أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
إسكندرية أمل دنقل
27 يناير 2017
جابر عصفور
أمل دنقل

لمدينة الإسكندرية فضل كبير على شعر أمل دنقل،‮ ‬فهى التى نقلته من وعى القرية‮ (‬القلعة‮) ‬والمدينة الصغيرة فى الجنوب‮ (‬قنا‮) ‬إلى وعى المدينة الكوزموبوليتانية الزاخرة بالتنوع الخلاق للأعراق والجنسيات،‮ ‬ولذلك كان لا بد أن‮ ‬يصطدم ابن قرية‮ «‬القلعة‮» ‬فى أقصى الجنوب بالحضور المدينى‮- ‬بالغ‮ ‬الانفتاح لمدينة الإسكندرية التى وصل إليها أمل فى مطلع الستينيات،‮ ‬حين كانت لا تزال تحتفظ بطابعها الكوزموبوليتانى،‮ ‬رغم بداية تقلصه فى عقب حرب السويس‮ ‬1956،‮ ‬وهو ما تشهد عليه روايات إبراهيم عبد المجيد،‮ ‬خصوصا فى ثلاثيته عن مدينة الإسكندرية‮ (‬لا أحد‮ ‬ينام فى الإسكندرية،‮ ‬طيور العنبر،‮ ‬إسكندرية‮ ‬غيمة‮).‬


ويضم ديوان‮ «‬مقتل القمر‮» ‬الكثير من قصائد شبابه فى الإسكندرية التى قضى فيها ما‮ ‬يزيد على عامين ولكنه كتب فى الإسكندرية قصائد أخرى،‮ ‬منها ما أسهم فى معرفة قراء الشعر له‮. ‬وربما كانت قصيدة‮ «‬كلمات سبارتاكوس الأخيرة‮» ‬أهم القصائد التى كتبها فى الإسكندرية،‮ ‬فهى قصيدة تمثل قطيعة شعرية مع قصائده السابقة،‮ ‬ومنها قصيدة‮ «‬طفلتها‮» ‬التى حصل بها على جائزة‮ «‬مهرجان الشعر‮» ‬الذى انعقد فى الإسكندرية،‮ ‬وهى قصيدة عمودية،‮ ‬لا تختلف كثيرا من الناحية الفنية عن قصائده التى كتبها فى الإسكندرية مثل‮ «‬من بحرى‮» (‬إبريل‮ ‬1962‮)‬ و‮ «‬مرتان‮» (‬إبريل1961‮)‬ و»هناك‮» (‬يونيو1962‮). ‬والحق أن قصيدة‮ «‬كلمات سبارتاكوس الأخيرة‮» ‬كانت البداية الحقيقية لقصيدة الرفض التى مضى فى دربها أمل دنقل بعد ذلك،‮ ‬وذلك بالقدر نفسه التى‮ ‬يمكن أن ننظر إليها بوصفها القصيدة الأولى فى تأسيس وعيه المدينى على السواء‮. ‬أما قصيدته عن الإسكندرية التى جاءت ضمن‮ «‬مزامير العهد الآتى‮» ‬فهى قصيدة رمزية خالصة،‮ ‬تنطق الوعى القومى لأمل دنقل‮. ‬أعنى هذا الوعى الذى ظل متشبثا بمبدأ رغبة استعادة المجد العربى‮. ‬وهو مبدأ لم‮ ‬ينفصل عن رؤية العالم التى‮ ‬انطوى عليها شعر أمل دنقل كله‮.‬



تقع الإسكندرية موقعا بينيا،‮ ‬فجنوبها مفتوح على دلتا نهر النيل التى تحيطها الصحراء،‮ ‬وتمضى حول النهر إلى أقصى الجنوب،‮ ‬وشمالها‮ ‬يطلّ‮ ‬على البحر الأبيض المتوسط الذى‮ ‬يفصلها عن أوروبا الواقعة على الضفة الأخرى التى تتطلع إليها الإسكندرية،‮ ‬كما تتطلع عينا تمثال سعد زغلول إلى البحر الفسيح الذى‮ ‬يجذب إليه الإسكندرية،‮ ‬كى‮ ‬يصلها بأوروبا الغاوية المغوية،‮ ‬جاعلا من موقعها وترا مشدودا بين قطبين‮ ‬يتجاذبانه‮ : ‬البحر والصحراء اللذان تتوتر بينهما الإسكندرية،‮ ‬فأصل هويتها فى الجنوب وحلم تقدمها فى الشمال الذى‮ ‬يخلق مشاعر متضادة،‮ ‬تقع ما بين جاذبية التقدم والنفور من الشمال الاستعمارى الذى أدخل الإسكندرية،‮ ‬عنوة،‮ ‬فى مداره المغلق‮.‬



