أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
مصر وتونس.. عواصف الربيع ومفارقات الحداثة
20 يناير 2017
صلاح سالم

فى تفسير عاصفة الربيع العربى طالما جرت المشابهة بين التونسي محمد البوعزيزى والمصرى خالد سعيد. غير أن رحلتى الأولى إلى البلد الشقيق، أفصحت لى عما يتجاوز كثيرا محنة شخصين عاشها كل منهما بطريقته، إلى أزمة مجتمعين عربيين مع الحداثة. ربما كانت مصر أعرق فى مسيرة تحديثها التى مر عليها أكثر من قرنين، عاشت خلالهما حركة بندولية بين صعود وهبوط، كانت ذروتها مع محمد على وإسماعيل وعبد الناصر، وكان سفحها مع عباس وسعيد وتوفيق وحسنى مبارك. ولكن تونس تعلمت من مصر فأسرعت الخطى بعد أن تحررت من الاستعمار الفرنسي، حيث فرض عليها بورقيبة تحديثيا راديكاليا، اجتماعيا وثقافيا وإن لم يكن بالقطع سياسيا.


فى الحالين انتهى عصر التحرر الوطنى باستقلال الدولة من دون استقلال لشخصية المواطن، حيث طغى الاستبداد بأشكال مختلفة فتعثرت مسيرة تطورهما، ونمت نزعة أصولية تنكرت لمحاولات الإصلاح الدينى التى بذلها الإمام محمد عبده فى مصر وخير الدين التونسي فى البلد الشقيق، وهى المحاولة التى دعيت مع نخبة من ثلاثين باحثا ومفكرا عربيا من شتى الأقطار العربية لمناقشة إمكانية استئنافها أو تصحيح مسارها، بعد أن أفضى تعثرها إلى انبعاث مع الحركات الأصولية هنا وهناك، ثم هبوب عواصف الثورة، والتى لم يتجاوز الناس آثارها حتى الآن وإن تفاوت الأثر بين هنا وهناك، حسبما تبدى الأمر لزائر متعجل وناظر بالعين المجردة.







المشهد الأول..



مدينة الحمامات جمال يتألم وحوارات صاخبة



كانت رحلة الذهاب ممتعة، فالصباح كان طازجا ونديا والصحبة رائعة والحوارات متدفقة حول كل شيء مع د. نيفين مسعد أستاذتى الرائعة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة والمديرة السابقة لمعهد البحوث العربية، والأستاذ فهمى هويدى الكاتب الكبير والصحفى العتيق بالأهرام، ود. محمد سليم العوا المفكر الإسلامى المعروف، والأستاذ نبيل عبد الفتاح الكاتب البارز ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية. فى مطار قرطاج تصادف وصولنا مع الوفد المغربى، الذى كان على رأسه د. عبد الإله بلقزيز، الصديق العزيز والمفكر المرموق، ونخبة من أساتذة الفلسفة النابهين، كان من بينهم د. محمد الشيخ، ود. أحمد ملى، اللذان قاما بالتعقيب على بحثى الذى ألقيته فى الجلسة السادسة تحت عنوان «النص والمؤمنون.. نقد الوساطة فى الإسلام».



