أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
عندما يكون الأحمر والأخضر سواء..!
25 يناير 2017
سمير الشحات

عشنا ما عشنا، فلن ننسى ذلك المشهد البديع، الذى أداه نجمنا الكبير، الأستاذ سمير غانم على المسرح، عندما راح يتندر كيف أنه- وهو يقود سيارته بينما شارة المرور خضراء وللمشاة حمراء- فإذا به يفاجأ بأحد المارة، يمر أمام السيارة ضاربًا بفلسفات المرور كلها عرض الحائط، وعندما يصرخ فيه غانم «يا عمّ.. الإشارة حمرا»، إذا بصاحبنا هذا يغمغم له غير واع لما يقول: «إشارة؟ إشارة إيه؟».

صحيح.. إشارة إيه؟ السؤال يبدو كوميديًا إلى أبعد حد.. لكنك لو تمعنت قليلًا، لوجدت أن صاحبنا المغمغم هذا كان معه كل الحق.. وأن حال صاحبنا هذا هى حال الكثيرين منا هذه الأيام.. فعن أى إشارة بالضبط تتحدث؟

وهنا دعنى أسالك: هل سيادتك من قاطنى القاهرة العامرة؟ لو أنك كنت واحدًا من هؤلاء «التعساء»، فلا شك فى أنك ستكون - مع المرور- محتاسًا حوسة «أم العروس». وتعال أنا وأنت، نتابع بتمعن الإشارات الثلاث المرورية التالية: إشارة شارع الجلاء مع شارع 26 يوليو، عند الإسعاف، وإشارة الأوبرا القديمة وأنت داخل على نفق الأزهر، ثم إشارة ميدان عبد المنعم رياض( وأنت آتٍ من الجلاء أمام رمسيس هيلتون).. عارفهم؟

هل فكرت ذات يوم، فى أن تكتب أحاسيسك وأنت واقف بسيارتك فى إحداها؟ حاول.. وصدقنى سوف تخرج بإبداع أدبى لم- ولن- يسبقك إليه أحد، لكن قبل البدء فى سرديتك الرائعة تلك، دعنى أحكى لك فى عجالة ذلك المشهد:

قبل سنوات بعيدة، أتى صديق عربى لزيارة صديقه المصرى بالقاهرة، وفجأة احمّرت الإشارة فتوقف المصرى بسيارته مرغمًا بعد زجرة قاسية له من الأخ العربى، وهنالك سارع إليه الأشارجى زاعقًا: واقف ليه يا أخينا؟ فرد الأخ العربى: شو.. ما انك شايف كيف الشارة حمرا؟ وعندئذ نظر الأشارجى بغضب صارخًا فى ابن جلدته المصرى: سوق يا أخينا الله يهديك.. وهو احنا بلد إشارات؟

لكن- ولله الحمد والمِنّة- لقد تغير كل ذلك الآن، وصارت لدينا إشارات محترمة، وسيقول المؤرخون، إن البعض منها مزوّد بكاميرات، وسنتك فُل يا حلو المعانى لو تجرأت فكسرت إحداها.. ساعتها ستدفع الذى وراءك( وربما الذى أمامك أيضًا !)، جرّاء تجرؤك على مخالفة الأخضر والأحمر والأصفر.

ومع ذلك.. هل حلّت تلك الشارات أى مشكلة؟ أبدًا.. الحال هى الحال يا ( مايلة)، والزحام هو الزحام.. والخنقة مازالت هى الخنقة.. والمخالفات ( على ودنه!).. فما المشكلة؟ ولماذا لا تفلح معنا الإشارات؟.. آآآآآه.. لقد أتتك الإجابة من قبل على لسان الأشارجى.. لكنك لم تتعظ ( وهل نحن بلد إشارات؟)!

