى ان الكثيرين من الزملاء فى نقابة الصحفيين كانوا يصفوننى بالأهرامية. وهى صفة لم اجدها سيئة باى حال لأن الانتماء للمؤسسة أو للمهنة او للوطن ليس الا بالقيمة الجيدة التى تربط الانسان بالحياة ذاتها وتجعل منه انسانا محددا تستطيع التعامل والتفاهم معه.



لم أشك لحظة ولا مرة من تصنيفى كأهرامية لأن «جريدتي» كانت ولا تزال قاعدتى المهنية الأولى والأخيرة. عليها كنت استند فى مواجهة الحياة وصعابها. وإلى لحظتنا هذه اسعد كثيرا وأنا ادخل جريدتى وأواجه بتلك الابتسامات الخالصة غير المنافقة والتى لا تحمل الا مضمون الحب والتقدير من كل الزملاء العاملين. «ازايك يا استاذة» «ربنا يديكى الصحة» «فين ايامكم» «والله منورة المبني» كل هذه العبارات وغيرها تصادفنى دائما فى زياراتى المتكررة لجريدتى التى أعطتنى بقدر ما أعطيتها ولكن عطاءها كان اكثر لمئات المرات.



أعطيتها الاحترام والتقدير. كما حملت لزملائى ذات الاحترام والتقدير. وفى كل مكان مهما كان بعيدا عن القاهرة كنت أتصرف دائما على أنى عضوا فى أسرة تحرير الأهرام أقدم وأكبر الصحف فى الشرق الأوسط.



جريدتى التى أمضيت اكتب على صفحاتها لـ 57 عاما وأرجو أن استمر اكتب على صفحاتها ما طال بى العمر. كما أتمنى لها النجاح ولكل زملائى التوفيق.