نحن مازلنا في مدينة »أور« في بلاد ما بين النهرين.. دجلة والفرات قبل الزمان بزمان.. تقبع في هدوء لا يخلو من خوف وقلق داخل مركبة الزمن التي أخذناها من وراء صاحبها رفيق الطريق زاهي حواس.. أحد أفضل علماء الآثار في العالم كله قبل مصر.. بعد أن شاهدنا كيف نجي الله سيدنا إبراهيم وهو مازال فتي عفيا من بطش قومه الذين حكموا عليه بالحرق حيا في ميدان عام بعد أن حطم تماثيل ألهتهم.. التي لا تنطق ولا تتحرك ولا تعي شيئا.. عندما قال الحق عز وجل للنار: «كوني بردا وسلاما علي إبراهيم». فكانت.. فلا مرد لأمر الله تعالي..
ولأن النساء عادة لا يتوقفن أبدا عن النقار والدخول فيما لا يعنيهن ـ حتي قبل الزمان بزمان ـ فقد تطوعت العزيزة تاناكان الراهبة البوذية ـ كعادة النساء الحشريات ـ بسؤال إلي قائد مركبة الزمن الموسوعة العلمية الأدبية الفلسفية التي اسمها د.مصطفي محمود: لماذا يطلقون علي هذا الفتي إبراهيم الذي خرج لتوه أمامنا أمام أعيننا من بين ألسنة النار عافيا متعافيا دون أي خدش أو حرق لقب أبىالأنبياء؟
قال لها في هدوء: لأن من ذريته خرج أنبياء عددا.. أليس من نسله خرج سيدنا إسماعيل جد سيدنا محمد «عليهما السلام» وأمه السيدة هاجر المصرية الأصل والمنبت.. ومن نسله جاء سيدنا إسحق وأمه سارة زوجة إبراهيم الذي يقولون في الكتاب المقدس أنه الذبيح وليس إسماعيل.. رفيقة سيدنا إبراهيم عليه السلام في رحلته إلي مصر؟
وأليس من ذريته جاء سيدنا يوسف عليه السلام.. ومن نسله جاء أيضا سيدنا زكريا عليه السلام الذي قال القرآن الكريم عنه في سورة مريم: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا»..
وسيدنا زكريا هذا عم أو خال المسيح عيسي بن مريم.. وارجو للذين يعلمون والذين لا يعلمون.. الا أكون مخطئا.. ومن عنده كلام آخر فليتفضل..
..........
..........
خرجنا من مدينة أور بلد سيدنا إبراهيم عليه السلام.. بما يشبه المعجزة.. فقد كشف صبي صغير وجودنا تحت شجرة ظليلة تطل علي نهر دجلة.. وصاح في قومه: الحقوا هؤلاء من حطموا آلهتنا.. ..جرينا نتخبط حتي وصلنا إلي مركبة الزمن في ظل شجرة عتيقة.. ركبنا مسرعين.. وادار كبيرنا وقائدنا علامة عصره وأسطورة زمانه.. د.مصطفي محمود محرك المركبة التي تدور بالطاقة الشمسية.. ورحنا ندعو الله أن تنطق وتدور.. حتي اذن الله لنا بالخلاص.. والقوم قد اقتربوا منا كثيرا.. فدارت محركاتها وطرنا بعيدا بعيدا.. في طريق العودة.. ونحن نحمد الله علي نجاتنا.. بينما انخرطت تاناكان الراهبة البوذية في صلاة شكر صامتة.. ولكن بمجرد أن انتهت من صلاتها الصامتة حتي وجهت لقائد الرحلة سؤالا بالإنجليزية يقول: هذا الفتي إبراهيم الذي أصبح أمام الموحدين في الأرض وأبوالأنبياء كما تقولون عنه.. أين نبينا بوذا العظيم منه.. قبله أم بعده.. من الأكثر تأثيرا منهما في سلام وأمان البشرية؟
عمنا وتاج راسنا د.مصطفي محمود يجيب بعد أن مسح نظارته من غبار الحريق الذي اشعلوه في سيدنا إبراهيم في شبابه ونجاه الله: بوذا يقول لنا: أن الإنسان يولد من جديد بحكم قانون صارم هو التكفير عن ذنوبه فكل ذنب يترك أثرا.. وكل أثر يدعو إلي كفارة.. ولكن لم يقل لنا بوذا من الذي وضع هذا القانون الصارم وألزم به المخلوقات.. ان لم يكن خالقا له ذات إلهية؟
يعني لم يتقدم بوذا بإلهامه الديني هذا.. خطوة واحدة عن اخناتون أو حتي عن زراديشت نبي الفرس.. وانما تأخر عنهما كثيرا..