إن للإشارات يا سادة منظومة واشتراطات ينبغى توافرها كى تؤدى عملها بانضباط ونجاعة، وهى شروط لا تتوافر لدينا للأسف. وأول تلك الشروط، ألا يكون عدد السيارات زائدًا عن السعة التى يستوعبها الطريق. فمثلًا لو أن الشارع يستوعب ألف سيارة.. ثم جئت سيادتك فدلقت فيه عشرة آلاف، فلن تفعل لك الإشارة شيئًا لأنه ( إيش تعمل الماشطة فى الوجه العكر؟)

والشرط الثانى، أن تكون هناك انسيابية فى الإشارات، بمعنى أنه لا يصح أن تفتح علىّ الإشارة، بينما التى بعدها مازالت مكتظة، لأنك فى تلك الحال، ستزيد الزحام زحامًا، وستتراكم سيارات الإشارة الأولى مع الثانية مع الثالثة.. وهكذا، حتى نضطر إلى تثبيت الشارات كلها عند اللون الأصفر.. (وكله يخلص نفسه يا حبيبى).. وبالتالى فنحن نعود القهقرى إلى الوراء، أيام أن كان الأشارجى يصرخ: وهل نحن بلد إشارات؟

والشرط الثالث، أن من المفترض، ألا يمر أحد المشاة من أمام السيارات المارقة التى تريد الإفلات قبل أن تغلق عليها الإشارة.. فهل يلتزم مشاتنا بذلك؟ مستحيل.. إذ كيف نلتزم.. والسير بكسل على شط الترعة ـ وفى اليد زعزوعة من القصب- مازال يطوف بأرواحنا، فلا ننساه؟ وأصلًا أصلًا.. هل أنت رسمت خطوطا بيضاء على الإسفلت، لتحدد للمشاة المنهكين أين يمرون؟ أبدًا.. ما فيش، ومن ثم يصبح المشاة عندنا كالسائرين نيامًا على حبل مشدود بين جبلين.

تعالوا بنا ندخل فى تنظير( يعنى تفلسف) المثقفين. إن إشارات المرور يا سادة هى مظهر من مظاهر الحداثة، يعنى هى إحدى مكونات الالتزام بالقواعد القانونية (صغيرها قبل كبيرها)، وكما هو معروف، فإن الالتزام بقواعد المرور ليس لمجرد الخوف من العقاب فقط، بل هو من مقتضيات المواطن العصرى، فهل نحن عصريون؟

قل لى ـ رحم الله والديك ـ مَن منا لا يخرق القوانين كلما تيسر له ذلك؟ ومن منا لا يكسر كل الإشارات، ليس فى الطرقات فحسب، بل فى مظاهر حياتنا اليومية كلها؟ وهكذا فالحدوتة أشمل وأعم من مجرد «لمبة» معلقة فى عامود وتضىء أحمر وأخضر، الموضوع أعمق.. فهل نحن - لاسمح الله نعيش فى غيبوبة؟

لا .. وإنما القصة وما فيها، هى أننا اعتدنا على أن تطبيق القانون لا أهمية له عندنا.. وكله ماشى بالبركة.. بل على العكس.. إن المستمسك بالقوانين عندنا كما القابض على الجمر، بل وأحيانًا ينظر إليه على أنه أبله ( يعنى لا مؤاخذة بريالة)، فما سبب عشوائيتنا تلك؟ سأقول لك بسرعة السبب.. وهو نفسه الذى يكمن فيه الحل للمعضلة أيضًا.

السبب ـ ببساطة ـ أن البعض منا يضع جزمته فوق رأس أم القانون، ولا يعاقبه أحد ( إما خوفًا أو طمعا).. ومن ثم يراه الآخرون ( الغلابة) فيقلدونه ويهمسون لأنفسهم: (واشمعنا أنا يعنى.. هىّ جت عليّا.. ما تبصوا للكبار!).. وصدقنى.. نحن لن نصبح بلد إشارات بصحيح.. إلا إذا طبقنا القوانين على الكل بمنتهى الحزم والمساواة.. وإلا فعليك بالأشارجى !.