لمدينة الإسكندرية فضل كبير على شعر أمل دنقل، فهى التى نقلته من وعى القرية (القلعة) والمدينة الصغيرة فى الجنوب (قنا) إلى وعى المدينة الكوزموبوليتانية الزاخرة بالتنوع الخلاق للأعراق والجنسيات، ولذلك كان لا بد أن يصطدم ابن قرية «القلعة» فى أقصى الجنوب بالحضور المدينى- بالغ الانفتاح لمدينة الإسكندرية التى وصل إليها أمل فى مطلع الستينيات، حين كانت لا تزال تحتفظ بطابعها الكوزموبوليتانى، رغم بداية تقلصه فى عقب حرب السويس 1956، وهو ما تشهد عليه روايات إبراهيم عبد المجيد، خصوصا فى ثلاثيته عن مدينة الإسكندرية (لا أحد ينام فى الإسكندرية، طيور العنبر، إسكندرية غيمة).
ويضم ديوان «مقتل القمر» الكثير من قصائد شبابه فى الإسكندرية التى قضى فيها ما يزيد على عامين ولكنه كتب فى الإسكندرية قصائد أخرى، منها ما أسهم فى معرفة قراء الشعر له. وربما كانت قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» أهم القصائد التى كتبها فى الإسكندرية، فهى قصيدة تمثل قطيعة شعرية مع قصائده السابقة، ومنها قصيدة «طفلتها» التى حصل بها على جائزة «مهرجان الشعر» الذى انعقد فى الإسكندرية، وهى قصيدة عمودية، لا تختلف كثيرا من الناحية الفنية عن قصائده التى كتبها فى الإسكندرية مثل «من بحرى» (إبريل 1962) و «مرتان» (إبريل1961) و»هناك» (يونيو1962). والحق أن قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» كانت البداية الحقيقية لقصيدة الرفض التى مضى فى دربها أمل دنقل بعد ذلك، وذلك بالقدر نفسه التى يمكن أن ننظر إليها بوصفها القصيدة الأولى فى تأسيس وعيه المدينى على السواء. أما قصيدته عن الإسكندرية التى جاءت ضمن «مزامير العهد الآتى» فهى قصيدة رمزية خالصة، تنطق الوعى القومى لأمل دنقل. أعنى هذا الوعى الذى ظل متشبثا بمبدأ رغبة استعادة المجد العربى. وهو مبدأ لم ينفصل عن رؤية العالم التى انطوى عليها شعر أمل دنقل كله.
تقع الإسكندرية موقعا بينيا، فجنوبها مفتوح على دلتا نهر النيل التى تحيطها الصحراء، وتمضى حول النهر إلى أقصى الجنوب، وشمالها يطلّ على البحر الأبيض المتوسط الذى يفصلها عن أوروبا الواقعة على الضفة الأخرى التى تتطلع إليها الإسكندرية، كما تتطلع عينا تمثال سعد زغلول إلى البحر الفسيح الذى يجذب إليه الإسكندرية، كى يصلها بأوروبا الغاوية المغوية، جاعلا من موقعها وترا مشدودا بين قطبين يتجاذبانه : البحر والصحراء اللذان تتوتر بينهما الإسكندرية، فأصل هويتها فى الجنوب وحلم تقدمها فى الشمال الذى يخلق مشاعر متضادة، تقع ما بين جاذبية التقدم والنفور من الشمال الاستعمارى الذى أدخل الإسكندرية، عنوة، فى مداره المغلق.
هذا الموقع البينى للإسكندرية يتميز بتوتره الدائم الذى لا يزال، كما كان، قرين التضاد العاطفى الذى لا يزال يحكم علاقة الإسكندرية بأقطار الضفة الشمالية من البحر الأبيض، خصوصا تلك التى أسهمت فى الانكسار المأساوى لهزيمة العام السابع والستين التى كانت أقسى كارثة عانتها دولة المشروع القومى التى تحولت، فى مدى الممارسة، إلى دولة تسلطية بكل اللوازم القمعية لهذه الدولة. وبقدر ما كانت كارثة العام السابع والستين سببا جذريا فى مراجعة الأفكار القومية، وحلم الوحدة المقترن بها، ومن ثم التوجه شمالا والتطلع إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض، لعلنا نلحق بركب التقدم فيها، كانت هناك الاستجابة المناقضة، الموازية فى القوة والمضادة فى الاتجاه. وهى استجابة لا تخلو من دلالة الآلية الدفاعية التى آثرت العودة إلى الرحم، أصل الهوية العربية، خصوصا فى عصور ازدهارها التى غلبت فيها، وجعلت من البحر الأبيض بحرا عربيا فى مدى الهيمنة عليه، فى الفضاء الزمنى المتعاقب للفتوحات العربية. هكذا، تشكلت رؤيتان متناقضتان للعالم على سبيل التعميم ونظرتان متضادتان إلى الإسكندرية على سبيل التخصيص.
