في اطار التأكيد المتبادل على فشل محاولات عزل روسيا من جانب، وحرص المجر على تنويع سياساتها والانفتاح شرقا وغربا من جانب آخر، جرت زيارة فلاديمير بوتين لبودابست. هذه الزيارة كشفت مجددا عن «علاقة خاصة» بين الزعيمين بوتين وفيكتور اوربان رئيس الحكومة المجرية الذي تحول من العداء لموسكو في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، الى احد أهم انصار التعاون معها، في توقيت يشهد بوادر»تقارب» مع الرئيس الامريكي دونالد ترامب، الذي سبق وقال اوربان انه «الافضل لاوروبا»، لما تجمعه معه من قواسم مشتركة تجاه قضايا الداخل والخارج .
العلاقة بين بوتين ومضيفه فيكتور اوربان تعود الى سنوات طويلة مضت. تَعَرجَ مسارُها على مدى سنوات طوال، فيما تأرجحت تباعدا وقربا بقدر تباين مسار التوجهات السياسية لاوربان من العداء للشيوعية والاتحاد السوفييتي والدعوة الى فك الارتباط معهما في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وحتى الدعوة الى تحسين العلاقات مع روسيا، والاقتراب اكثر من زعيمها فلاديمير بوتين اعترافا بقدرة وبمكانة بلاده على خريطة السياسة العالمية.
وها هو أوربان يدعوه ثانية لزيارة بلاده، تأكيدا من جانبه لرفض عزلة روسيا، ومعارضته للعقوبات التي فرضها الاتحاد الاوروبي ضدها في اعقاب اندلاع الازمة الاوكرانية، متكئا في ذلك الى تأييد زعماء البلدان المجاورة وخاصة تشيكيا، وسلوفاكيا التي بادر رئيس حكومتها روبرت فيتسو بانتقاد الاتحاد الاوروبي في قمته الاخيرة التي عقدت في مالطا يوم الجمعة الماضي، بقوله ان بلدان الاتحاد سترتكب خطأ كبيرا في حال عدم استيعابها لتغير الادارة الامريكية واعتبارها ذلك فرصة لاتخاذ مواقف اكثر شجاعة واستقلالية بعيدا عن السيد الامريكي. وتأكيدا لما تتسم به سياساته من «طابع براجماتي»، مضى أوربان الى ما هو أبعد بتوقيعه مع روسيا الكثير من الاتفاقيات الاقتصادية وخاصة في مجالات الطاقة، غير آبه بقرارات الاتحاد الاوروبي حول فرض العقوبات ضدها، والتي كانت سببا في خسائر فادحة تكبدتها المجر، وبلغت في العام الماضي ما يزيد عن ستة مليارات ونصف المليار يورو.