هذا الموقع البينى للإسكندرية‮ ‬يتميز بتوتره الدائم الذى لا‮ ‬يزال،‮ ‬كما كان،‮ ‬قرين التضاد العاطفى الذى لا‮ ‬يزال‮ ‬يحكم علاقة الإسكندرية بأقطار الضفة الشمالية من البحر الأبيض،‮ ‬خصوصا تلك التى أسهمت فى الانكسار المأساوى لهزيمة العام السابع والستين التى كانت أقسى كارثة عانتها دولة المشروع القومى التى تحولت،‮ ‬فى مدى الممارسة،‮ ‬إلى دولة تسلطية بكل اللوازم القمعية لهذه الدولة‮. ‬وبقدر ما كانت كارثة العام السابع والستين سببا جذريا فى مراجعة الأفكار القومية،‮ ‬وحلم الوحدة المقترن بها،‮ ‬ومن ثم التوجه شمالا والتطلع إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض،‮ ‬لعلنا نلحق بركب التقدم فيها،‮ ‬كانت هناك الاستجابة المناقضة،‮ ‬الموازية فى القوة والمضادة فى الاتجاه‮. ‬وهى استجابة لا تخلو من دلالة الآلية الدفاعية التى آثرت العودة إلى الرحم،‮ ‬أصل الهوية العربية،‮ ‬خصوصا فى عصور ازدهارها التى‮ ‬غلبت فيها،‮ ‬وجعلت من البحر الأبيض بحرا عربيا فى مدى الهيمنة عليه،‮ ‬فى الفضاء الزمنى المتعاقب للفتوحات العربية‮. ‬هكذا،‮ ‬تشكلت رؤيتان متناقضتان للعالم على سبيل التعميم ونظرتان متضادتان إلى الإسكندرية على سبيل التخصيص‮.‬



وطبيعى أن تتجسد الاستجابة الدفاعية التى تلوذ بأصل الهوية القومية فى شعر أمل دنقل الذى ظل شاعرا قوميا بامتياز،‮ ‬سواء من حيث مصادر أقنعته الغالبة على شعره‮ (‬المتنبى،‮ ‬أبو نواس،‮ ‬أبو موسى الأشعرى،‮ ‬كليب،‮ ‬اليمامة‮..‬إلخ‮) ‬أو رموزه الأساسية‮ (‬قطر الندى‮ - ‬مصر،‮ ‬صقر قريش‮ - ‬فتح الأندلس،‮ ‬صلاح الدين‮- ‬حطين،‮ ‬المعتصم‮ - ‬عمورية،‮ ‬رسوم فى بهو عربى‮ ...‬إلخ‮) ‬أو القيم التى‮ ‬يجسدها هذا الشعر وتنبنى بها رؤيته للعالم،‮ ‬وهى رؤية قومية متمردة،‮ ‬ترفض الانكسار،‮ ‬وتأبى الاستسلام‮.‬



ولم‮ ‬يكن من أمل أو خلاص من كابوس الهزيمة،‮ ‬وبعد موت عبدالناصر،‮ ‬سوى استعادة الماضى القديم،‮ ‬كى‮ ‬يدب فتيّا فى الشرايين والأفئدة،‮ ‬فتنهض رموز مثل الخنساء وأسماء،‮ ‬وشجرة الدر وصلاح الدين،‮ ‬وصقر قريش،‮ ‬مقاتلة من أجل المستقبل كما قاتلت فى الماضى‮. ‬فالجند العائدون‮: ‬



‮»‬ليس لهم أن‮ ‬ينظروا إلى الوراء



أو‮ ‬يدفنوا الموتى



إلا صبيحة الغد المنتصر الميمون‮». ‬



هكذا تنقلب الصورة،‮ ‬وتتحول الهزيمة إلى نصر،‮ ‬وتغوص سفائن الإفرنج تحت الموج،‮ ‬فلا‮ ‬يبقى سوى نسر صلاح الدين ساطعا فى الأوج،‮ ‬ويظهر من أعماق كل مواطن كسير النفس نقيضه‮ : ‬البطل القومى‮.‬