وطبيعى أن تتجسد الاستجابة الدفاعية التى تلوذ بأصل الهوية القومية فى شعر أمل دنقل الذى ظل شاعرا قوميا بامتياز، سواء من حيث مصادر أقنعته الغالبة على شعره (المتنبى، أبو نواس، أبو موسى الأشعرى، كليب، اليمامة..إلخ) أو رموزه الأساسية (قطر الندى - مصر، صقر قريش - فتح الأندلس، صلاح الدين- حطين، المعتصم - عمورية، رسوم فى بهو عربى ...إلخ) أو القيم التى يجسدها هذا الشعر وتنبنى بها رؤيته للعالم، وهى رؤية قومية متمردة، ترفض الانكسار، وتأبى الاستسلام.
ولم يكن من أمل أو خلاص من كابوس الهزيمة، وبعد موت عبدالناصر، سوى استعادة الماضى القديم، كى يدب فتيّا فى الشرايين والأفئدة، فتنهض رموز مثل الخنساء وأسماء، وشجرة الدر وصلاح الدين، وصقر قريش، مقاتلة من أجل المستقبل كما قاتلت فى الماضى. فالجند العائدون:
»ليس لهم أن ينظروا إلى الوراء
أو يدفنوا الموتى
إلا صبيحة الغد المنتصر الميمون».
هكذا تنقلب الصورة، وتتحول الهزيمة إلى نصر، وتغوص سفائن الإفرنج تحت الموج، فلا يبقى سوى نسر صلاح الدين ساطعا فى الأوج، ويظهر من أعماق كل مواطن كسير النفس نقيضه : البطل القومى.
هذا الروح الذى يستعيد ماضى الانتصارات العربية كى يبعثها فى حاضر الواقع المهزوم، دافعا وآلية دفاعية فى الوقت نفسه، كان لحمة رؤية عالم أمل دنقل وسداه، بعد 1967، فى طريق أولى خطاه استحضار رموز الماضى، ومنها تلك التى حملت جند الإسلام الفاتحين على امتداد المعمورة. وتبدو رمزية «الخيول» دالة فى هذا السياق، على امتداد حدود الممالك التى رسمتها السّنابك، والركابان: ميزان عدل يميل، مع السيف، حيث يميل. فقد كان ذلك فى زمن كانت الخيل برية، تتنفس حرية، مثلما يتنفسها الناس، فى ذلك الزمن الذهبى الجميل. هذه الخيول فقدت وظيفتها القديمة حين استدارت مزولة الوقت، ولا سبيل إلى استعادتها إلا باستعادة زمن الانتصار بإرادة المقاومة العنيدة.
وتقع إسكندرية، من منظور هذه الرؤية، ما بين قطبى مزولة الوقت، فإما أن يكون موجها مقبرة لسفائن الإفرنج، أو بحيرة تمرح فيها هذه السفائن مؤكدة صعود زمنها الذى ارتفع بسبب انحدار الزمن الجميل. ولذلك تتحول صور إسكندرية ما بين نقيضين، ما قبل 1967 وما بعدها. فى الما قبل، كانت الاسكندرية مراح الشباب، حين التحق أمل بالعمل فى جمركها الذى سرعان ما تركه إلى الفضاء الحر للإبداع، وتنقَّل من شواطئها إلى شواطئ الحياة، لكن الإسكندرية ظلت فى خاطره مبعثا لذكريات بهيجة عن اللهو على شاطئها:
»واليود ينشع فى رئتين
يسد مسامهما الربو، والأتربة».
وتمضى الصور الباكرة، فرحة، معانقة البحر، مع نهاية شهر مايو والاندفاع إلى الماء، حيث يمنح الملح والشمس الوجه علامة المياه التى تتوهج على أوجه محبيها. وحين يأتى المساء، تبتدى جولات الملاهى»:
مركبة الخيل حين تسير الهوينى بنا
الضحكات، النكات
بقايا من الزبد المُرّ والرغوة الذهبية«.
ولا تكف الإسكندرية عن عرض جمالها الفاتن حتى فى البعد عنها، مستدعية - فى الذاكرة - لياليها، لقاءاتها والشوق المحال، ساكنة فى القلب مع بهجة الذكريات لجلسات العشاق الهانئة على مقاهيها، وفى ذرع الطرقات اللولبية التى تفضى، دائما، إلى البحر الذى يغدو شاطئا للمرح، وفضاء للذكرى البهيجة، وامتدادا للرغبة التى تتحقق على مقربة من أمواجه التى تغدو مرآة لهمس العشاق فى »الملهى الصغير«.