ولم يكن الرئيس بوتين ليقف بمنأى عن توجهات من اختار الوقوف الى جانبه في «الملمات»، ادراكا من جانبه لعقم سياسات الاتحاد الاوروبي، وأخطارها التي تهدد استقرار ومصالح بلاده الاقتصادية والوطنية. ولذا كان اختياره للمجر لتكون اول بلد خارجي يقوم بزيارته هذا العام تقديرا لما اتخذته وتتخذه قيادتها من خطوات، تقف على طرفي نقيض من توجهات الاتحاد الاوروبي من جانب، ولسياسات الناتو وما تعنيه من اخطار تهدد في جوهرها الامن الاوروبي من جانب آخر. ولعله يكون من الصحيح الانطلاق من هذا المنظور تحديدا لدى تناول زيارة العمل «الخاطفة» التي قام بها بوتين الى بودابست يوم الخميس الماضي، ووصَفَها اوربان بانها «شرفٌ كبيرٌ للمجر»، وهي الزيارة التي كشفت عن اتساع مساحات التقارب والتفاهم المتبادل بين البلدين، وبين الزعيمين بوتين واوربان. وكان رئيس الحكومة المجرية توقف في حديثه عن هذه الزيارة عند حرص البلدين على الالتزام بتنفيذ كل ما جرى الاتفاق حوله، وإن كشف عن «عجز» المجر عن تجاوز قيود «الاتحاد الاوروبي» التي تحول دون تنفيذ الاتفاقية الموقعة بين روسيا والمجر، حول بناء مفاعلين نووين، اضافة الى المفاعلات الاربعة لمحطة «باكش-1» التي جرى تشييدها في ثمانينيات القرن الماضي بمساعدة الاتحاد السوفييتي السابق على مسافة مائة كيلومتر من العاصمة بودابست وتوفر نسبة 40% من مجمل احتياجات المجر من الطاقة الكهربائية. ويذكر المراقبون ان روسيا والمجر وقعتا في عام 2014 اتفاقا حول التعاون في بناء المفاعلين الخامس والسادس لمحطة «باكش» بتمويل روسي في اطار القرض الذي من المقرر ان تقدمه روسيا بما يقدر بنسبة 80% من تكاليف بناء المفاعلين التي تبلغ 12 مليار يورو. وفي محاولة لتقديم تسهيلات أكثر بهذا الشأن، أعلن الرئيس بوتين في مؤتمره الصحفي المشترك في ختام مباحثات بودابست عن استعداد بلاده لتمويل المشروع بنسبة مائة في المائة، مشيرا الى احتمالات اجراء تغييرات طفيفة على العقد الموقع، وبما يكفل توفير ما يقرب من عشرة الاف فرصة عمل. ومضى بوتين ليؤكد التزام بلاده بتأمين امداد المجر بكل احتياجاتها من الطاقة سواء من النفط او الغاز حتى عام 2021 وما بعدها. وكشفت المصادر الروسية عن احتمالات بدء العمل في المشروع الجديد مع بداية العام المقبل، رغما عن تحفظات «اللجنة الاوروبية». ولعله من اللافت في هذا الصدد، الثقة التي يوليها بوتين للمجر «الشريك المضمون القادر على الوفاء بتعهداته المالية»، على حد تعبيره. وذلك ما يفسر تأكيده ان موسكو ستضمن وصول الغاز الروسي الى المجر عبر كل المسارات، سواء عبر مشروع «التيار الشمالي -2»، أو من خلال «التيار التركي»، مشيرا إلى «توفر كل القدرات التقنية لذلك». على ان التعاون المعلن بين البلدين لم يقتصر فقط على مشاريع الطاقة، ليتعداها الى الكثير من مجالات التعاون في مجالات التجارة والصناعات الغذائية وبناء المترو وقطارات السكك الحديدية لبلدان ثالثة ومنها مصر حسب تاكيدات المصادر المجرية، الى جانب الاستثمارات المشتركة، والعلوم والثقافة والمجالات الانسانية الاخرى، فضلا عن افتتاح القنصليات ونشر اللغة الروسية وزيادة عدد المنح الدراسية المتبادلة، واطلاق اسم الاديب الروسي الذائع الصيت ليف تولستوى على احد احياء بودابست.