بان الكدر والزعل علي وجه تاناكان التي راحت تدير وجهها بعيدا.. ولكي تخفي تأخر نبيها بوذا سألته هي: ماذا بقي يا سيدي من تعاليم سيدنا إبراهيم الذي تقولون عنه أنه أبوالأنبياء واقدم الموحدين؟
قائد الرحلة يجيب: بكل أسف لم يحفظ التاريخ لنا شيئا عن صحف إبراهيم التي ذكرها القرآن الكريم.. وما بقي لنا من تعاليمه أنه: كان إمام الموحدين بين العبرانيين، وانه نبذ عبادة الشمس والقمر، ونبذ الأصنام وحطمها، ودعا إلي إله واحد هو خالق الشمس والقمر وخالق كل شيء، والمنفرد بالفعل والتقدير الذي يبعث بعد موت ويعاقب علي الخطايا ويثيب علي الحسنات، وكما يقول الحق في محكم آياته:
»الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين« (الشعراء: 78 ـ 82)
ولكن العبرانيين انتكس حالهم إلي وثنية بدائية بعد رحيل إبراهيم، وجاء موسي من بني إسرائيل، ليجدهم عاكفين علي الأصنام والطواطم وعبادة الحيوان والأشجار كغيرهم من الأمم الهمجية، فدعاهم إلي عبادة الإله الواحد الذي سماه »يهوا«.
ولا تذكر لنا المخطوطات الإسرائيلية القديمة التي تروي عن هذه الحقبة شيئا عن صفات هذا الإله الواحد.. ولا تذكر شيئا عن البعث والآخر والحساب والعقاب.
وكان الإسرائيليون يتصورون «يهوا» هذا في صورة بشرية: يأكل ويشرب ويفتك بأعدائه.. وكانوا يتصورون الجنة والنار نعيما وعذابا دنيويا وجزاء فوريا ينالونه علي أعمالهم قبل الموت.
ولا يأتي ذكر البعث والآخرة والجنة والنار إلا في آيات متأخرة من التوراة، يتأخر تاريخها إلي مائتي سنة قبل ميلاد المسيح.
ولا نقرأ عن الإله المنزه المجرد عن التشبيه والصفات إلا علي لسان أنبياء متأخرين مثل »أشعيا«.
ولم تترسخ تلك الوحدانية إلا بعد تبشير عشرات الأنبياء الذين لقوا حتفهم ذبحا وتقتيلا واضطهادا من بعد موسي ـ عليه السلام ـ ولا نجد أمة حفلت بهذا العدد من الأنبياء.. ضاعت دعواتهم صرخة في واد.. وذبحوا وصلبوا وشردوا تشريدا.. كأمة اليهود.
قلت أنا: يا ساتر يارب!
..........
..........
تاناكان مازالت غارقة في التفكير.. تنظر من خلال النافذة إلي ما حولنا ظلام في ظلام يتخلله بريق ضوء نجم بعيد.. أو صوت اصطدام نجوم بعيدة عن بعضها البعض.. لتفاجئ قائد الرحلة بسؤال يقول: ولكن أين دور المعلم وأنت تعرفه؟
قائد المركبة: تقصدين المسيح عيسي بن مريم؟
قالت: هو ذاك..
قال: ويأتي المسيح ليري أقواما غارقين في المعاصي.. غارقين في حب الشهوات الدنيوية ليدعو إلي الحب والصفح ومعه الزهد في الدنيا وما فيها ليقول لنا:
»أحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك.. احبب قريبك كنفسك..
أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، لكي تكونوا أشبه بأبيكم الذي في السموات فانه يشرق بشمسه علي الأشرار والصالحين، ويفيض برزقه علي الأبرار والظالمين.
طوبي للرحماء..
طوبي للأتقياء..
طوبي للودعاء..
طوبي لصانعي السلام لأنهم ابناء الله يدعون.
قد سمعتهم أنه قيل للقدماء: لا تزن.. أما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلي امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه.
وسمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن.. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بل: من لطمك علي خدك الأيمن فأعطه الأيسر أيضا.
تصفق تاناكان للكلام الطيب وتقول علي طريقة أولاد البلد: وإيه كمان.. زدنا يا معلم ـ برفع الميم ونصب العين؟
قال: ويقلب المسيح تلك الموائد ويهتف بهم:
إن بيتي بيت الصلاة يدعي، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.
ويجيب علي من يدعونه بالمعلم الصالح قائلا:
لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله.
مازال قائد الرحلة يتكلم:
ـ وفي مكان آخر يأمر تلاميذه أمرا صريحا بالتوحيد، نافيا عن نفسه أي شبه في الألوهية.