وللبحر فى شعر أمل صور تشخيصية ذات طبيعة خاصة، تلفت انتباه أى قارئ لشعره، خصوصا حين يتجسد الموج فى استعارة مكنية، سرعان ما تتحول إلى صورة تشخيصية نقرأ فيها من قصيدة «ظمأ . ظمأ»:
فرس الموج تنفض أعرافها البيض،
تعدو بمركبة الزرقة اللهيبة،
لكنها تتحطم فوق الحواجز .. تهوى كسيرة ؟
أكشف الرأس تحت الرذاذ،
أمد يدى حاملا كوبى الفارغ الورقى
فتسبح فيه الفقاقيع ذات العيون الصغيرة
وجاذبية التشخيص ترجع إلى الاستعارة المكنية التى نرى فيها لوازم تشبيه الموج بالخيل فى تدافعها، ولكن عبر موجات زرقاء اللون متدافعة فى قوة وعزم، وهى تضوى فى الشمس التى تخلع عليها غلالة من لهب. ولا تتوقف عن التدافع إلا حين تصطدم بكتل الحواجز الإسمنتية، فتهوى مرغمة كسيرة. وهو مشهد يشارك فى طقسه المتأمل له. بأن يكشف رأسه تحت الرذاذ المتطاير من الاصطدام، كى يبترد، مادا يده بكوب ورقى فارغ، كى يملأه برغاوى الموج المتكسر وزبده الذى تشبه فقاقيعه عيونا صغيرة تتطلع نحو العينين اللتين تتأملانها فى فضول واهتمام.
أما بعد هزيمة 1967، وفى مدى الآلية الدفاعية التى ولَّدتها، خصوصا فى اقترانها بالعودة إلى أصل الهوية بوصفه الخلاص من الحاضر المهزوم بذكرى الماضى المنتصر، تتخذ الإسكندرية وضعا دلاليا، مناقضا، فتبدو صورها مكتنزة بالسخرية التى تكشف عن التناقض بين الشعارات المرفوعة والواقع المهزوم. هكذا، تنتهى قصيدة «صفحات من كتاب الصيف والشتاء» بمقطع »شتاء عاصف للإسكندرية» حيث نقرأ:
وكان فى المذياع
أغنية حزينة الإيقاع
عن «ظالم لاقيت منه ما كفى» قد «علموه كيف يجفو .. فجفا».
والمقطع كله مبنىّ بطريقة الكولاچ، أو التضمين، ابتداء من التشبيهات والشعارات التى رددتها مقاطع الأغنيات الحماسية التى انتهت بالانكسار، نتيجة فساد الحكم وتسلط الحاكم الذى علَّمته الطاعة كيف يجفو شعبه فجفاه، فلم يبق للشعب سوى حزن متكرر الرجع، يدفع إلى شاطئ البحر الذى يلجأ إليه المحزون كى يفر من وقع المأساة التى تصفعه علاماتها وبقايا شعاراتها الكاذبة. والنتيجة:
»جلست فوق الشاطئ اليابس
وكان موج البحر
يصفع خدّ الصخر
وينطوى - حينا - أمام وجهه العابس
وترجع الأمواج / تنطحه برأسها المهتاج
ودون أن تكفّ عن الصراع
ودون أن تكف عن الصراع».
وهى نهاية يائسة، لكنها فى تمسكها بما بقى فى الذات التى تنطقها من روح المقاومة، تحيل البحر إلى مرآة لها، خصوصا فى علاقته بالصخور التى لا يكف عن مناطحتها، دون أن يكف موج البحر عن صراعه اليائس مع الصخور، أو دون أن يكف الشاعر القومى عن صدامه اليائس مع كابوس الهزيمة، على أمل أن تنكسر صخوره يوما، فيكتسب الفعل السيزيقى معنى للحضور الذى لا يكف عن المقاومة.
وقد كتب أمل قصيدته السابقة فى مارس 1969، أى بعد عامين من هزيمة العام السابع والستين. ولم تتوقف صور الإسكندرية التى تتجلى من منظور الهزيمة، فتعاود الظهور فى الديوان اللاحق - العهد الآتى - لكن بواسطة أمثولة سردية تغدو فيها الإسكندرية أنثى يغويها البحر، كى يقودها إلى ضفته الأخرى، فى أوروبا. وكأن أمواجه صوت الندَّاهة فى الموروث الشعبى، أو المغنيات الساحرات اللائى كن يجذبن بحارة أوديسيوس إلى حتفهم بأصواتهن الساحرة التى ظلت تهدد عودته إلى إيثاكا.
(وللمقال بقية )