هذا الروح الذى‮ ‬يستعيد ماضى الانتصارات العربية كى‮ ‬يبعثها فى حاضر الواقع المهزوم،‮ ‬دافعا وآلية دفاعية فى الوقت نفسه،‮ ‬كان لحمة رؤية عالم أمل دنقل وسداه،‮ ‬بعد‮ ‬1967،‮ ‬فى طريق أولى خطاه استحضار رموز الماضى،‮ ‬ومنها تلك التى حملت جند الإسلام الفاتحين على امتداد المعمورة‮. ‬وتبدو رمزية‮ «‬الخيول‮» ‬دالة فى هذا السياق،‮ ‬على امتداد حدود الممالك التى رسمتها السّنابك،‮ ‬والركابان‮: ‬ميزان عدل‮ ‬يميل،‮ ‬مع السيف،‮ ‬حيث‮ ‬يميل‮. ‬فقد كان ذلك فى زمن كانت الخيل برية،‮ ‬تتنفس حرية،‮ ‬مثلما‮ ‬يتنفسها الناس،‮ ‬فى ذلك الزمن الذهبى الجميل‮. ‬هذه الخيول فقدت وظيفتها القديمة حين استدارت مزولة الوقت،‮ ‬ولا سبيل إلى استعادتها إلا باستعادة زمن الانتصار بإرادة المقاومة العنيدة‮.‬



وتقع إسكندرية،‮ ‬من منظور هذه الرؤية،‮ ‬ما بين قطبى مزولة الوقت،‮ ‬فإما أن‮ ‬يكون موجها مقبرة لسفائن الإفرنج،‮ ‬أو بحيرة تمرح فيها هذه السفائن مؤكدة صعود زمنها الذى ارتفع بسبب انحدار الزمن الجميل‮. ‬ولذلك تتحول صور إسكندرية ما بين نقيضين،‮ ‬ما قبل‮ ‬1967‮ ‬وما بعدها‮. ‬فى الما قبل،‮ ‬كانت الاسكندرية مراح الشباب،‮ ‬حين التحق أمل بالعمل فى جمركها الذى سرعان ما تركه إلى الفضاء الحر للإبداع،‮ ‬وتنقَّل من شواطئها إلى شواطئ الحياة،‮ ‬لكن الإسكندرية ظلت فى خاطره مبعثا لذكريات بهيجة عن اللهو على شاطئها‮: ‬



‮»‬واليود‮ ‬ينشع فى رئتين‮ ‬



يسد مسامهما الربو،‮ ‬والأتربة‮».‬



وتمضى الصور الباكرة،‮ ‬فرحة،‮ ‬معانقة البحر،‮ ‬مع نهاية شهر مايو والاندفاع‮ ‬إلى الماء،‮ ‬حيث‮ ‬يمنح الملح والشمس الوجه علامة المياه التى تتوهج على أوجه محبيها‮. ‬وحين‮ ‬يأتى المساء،‮ ‬تبتدى جولات الملاهى‮»: ‬



مركبة‮ ‬الخيل حين تسير الهوينى بنا



الضحكات،‮ ‬النكات‮ ‬



بقايا من الزبد المُرّ‮ ‬والرغوة الذهبية‮«.‬



ولا تكف الإسكندرية عن عرض جمالها الفاتن حتى فى البعد عنها،‮ ‬مستدعية‮ - ‬فى الذاكرة‮ - ‬لياليها،‮ ‬لقاءاتها والشوق المحال،‮ ‬ساكنة فى القلب مع بهجة الذكريات لجلسات العشاق الهانئة على مقاهيها،‮ ‬وفى ذرع الطرقات اللولبية التى تفضى،‮ ‬دائما،‮ ‬إلى البحر الذى‮ ‬يغدو شاطئا للمرح،‮ ‬وفضاء للذكرى البهيجة،‮ ‬وامتدادا للرغبة التى تتحقق على مقربة من أمواجه التى تغدو مرآة لهمس العشاق فى‮ »‬الملهى الصغير‮«.‬



وللبحر فى شعر أمل صور تشخيصية ذات طبيعة خاصة،‮ ‬تلفت انتباه أى قارئ لشعره،‮ ‬خصوصا حين‮ ‬يتجسد الموج فى استعارة مكنية،‮ ‬سرعان ما تتحول إلى صورة تشخيصية نقرأ فيها‮ من قصيدة‮ «‬ظمأ‮ . ‬ظمأ»‮:‬‬



فرس الموج تنفض أعرافها البيض،



تعدو بمركبة الزرقة اللهيبة،



لكنها تتحطم فوق الحواجز‮ .. ‬تهوى كسيرة ؟



أكشف الرأس تحت الرذاذ،



أمد‮ ‬يدى حاملا كوبى الفارغ‮ ‬الورقى



فتسبح فيه الفقاقيع ذات العيون الصغيرة



وجاذبية التشخيص ترجع إلى الاستعارة المكنية التى نرى فيها لوازم تشبيه الموج بالخيل فى تدافعها،‮ ‬ولكن عبر موجات زرقاء اللون متدافعة فى قوة وعزم،‮ ‬وهى تضوى فى الشمس التى تخلع عليها‮ ‬غلالة من لهب‮. ‬ولا تتوقف عن التدافع إلا حين تصطدم بكتل الحواجز الإسمنتية،‮ ‬فتهوى مرغمة كسيرة‮. ‬وهو مشهد‮ ‬يشارك فى طقسه المتأمل له‮. ‬بأن‮ ‬يكشف رأسه تحت الرذاذ المتطاير من الاصطدام،‮ ‬كى‮ ‬يبترد،‮ ‬مادا‮ ‬يده بكوب ورقى فارغ،‮ ‬كى‮ ‬يملأه برغاوى الموج المتكسر وزبده الذى تشبه فقاقيعه عيونا صغيرة تتطلع نحو العينين اللتين تتأملانها فى فضول واهتمام‮.‬



