أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
بليغ ــ3
31 مارس 2017
بهاء جاهين;


قلت فى معرض حديثى عن بعض تفاصيل رواية «بليغ» لطلال فيصل، الذى بدأته فى المقالة قبل السابقة، ومازلت أوالى الحديث عنها - قلت فى مقالة الجمعة الماضية إن ما تحتويه الرواية من مفارقات هو سر جمالها.

ولن أعيد شرح مصطلح «المفارقة» فى الأدب والدراما، فأرجو لمن لا يتذكر معناها العودة للمقالة السابقة. لكنى سأحاول فى هذه المقالة مواصلة التركيز على ذلك السر الذى منح الرواية جمالها فى اعتقادى، والذى يجعل من العمل الإجمالى المنشور، الصادر عن دار الشروق منذ أسابيع قليلة، عملاً أرقى كثيراً من الرواية العاطفية الانفعالية قاصرة الرؤية، وإن كانت هى الأخرى - فى نوعها - جميلة، والتى أطللنا على صفحاتها عبر كتف طلال القسم الثانى وهو مُنحنٍ على نوتته السوداء يرسم من وجهة نظره شخصية بليغ الذى يعشقُه بقلم حبر أحمر. ولا أدَلّ على الطبيعة العاطفية الانفعالية لتلك «الرواية داخل الرواية» من الحبر الأحمر فى النوتة الميلودرامية السوداء ذات الأوراق الخشنة.



بينما الرواية الأم، ذات الأقسام الخمسة، تعرض أمام عيوننا أكثر من «بليغ حمدى»: الدون جوان البوهيمى من وجهة نظر طلال القسم الثانى؛ والعاشق الرومانسى المتيم الذى نلمحه من خلال أوراق بليغ نفسه فى القسم الرابع، ثم طلال كما رآه قاضى الاستئناف الذى أيد الحكم الابتدائى بسجنه فى قضية أخلاقية فضائحية تسببت فى نزوح بليغ إلى باريس تجنباً لتنفيذ الحكم. وقلنا تلميحاً فى المقالة السابقة كيف أن رسالة القاضى لطلال فيصل (القسم الثالث) أدخلت بُعداً صوفياً إلى الرواية؛ والآن إلى توضيح التلميح:



يسرد القاضى فى رسالته كيف أن رؤيا صالحة رآها، حين أدركته سِنة من نوم فى مسجد - تفاصيلها متوافرة فى القسم الثالث من الرواية - جعلته يندم على تأييد الحكم بسجن الفنان الكبير. وقد بدأ هذا الندم مجرد شك، ثم شاء الله أن يكون القاضى فى باريس لظروف أسرية، فسَعَى للقاء بليغ هناك، وبقدرة ربانية تم ذلك بسهولة: التقى بليغ دون أن يعلم الفنان شيئاً عن هوية القاضى، فرأى القاضى أمامه إنساناً دافئاً معطاءً بلا حدود، أقرب إلى القديسين وأولياء الله الصالحين، فتأكدت فحوى الرؤيا لديه وسعى قدر استطاعته أن يتخفف من شعوره بالذنب بمساعدة الفنان على العودة لوطنه ليضم ثراه جسده المنهك بعد شهور قليلة من عودته. ولا أدرى إلى أى حد استند صاحب الرواية إلى معلومة وثائقية فى هذا الصدد، أم أن الأمر برمته من وحى خياله، ولا يمت للواقع بأية صلة. فى كل الأحوال، نجح طلال فيصل، صاحب العمل المنشور، فى أن يقدم لنا، من خلال عدة شهود ورواة، لقطات متنوعة، من زوايا متعددة ومناظير مختلفة متباينة، أحياناً إلى حد التناقض - أن يقدم لقطات متعاكسة لوجه صاحب السيرة الفنان الكبير بليغ حمدى، ليعطينا فى النهاية عملاً مُركباً، يذكرنى إلى حد ما برواية «العائش فى الحقيقة» لنجيب محفوظ، حيث يحكى عدة أشخاص من معاصرى إخناتون حكايته، كُلٌّ من وجهة نظره، وتتباين وجهات النظر إلى حد التضاد التام.



الأمر ليس بنفس درجة القطبية الصفرية الحادة فى «بليغ»؛ إلا أن الروائى الشاب طلال فيصل، على عكس طلال الشخصية فى القسم الثانى، استطاع أن يقدم لنا عملاً يُشبع العقول التى تدرك مدى تعقدُّ الحقائق البسيطة وما تحويه الحياة من مفارقات، أحياناً تكون ساخرة؛ ولم يُعفِ حتى ذاته من السخرية! وهى سخرية لطيفة مهذبة، ناعمة وراقية، هادئة وماكرة وغير مباشرة، على عكس سخرية طلال الشخصية الروائية التى تتميز بالمرارة والعنف وبعض التشنج.



ولم يقتصر تعدد جوانب ومستويات العمل على شخصيتيه الرئيسيتين:



بليغ صاحب السيرة وطلال كاتبها وصاحب السيرة الذاتية الموازية, بل امتد أيضا إلى شخصية سليمان العطار والطبيب النفسى.. فكل الشخصيات تقريبا يمكن لنا تأملها من عدة زوايا ومناظير للرؤية, باختلاف الراوى والرائى.



وأخيراً: تحية للفنان الشاب طلال فيصل الذى أمتعنا بمكره الفنى, وأبدع لنا نموذجا نادراً لبلاغة المفارقة, حتى أنك قد تتساءل: هل «بليغ» اسم فنان أم صفة للعمل؟