هشام لطفي سلام
محمد عبد الهادي علام
مصر الشاعرة
حوار الفصحى والعامية
28 أبريل 2017
أحمد عبدالمعطى حجازى

أتصور أن عامية مصر العربية سبقت فصحاها إلى الوجود، لأن العرب حين دخلوا مصر فى القرن السابع الميلادى دخلوا بلدا عامرا ووجدوا شعبا متحضرا له لغته التى يتواصل بها أفراده ويتفاهمون فيما بينهم ويعبرون بها عن همومهم وعواطفهم وأحلامهم وعقائدهم بجميع الصور والأشكال التى تتحقق باللغة. والعرب الذين دخلوا مصر كانوا آلافا قليلة من المحاربين الذين تمكنوا من الاستيلاء على مصر بعد معارك سريعة كانت دائما فى صالحهم.


لأنهم لم يخوضوها مع المصريين الذين كانوا قد فقدوا استقلالهم طوال الأعوام الألف التى سبقت دخول العرب بلادهم وفقدوا مع الاستقلال قوتهم العسكرية ومؤسساتهم الوطنية إلا مؤسسة واحدة ظلت تدافع عن الهوية المصرية هى الكنيسة التى ناضلت لكى تبقى كنيسة قبطية منفصلة عن كنيسة بيزنظة. أما موسسات الدولة فقد فقدوها كلها وأصبحوا مجردين من أى قوة لايملكون مقاومة الغزاة الجدد، أى العرب، ويتمنون هزيمة الغزاة القدامى، أى البيزنطيين، وهذا هو الموقف الذى فهمه عمرو بن العاص واستفاد منه فى تعامله مع المصريين فربح معركته مع الروم البيزنطيين لتسير الأمور بعد ذلك على النحو الذى سارت عليه. فقد اعتنق المصريون الإسلام وتركوا لغتهم القبطية لينطقوا باللغة العربية. ونحن نقع فى خطأ بالغ حين نظن أن هذا الذى حدث كان انقلابا تم فى يوم وليلة. لا، فالحقيقة أنه كان ثمرة حوار طال بين مصر وجيرانها، خاصة الساميين الذين ظلوا طوال الألفين السابقين على الميلاد، أو ظلت شعوب منهم وقبائل تنظر لمصر بانبهار وحسد، وتتحين الفرص لتتسلل داخلها وتستولى على ما تصل إليه أيديها. وظل المصريون خلال ذلك يدافعون عن حدودهم ويضربون على أيدى المتسللين ويطردونهم ويتعقبون فلولهم خارج الحدود ويضعوا أيديهم فى النهاية على الأقاليم المحيطة بمصر وينشئوا الامبراطورية المصرية التى امتدت من أعالى الفرات شمالا إلى برقة غربا والنوبة جنوبا، وانفتح فيها المجال لصور من التبادل والحوار الهادئ والعنيف عبرت عن نفسها فى الشعر والقصة والتصوير والدين فضلا عن ساحات القتال، كما نجد فى أسطورة أوزوريس إله الخصب الذى يرمز لمصر وصراعه مع شقيقه الشرير ست، وقد أعطى هذا الإله المصرى الشرير اسمه للملاك العاصى فى الديانات السماوية «شيطان» من «ست» التى تنطق «ساتان»، وكما نجد فى الغارة التى شنها الهكسوس على مصر وانتهت بطردهم على يد أحمس والاستيلاء على البلاد التى جاءوا عن طريقها. وكما نجد فى تبنى اليهود لعقيدة التوحيد المصرية التى صارت له ديانة قومية على يد موسى الذى يعتقد عالم النفس سيجموند فرويد أنه كان نبيلا مصريا وقف إلى جانب الفرعون الشاعر أخناتون وآمن بديانته التى دعا فيها للإله الواحد وبشر بها اليهود الذىن كانوا يعيشون فى مصر وقادهم فى خروجهم منها. وكما نجد أخيرا فى غزوات الأشوريين، والفرس، واليونان، والرومان التى توالت بعد ذلك وفقدت فيها مصر استقلالها وقدرتها على الدفاع عن حدودها، وانتهت بالفتح العربى الذى ختمت به مصر تاريخا وبدأت تاريخا جديدا اعتنقت فيه الاسلام ونطقت باللغة العربية، وكان كما رأينا ثمرة طبيعية للتاريخ السابق عليه. عقيدة التوحيد بدأت فى مصر على يد أخناتون وأنصاره فى القرن الرابع عشر قبل ميلاد المسيح، ومن مصر انتقلت هذه العقيدة إلى البلاد المجاورة واتخذت فيها صورا مختلفة قبل أن تعود إلى مصر فى صورة المسيحية التى اعتنقها المصريون ثم فى صورة الاسلام الذى تحولوا إليه ونطقوا بلغته. ومع هذا فقد استغرق هذا التحول الذى بدأ فى القرن السابع الميلادى عدة قرون تأثر فيها الإسلام وتأثرت اللغة العربية بمصر التى أصبحت وطنا لهما. والوطن ليس مجرد فضاء أو خلاء، وليس مجرد موضع قدم، وإنما هو تربة حية ننزرع فيها ونتغذى بها وننمو ونعيش ونتأثر بها ونؤثر فيها وننتمى ونصنع تاريخا وننشئ حضارة. وتلك هى الفكرة التى اعتبرها الناقد الفرنسى هيبوليت تين أساسا موضوعيا لفهم الأدب ونقده. فالأدب فى نظره تعبير عن حقائق إنسانية تتمثل فى الجنس أو السلالة التى ينتمى لها الكاتب أو الشاعر، وفى البيئة الطبيعية والاجتماعية التى نشأ فيها، وأخيرا فى العصر الذى يعيش فيه، لأن لكل عصر حياته ومقوماته. ونحن نعرف أن الاسلام واللغة العربية كانا فى عصرهما الأول حين دخلا مصر التى كانت قد عبرت عصورا من تاريخها وعصورا. وباستطاعتنا أن نقدر على هذا الأساس ما طرأ على مصر من ناحية، وما أضافته مصر للإسلام وللغة العربية من ناحية أخرى. وفى هذا يقول أمين الخولى فى محاضراته التى جمعت وصدرت بعنوان «فى الأدب المصرى» ـ يقول إننا «سنقدر فى بحثنا دائما أن الاسلام والعرب قد جاءا مصر على قديم من أمرها وماض من دولتها وسابق من فنها ومستقر من حياتها فكان بين الإسلام والعرب فى مصر ما يكون حين يلتقى كائنان ويتبادلان التأثر والتأثير».