وعلى الصعيد السياسي كان التقارب أيضا واضحا، ولا سيما تجاه الاوضاع في سوريا والشرق الاوسط وشمال افريقيا، في اطار توافق رؤى الزعيمين حول ان القضاء على الارهاب وتحقيق التسوية السياسية لقضايا وازمات المنطقة، لا بد ان يساهما بدرجة كبيرة في حل مشكلة الهجرة التي يتخذ منها اوربان ورفاقه من بلدان مجموعة «فيشجراد» ( المجر وسلوفاكيا وتشيكيا وبولندا) موقفا متميزا رافضا لقرارات المحاصصة التي اتخذها الاتحاد الاوروبي تحت وقع اصرار المستشارة الالمانية انجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولندا، وهو ما جلب على اوروبا الكثير من الوبال وسوء العواقب. ولعله يمكن الاشارة هنا الى تصاعد نفوذ هذه المجموعة داخل الاتحاد الاوروبي، ما يدفع البعض الى التفكير في احتمالات ان ترث بلدان «شرق اوروبا» مواقع التاثير التي كانت بريطانيا تشغلها قبل اتخاذ قرار خروجها من الاتحاد الاوروبي نتيجة الاستفتاء حول هذه القضية، يشد من أزرها ما اعلنه الرئيس الامريكي دونالد ترامب من توجهات ومواقف تقترب كثيرا من مواقف أوربان سواء فيما يتعلق برفض الهجرة، او بالموقف من رفع العقوبات المفروضة على روسيا. ويذكر المراقبون في الداخل والخارج ما رفعه اوربان من شعارات منذ اعتلى صهوة الساحة السياسية في بلاده، ومنها ما يقول بأن «المجر تعلو على ما عداها»، وهو شعار مماثل لما أعلنه ترامب في خضم حملاته الانتخابية حول ان «الاولوية للولايات المتحدة»، فضلا عما اتخذه اوربان من قرارات حول بناء الجدار العزل مع صربيا حماية لبلاده من المهاجرين، وهو ايضا ما ينادى به ترامب اليوم حول بناء الجدار العازل مع المكسيك تحسبا لتسلل المهاجرين غير الشرعيين. ولذا لم يكن غريبا ان يبادر اوربان بإعلان ان ترامب هو «الافضل لاوروبا».
ونعود الى مباحثات بوتين واوربان لنشير الى ان مواقف الزعيمين لم تكن ايضا لتختلف كثيرا ازاء الاوضاع في اوكرانيا، حيث بدا الاتفاق واضحا حول اهمية اتفاقيات مينسك الموقعة في فبراير 2015 بوصفها السبيل الرئيسي للخروج من الازمة الراهنة، وهي الاتفاقيات التي قال بوتين ان القيادة الاوكرانية ليست على استعداد لتنفيذها وتحاول بشتى السبل التخلي عنها. وفي هذا الشأن، قال اوربان ان اوكرانيا يجب ان تقوم بتنفيذ هذه الاتفاقيات دون قيد او شرط، وإن كشف عن ارتباط المجر بعلاقات طيبة مع اوكرانيا انطلاقا من المصلحة المتبادلة في استقرار الاوضاع في البلدين. وبهذه المناسبة أعرب بوتين عن أمله في ألا تتطور الاوضاع في اوكرانيا الى السيناريو الاسوأ، ومخاوفه من استمراء سقوطها في شرك محاولات القوى الخارجية الرامية الى تأجيج الصراع المسلح في المنطقة. ولم يغفل بوتين الاشارة الى ما قدمه الاثرياء الاوكرانيون من دعم مالي الى «احدى المرشحات» اي الى هيلاري كلينتون، في الوقت الذي يتحولون فيه الان الى البحث عن البدائل في الاوساط السياسية الامريكية، وتحسين العلاقات مع الادارة الجديدة. وقال اوربان بضرورة احترام اوكرانيا لحقوق الاقليات، وهو ما يقصد به الاقليات المجرية الموجودة في منطقة جبال الكاربات على الحدود المشتركة بين البلدين، وهو موقف يقترب مما تعلنه روسيا حول اهمية الحفاظ على حقوق الناطقين باللغة الروسية في اوكرانيا، ولا سيما في منطقة الدونباس جنوب شرقي اوكرانيا التي تشهد احتدام النزاع والمواجهة المسلحة للعام الثالث على التوالي، الامر الذي يفرض ما اعلنه الرئيسان بوتين اوربان حول حتمية تنفيذ اتفاقيات مينسك التي سبق وشارك في صياغتها والتوقيع عليها رؤساء روسيا وفرنسا واوكرانيا والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل.