عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مقعد واحد
9 يونيو 2017
أسامة حبشى


 ليت المقاعد تبوح بأسرار جالسيها، ويا ليت الخطى تثور على أصحابها، ويا ليتها تنفّس عن غضبها شجرة أظلّت الجميع رغم أنهم يهينون جذورها بأعقاب السجائر وبقايا الطعام والقمامة، أنا هو ذلك المُقعد التعيس بطرف المقهى، يحملنى هذا إلى هناك ويأتي بي آخر إلى هنا، ويرفعنى العامل بكل عنف ويلقي بي فى حجرةً مظلمة عند انتهاء العمل، وقد يضع فوق رأسي مئات من المقاعد دون رحمة، وقد أكون بمفردي مُهملا أو طاولة للمأكل والمشرب، وأحيانا لبعض أقدام الخبثاء، ولكن ما شدّ انتباهي هو تلك السيدة التي جلست وكانت تتصبّب عرقا وبها قلق ليس طبيعيا، وبحركاتها المتلاحقة بشكل لا إراديّ أنهكت قدميّ الأربع ورأسي، وكاد ظهرى أن يُقصَمَ من بدانتها، نظراتها نمّت فى البداية عن امرأة تبحث عن الصدفة، وكانت توزع النظرات على كل الجالسين، ثم ببطء اتخذت تلك النظرات طابعا حزينا، متوتّرا، ودليل على ذلك محاولتها الكثيرة للاتصال برقم مَّا كان لا يجيب وكان نصيبي من القلق أكثر، لم تدرك تلك المرأة الرحمة بنفسها أو بي، وكان داخلها يغلي بشكل مرعب وكنت أشعر به من هزات قدميها، وفجأة أجاب ذلك المجهول على الطرف الآخر من المكالمة وكانت الصّدمة، فتلك المرأة لم تنتظر الصّدفة ولكن الصّدفة هي التي كانت تنتظرها، ودار حوار بينها وبين المجهول غريبا وأثار بي بعض من التعاطف معها، كنت على وشك لفظها من فوق رأسي والإمساك بخدها ولطمه أكثر من مرة كيْ تفيق من بكائها وحزنها، ولكنني لم أفعل لأنها لم تترك فرصة بسبب حجمها اللّعين، حركت إحدى قدميّ لعلها تفيق ولكن دون جدوى، وما إن نزلت إحدى دمعاتها على طرف محيطي المربع فثار غضبي وتململت وكادت تقع فقامت وأمسكت بي بيدها و»زرعتني» أرضا بكلّ عنف، فلم أتمالك نفسي وأفلتُّ من يدها ووقعت، فنظرت إليّ نظرة لم أتمكّن من تصنيفها بعد حتى تلك اللحظة التي أروي بها حكاية تلك المرأة، كان المجهول معي عنيفا، وكانت هي تنقاد إليه بشبق حزين، وكنت لا أعي هل فقدت رشدها أم أنها هاربة من مجهول آخر وتودّ أن تحتمي بهذا المجهول اللّعين، بعد فترة أعادتني وجلست عليَّ ونطقت هامسة:



لي من العمر ما لا يعادل ما قد مضى وها أنا هنا أنتظر شبحا لن يحضر.



فقلت ولكنها لم تسمع يقينا لأنها قد وقفت وشرعت فى محاسبة النادل:



شبح يأتي لطرد شبح أتى وأنتِ لن تعرفِي الفارق بينهما لأنك مسكونة بشبحكِ أنتِ.



ضاعت كلماتي سُدى، بينما كانت خطواتها فلم تكن تسير بشكل طبيعي بسبب البدانة المفرطة، ولكنني أيقنت أنها ستبحث عن مقعد آخر بمقهى آخر فى انتظار مجهول آخر.



2



جاءت المرأة التى غزت أعْين الجلوس بقامتها وتناسق أعضائها الذي يشبه عزفا لموتسارت، كنت بالفعل أحسّ بفخر وسط كل المقاعد، ورأيت فى أعينهم ما في أعين كل الجلوس من حسد ورغبة فى قتلي، لأنني من اختارته للجلوس عليه، كانت بالفعل هادئة، ومتماسكة كعود خيْزران، وكنت أكنّ لها الاحترام الذى يليق بجمالها، لم تكن تلك المرأة فضولية على الإطلاق، كانت بها رائحة مَّا من الكمال، ولها عبق من الرُّسل، كانت نظرتها في محيط قدمها اليسرى التي وضعتها فوق قدمها اليُمنى، وكنت بالفعل فى محيط خدّيها أسبح كورقة تقع راقصة في جوّ خالٍ من الريح، تناولت قهوتها، ولم تهمس بكلمة ولم تنظر في هاتفها ولم تنتظر المجهول، وحاول المجهول متمثّلا في بعض من الجلوس التقرب منها والبوح بجمالها ولكنها لم تنطق، ولاحظ ذلك النّادلُ فجاء مسرعًا ونهرَهم، وباتت هي في سَكينة تامّة معي، أنا المحظوظ بها وهي المحظوظة بمحيطي الهادئ، كانت جِلْستها مريحة فلم أشعر بأي ألَمٍ، وعندما حانت لحظة فراقها، لم تحملني أقدامي الأربع فبمجرد وقوفها وقعت كالمغشيّ عليه من هوْل الفراق، ونتيجة كل الحقد من الجلوس ومن المقاعد الأخرى لم يرفعنى أحد، وهي أيضا نظرت إليّ باسمةً وكأنها أحبت قتلي كالعشاق، ولم أفق مما حدث لي إلا ساعةَ أنْ أدخلني العمّال في المخزن بعدَ نهاية العمل، وتأكدت من انتقامهم عندما كنت أول المقاعد وكانت كل المقاعد الأخرى فوق رأسي كالجبل.