فاذا انتقلنا للحديث عن اللغة العربية وسيرتها في مصر وصراعها مع اللغة القبطية وما نتج عن هذا الصراع قلنا أول ما نقول إن اللغة العربية التي دخلت مصر مع العرب لم تكن لغة واحدة، لان العرب الذين دخلوا مصر لم يكونوا جماعة واحدة إلا بعقيدتهم الدينية، أما بأنسابهم وانتماءاتهم الأخري فهم جماعات أو قبائل تتكلم لغات أو لهجات مختلفة تتميز فيها لغة قريش التي اصبحت قبل الاسلام وبعده لغة الشعر والدين والدولة والحضارة. ثم ان هؤلاء العرب ذوي الانتماءات واللهجات المتعددة كانوا آلافا قليلة دخلت في تجمعات المصريين الذين كانوا يعدون بالملايين وكانوا يتكلمون لغتهم القبطية اي المصرية ويستخدمونها في حياتهم اليومية ومنهم من كان يستخدم معها اللغة اليونانية وهي لغة الحكام البيزنطنيين فاذا كانت اللغة العربية قد استمدت قوتها من كونها لغة الفاتحين والحكام الجدد فقد استمدت اللغة المصرية قوتها من كونها لغة الملايين من اهل البلاد الذين دافعوا عن مقومات وجودهم ولم يتخلوا عن لغتهم الوطنية إلا بعد صراع دام عدة قرون وتفاعلت فيه اللغتان ونشأت من هذا التفاعل لغة جديدة استمدت معظم عناصرها من اللغة العربية لكنها ورثت الكثير أيضا من اللغة المصرية. ولاشك في أن هذه العربية العامية سبقت العربية الفصحي علي ألسنة المصريين رغم ما يمكن أن يكون في هذا التصور من مفارقة. لقد دخلت العربية الفصحي مصر مع الفاتحين وهي لغة تامة مكتملة مهيأة لأن ينطق بها من يريد. أما العامية فكانت في ذلك الوقت غيبا لم يتنبأ به احد، فكيف تسبق الفصحي علي ألسنة المصريين؟ والجواب حاضر. وهو ان عامة المصريين في احتكاكهم بالعرب وتعاملهم معهم لم يأخذوا منهم لغتهم خالصة نقية، وإنما كانوا يأخذون منها ما يحتاجون إليه ويحتفظون من لغة آبائهم بما يحرصون عليه ويحتاجون إليه ويستخدمون هذا وذاك في وقت معا، ومن هذا المزيج نشأت العامية وجرت علي الألسنة وسبقت الفصحي، لان لغة الحياة اليومية تسبق لغة الثقافة، ولغة المجتمع الذي يعد أفراده بالملايين تسبق لغة القلة المحدودة. وبين أيدينا من الشواهد ما يؤيد هذا التصور ويؤكده.



حين نقرأ قصائد الشعراء المصريين الأوائل الذين نظموا بالفصحي فنراها حافلة بتعبيرات شعبية مصرية لاتزال مستعملة حتي الآن نستنتج من ذلك أن هذه التعبيرات كانت متداولة من قبل وأنها فرضت نفسها فرضا علي هؤلاء الشعراء وعلي جمهورهم. البهاء زهير ينظم شعره بلغة كأنها مقتبسة من لغتنا الدارجة. يقول: كأني قد قتلت له قتيلا فهو في طلبي، ويقول: رجعنا مثل ما رحنا ولم نربح سوي التعب، وهو حين يتغزل يهمس في أذن حبيبته: إياك يدري حديثا بيننا احد فهم يقولون للحيطان آذان، ثم يقول: من لي بنومتي اشكو ذا السهاد له فهم يقولون ان النوم سلطان، وحين يقول القاضي الفاضل: ورجل الفتي في السعي تتبع قلبه، نتذكر علي الفور العبارة الشعبية التي اقتبسها فؤاد حداد في «المسحراتي» ولحنها وغناها سيد مكاوي فغنتها معه الملايين: الرجل تدب مطرح ما تحب. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال!



والموسوعات الادبية العربية تتحدث عن نشأة الزجل في مصر وازدهاره فيها وإقبال المصريين علي النظم في اشكاله المختلفة. ومنهم من جمع بين النظم بالفصحي والنظم بالعامية مثل ابن سناء الملك، وعمر بن الفارض، وابن النبيه المصري، وابن نباتة. وقد شارك في هذه الحركة بعض الشعراء المسيحيين ومنهم عبدالله بن ابي الفرج بن موسي القبطي المصري الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، فاذا كان حقا ان العامية سبقت الفصحي علي ألسن المصريين فليس لهذه الحقيقة إلا معني واحدا هو ان المصريين كانوا يريدون تمصير اللغة الوافدة. وقد تحقق لهم ما أرادوا في العامية التي كانت مزيجا من لغتهم ولغة الفاتحين، وتحقق ايضا في الفصحي التي اجتهد المصريون في تطويعها للتعبير عن مشاعرهم وانطباعاتهم وعن الروح التي يتميزون بها عن غيرهم من الناطقين بلغة الضاد. ومن هنا انفتاحهم علي العامية واقتباسهم منها، يستوي في هذا الشعراء والكتاب، القدماء والمعاصرون.



أمير الشعراء شوقي نظم بالعامية كما نظم بالفصحي،. وكذلك فعل شاعر الشباب رامي، وقبلهما إسماعيل صبري. والحوار بين الفصحي والعامية واضح في قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي «من أب مصري إلي الرئيس ترومان»: وقال الرفاق: ألا قل لنا بربك ما هذه القاهرة؟ وكيف تسير عليها الحياة ويمشي الصباح بها والمساء؟ وكيف إذا غربت شمسها تضاء المصابيح؟ أو لا تضاء؟! وكيف الشوارع هل من زجاج؟ وكيف يقوم عليها البناء؟ فقلت: اسمعوا يا عيال، اسمعوا القصر دار بحجم البلد فحكوا القفا وهم يعجبون..! وهذا الحوار واضح كذلك في أشعار صلاح عبد الصبور: وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش فشربت شايا في الطريق ورتقت نعلي ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق قل ساعة، قل ساعتين قل عشرة، قل عشرين! بل إن العقاد لم يتردد وهو إمام من أئمة الفصحي في استخدام العامية في بعض أشعاره وخاصة في ديوانه «عابر سبيل» الذي يقول فيه علي لسان طفلة تحب البيرة: البيلا البيلا البيلا ما أحلي سرب البيلا! هاتوا البيلا واسقوني هاتوا البيلا داووني! ذلك لأن الحياة اليومية في نظر العقاد حافلة بالشعر الذي لا نستطيع اكتشافه إلا بلغة قريبة من لغة الحياة اليومية. وفي هذا يقول العقاد في المقدمة التي كتبها لهذا الديوان «إن عابر السبيل يري شعرا في كل مكان إذا أراد» وقد يظن البعض أن العامية تستخدم هنا لتسمية مفردات الحياة اليومية فحسب. لكننا حين نعيد القراءة ونمعن النظر نكتشف ما وراء هذه الأسماء من معان أخري. نكتشف براءة الطفولة ونقاءها. ونكتشف الشوق للمعرفة، ونكتشف حاجتنا للخروج من رتابة أيامنا والانخراط في نشاط نعبر فيه عن حبنا للحياة ونرتفع فيه بإنسانيتنا ونستغرق في عمل بطولي نبيل. ولست في حاجة للحديث عن الدور الذي تؤديه العامية في أعمال الناثرين المصريين من كتاب الصحافة والرواية والقصة والمسرح. ولست في حاجة من ناحية أخري لأتحدث عما في العامية المصرية من فصاحة وثقافة تمكنت بهما من أداء الدور الذي أدته في فنون هذا العصر والوصول إلي جماهير هذه الفنون في كل الأقطار العربية. اقرأوا معي هذه المقاطع من ديوان «ابن عروس»: لابد من يوم معلوم تترد فيه المظالم أبيض علي كل مظلوم أسود علي كل ظالم!



ولا حد خالي من الهم حتي قلوع المراكب ما تقولش للندل يا عم وإن كان علي السرج راكب!



يا بت جمالك هبشني والهبشة جت في العباية رمان صدرك دوشني وخلَّي فطوري عشايا!



فإذا كنت قد وضحت الفكرة التي أردت أن أوضحها وبينت أن اللغة العربية تطورت في مصر أو تمصرت بما أضافه المصريون لها في صورتها الفصحي أو في لهجتها العامية فقد آن لنا أن نختم هذا الحديث مع البهاء زهير الذي نقرأ قصائده اليوم فنحس كأننا نقرأ لشاعر مصري معاصر: عرفت الهوي من قبل أن يٌعرف الهوي ومازال لي في الغيب منه نصيبُ, وكنت قد استهونت في الحب نظرةً وقد صار منها في الفؤاد لهيبُ, تركت عذولي ما أراد بقوله يسفه، يزري، يستخف، يعيبُ, فما راعه إلادماثة منطقي وأني مزّاحُ اللسان لعوبُ, أروح ولي في نشوة الحب هِزةٌ ولست أبالي أن يقال طروبُ, محب، خليع، عاشق، متهتك يلذ لقلبي كل ذا ويطيبُ, خلعت عذاري، بل لبست خلاعتي وصرّحت حتي لا يقال مريبُ, فلا عيش إلا أن تدار مدامةٌ ولا أُنسي إلا أن يزور حبيبُ, واني ليدعوني الهوي فأجيبه واني ليثنيني التُقي فأنيبُ!