أما بعد هزيمة‮ ‬1967،‮ ‬وفى مدى الآلية الدفاعية التى ولَّدتها،‮ ‬خصوصا فى اقترانها بالعودة إلى أصل الهوية بوصفه الخلاص من الحاضر المهزوم بذكرى الماضى المنتصر،‮ ‬تتخذ الإسكندرية وضعا دلاليا،‮ ‬مناقضا،‮ ‬فتبدو صورها مكتنزة بالسخرية التى تكشف عن التناقض بين الشعارات المرفوعة والواقع المهزوم‮. ‬هكذا،‮ ‬تنتهى قصيدة‮ «‬صفحات من كتاب الصيف والشتاء‮» ‬بمقطع ‮»‬شتاء عاصف للإسكندرية‮» ‬حيث نقرأ‮:‬



وكان فى المذياع‮ ‬



أغنية حزينة الإيقاع‮ ‬



عن‮ «‬ظالم لاقيت منه ما كفى» قد‮ «‬علموه كيف‮ ‬يجفو‮ .. ‬فجفا‮».‬



والمقطع كله مبنىّ‮ ‬بطريقة الكولاچ،‮ ‬أو التضمين،‮ ‬ابتداء من التشبيهات والشعارات التى رددتها مقاطع الأغنيات الحماسية التى انتهت بالانكسار،‮ ‬نتيجة فساد الحكم وتسلط الحاكم الذى علَّمته الطاعة كيف‮ ‬يجفو شعبه فجفاه،‮ ‬فلم‮ ‬يبق للشعب سوى حزن متكرر الرجع،‮ ‬يدفع إلى‮ ‬شاطئ البحر الذى‮ ‬يلجأ إليه المحزون كى‮ ‬يفر من وقع المأساة التى تصفعه علاماتها وبقايا شعاراتها الكاذبة‮. ‬والنتيجة‮: ‬



‮»‬جلست فوق الشاطئ اليابس‮ ‬



وكان موج البحر‮ ‬



يصفع خدّ‮ ‬الصخر



وينطوى‮ - ‬حينا‮ - ‬أمام وجهه العابس‮ ‬



وترجع الأمواج‮ / ‬تنطحه برأسها المهتاج‮ ‬



ودون أن تكفّ‮ ‬عن الصراع‮ ‬



ودون أن تكف عن الصراع‮». ‬



وهى نهاية‮ ‬يائسة،‮ ‬لكنها فى تمسكها بما بقى فى الذات التى تنطقها من روح المقاومة،‮ ‬تحيل البحر إلى مرآة لها،‮ ‬خصوصا فى علاقته بالصخور التى لا‮ ‬يكف عن مناطحتها،‮ ‬دون أن‮ ‬يكف موج البحر عن صراعه اليائس مع الصخور،‮ ‬أو دون أن‮ ‬يكف الشاعر القومى عن صدامه اليائس مع كابوس الهزيمة،‮ ‬على أمل أن تنكسر صخوره‮ ‬يوما،‮ ‬فيكتسب الفعل السيزيقى معنى للحضور الذى لا‮ ‬يكف عن المقاومة‮.‬



وقد كتب أمل قصيدته السابقة فى مارس‮ ‬1969،‮ ‬أى بعد عامين من هزيمة العام السابع والستين‮. ‬ولم تتوقف صور الإسكندرية التى تتجلى من منظور الهزيمة،‮ ‬فتعاود الظهور فى الديوان اللاحق‮ - ‬العهد الآتى‮ - ‬لكن بواسطة أمثولة سردية تغدو فيها الإسكندرية أنثى‮ ‬يغويها البحر،‮ ‬كى‮ ‬يقودها إلى ضفته الأخرى،‮ ‬فى أوروبا‮. ‬وكأن أمواجه صوت الندَّاهة فى الموروث الشعبى،‮ ‬أو المغنيات الساحرات اللائى كن‮ ‬يجذبن بحارة أوديسيوس إلى حتفهم بأصواتهن الساحرة التى ظلت تهدد عودته إلى إيثاكا‮.‬



(وللمقال بقية )