لا تدعو لمن أبا علي الأرض لأن اباكم واحد هو الذي في السموات. »الإصحاح 23 من إنجيل متي«
وفي إنجيل لوقا الإصحاح الرابع يخاطب إبليس قائلا: »اذهب يا شيطان، إنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد«.
رافضا السجود للشيطان ولو أعطاه ملك الأرض، ومعلنا سجوده لله وحده.
مرة أخري نحن أمام موحد عظيم، وديانة رفيعة.
..........
..........
أصبحنا علي مسافة يوم أو بعض يوم من مصر الحبيبة.. ولكن تاناكان لا تكف عن السؤال كلنا تلميذ صغير أمسك بالقلم لأول مرة.. قالت: كيف عرف الإنسان أن هناك إلها لهذا الكون؟
قال: أن فكرة الله مغروسة في الفطرة الإنسانية منذ الأزل.. وانها فكرة ملحة تطارده.
فكما ظن في البداية أن الشمس تدور وأن الأرض ثابتة.. وكما ظن أن البرق عفريت.. كذلك ظن أن أباه الذي يظهر له في الحلم هو الله.. فعبده وذبح له القرابين واتخذ من قبره محرابا ومزارا.
وتطورت عبادة الاسلاف لتصبح عبادة ثابتة.
وأصبح لكل قبيلة جد قديم تجعل منه إلهها ورمزها المعبود.
ثم بدأ الإنسان البدائي، يتصور أن روح هذا الجد يمكن أن تحل في حيوان أو شجرة.. فانتقل إلي عبادة الحيوانات والأشجار.. وأصبح لكل قبيلة حيوانها الخاص الذي تعبده (الطوطم): وهو مرة طائر، ومرة ثعلب، ومرة أسد، ومرة عجل أبيس، ومرة بقرة، ومرة شجرة تين عتيقة ومره تمساحا..
وهكذا تعددت الأرباب بقدر تعدد حاجات الإنسان الأول ومخاوفه: فهو يعبد ربا للأمطار، وربا للحرب، وربا للتناسل، وربا للخصب، وربا للبحر، وربا للرياح.
قلت: ولكن كيف توصل الإنسان بعقله البدائي إلي فكرة الاله المطلق الذي حقق العون ومازال يحكمه يحاسب ويعاقب ويثيب ويكافيء؟
قال: أن النظرة المتعجلة ـ بعد هذا العرض السريع المسلسل لتاريخ الديانات ـ قد تخرج بنا من التشابه الواضح بين الديانات الهمجية والديانات السماوية إلي أن الدين كله جاء من الخرافة.
وهي نتيجة خاطئة، ومن يقول بها أشبه بمن يطالبنا برفض الطب ومنجزاته، لمجرد أنه متسلسلا من فنون الطب البدائي أمثال: الدق والكي والفصد والحجامة والرقي والتعاويذ التي كان يمارسها الطبيب البدائي.. أو يطالبنا برفض الكيمياء، لأنها جاءت من البحث الخرافي وراء اكسير الحياة وحجر الفلاسفة.. أو يطالبنا برفض الفلك، لأنه جاء من التنجيم والشعوذة.
والواقع أن هذا التشابه والتقارب بين جميع مراحل نشأة الفكر الديني هو حجة للدين وليس حجة عليه.. وهو دليل قاطع علي أن فكرة الله مغروسة في الفطرة الإنسانية، وأنها فكرة ملحة تطارد الإنسان منذ بدأ يشعر ويفكر.. وأن الحاجة إلي الدين حاجة ثانية منذ بدء الخليقة. وانما جاء وصول الإنسان إلي حقيقة الله علي مراحل ومحطات وعلي جرعات.. وجاء اقترابه من تلك الحقيقة علي درجات حسب ما تهيأ له من مواهب الفهم. وكان طبيعيا الا تنجلي عليه الحقيقة في كمالها إلا بعد أن تكتمل قدرته علي التجريد، وتنمو بصيرته بالقدر الذي يستطيع فيه أن يري رؤية شاملة.
وكان طبيعيا الا يستطيع أن يتلقي تلك الحقائق الكلية وحيا إلا أصحاب البصائر والأنبياء، الذين اكتمل وعيهم وتهيؤهم.
ومن هنا تأتي فكرة الإسلام عن الله الواحد الأحد المتعال الذي ليس كمثله شيء لتكون الذروة والخاتمة لذلك التجريد الخالص لله الذي »لم يولد ولم يكن له كفوا أحد«: »الأول والآخر والظاهر والباطن«: الذي يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار..
ولكن ذلك حديث آخر.{
Email:[email protected]