فى اليوم الأول للندوة كان الشيخ راشد الغنوشى حاضرا، تحدث فى الجلسة الافتتاحية باقتدار باحث لا بروتوكولية سياسي جاء ليجامل ضيوفه. استعاد ابن رشد وكتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» ليحث الحضور على المزيد من الاجتهاد، وإعمال العقل فكان حديثه حصيفا، مثلما كان حضوره متواضعا، يذهب إلى مصافحة الجميع من دون أن ينتظر ذهابهم إليه. وربما كان تواضعه هذا وحصافته تلك، هى التى مكنته من استيعاب دروس التاريخ التى لم يستطع رفاق دربه فى مصر تعلمه فأسقطوا الربيع المصرى فى براثن الخريف المبكر. كانت تيارات الفكر العربى جميعها ممثلة، فالإسلاميون حاضرون بتلاوين معتدلة ومحافظة، والعلمانيون حاضرون أيضا بتلاوين مختلفة، معتدلة وراديكالية. ورغم أن تيارا توفيقيا عريضا كان حاضرا عبر عن نفسه فى بحوث د.عبد الإله بلقزيز، والباحثين المرموقين د. زياد حافظ، ود.وجيه كوثرانى، والأب د. جان عقيقى، ود. محمد حلمى عبد الوهاب. وكذلك فى التعقيبات والمداخلات الذكية للدكتورة نيفين مسعد، والأساتذة نبيل عبد الفتاح، وفهمى هويدى من مصر، ود. توفيق السيف من السعودية، ود. لويس صليبا أستاذ اللاهوت والأديان المقارنة، ود. عبد الغنى عماد والأستاذين غسان الشامى، وقاسم قصير من لبنان، ود.مصطفى القباج ود. نبيل فازيو من المغرب، ود. مصطفى التير من ليبيا، فضلا عن بعض أقطاب الفكر الشيعى وعلى رأسهم سماحة السيد آية أحمد كاظم البغدادى، فقد تبدى واضحا أن ثمة طرفين متناقضين يصعب تلاقيهما على حل وسط تاريخى. تمثلت الذروة التعبيرية عن أولهم فى د. العوا الذى تبنى موقفا محافظا إلى حد بعيد، رفض معه الحديث عن إصلاح دينى بالمعنى الذى جرى فى الغرب، لأن الإسلام لم يكن كنسيا ولا ثيوقراطيا فى أى وقت، ومن ثم ليس بحاجة إلى استعارة مفاهيم من خارج بنيته العقدية أو فضائه الفكرى، فلا إصلاح دينيا كما تنشد الندوة، ولا علمانية سياسية وتنويرا روحيا كما دعا كاتب هذه السطور فى محاضرته، بل فقط يمكن الحديث عن «التجديد» وعن «الوسطية» فيما تبدى لى موقفا سلفيا، عاجزا عن الاندراج فى تيار التاريخ الإنساني، أصر عليه الرجل ودافع عنه بصرامة رغم بشاشته الإنسانية المعهودة وأخلاقه الرصينة. ومثل ثانيهما د. عزيز العظمة، المفكر السورى المرموق، الأستاذ بجامعة أوروبا الوسطى، الذى قدم بحثا عن الخبرة الإسلامية الحديثة (النهضوية) مع الإصلاح الدينى. ورغم اعتذاره المفاجئ عن عدم الحضور، قام المغربى د. محمد الشيخ بإلقاء بحثه الذى استفز الحضور، حيث كرر الرجل أفكاره المنتمية إلى فضاء العلمانية الراديكالية، منتقدا جل المفكرين النهضويين، خصوصا الإمام محمد عبده الذى رآه مجرد عقل توفيقي متردد، لم يستطع أن يحسم موقفه من قضية العقلانية، فرحل دون أن يترك أثرا. ولم يكتف بذلك بل ذهب بقضية تاريخية النص الدينى إلى حدود متطرفة، فلم يتوقف عند النص التراثى الذى أشاركه الاعتقاد فى تاريخيته كاملا، وضمنه السنة النبوية، عدا تلك الشارحة للعبادات، بل ذهب إلى النص القرآنى نفسه، الذى لا يجب التوقف، حسب د. العظمة، عند حدود تأويل المتشابه من آياته فقط فى ضوء معطيات العصر وقوانين العقل، كما ذهب ابن رشد والمعتزلة ومحمد عبده، بل تأويل كل شئ في القرآن الذى بين أيدينا، والذى لم يعتبره وحيا إلى النبى محمد إلا بالمعنى العام الذى يحمله والمفاهيم الكلية التى ينطوى عليها، أما مادته ولغته وبنيته النسقية، أى جسده كنص، فمن صياغة الرسول الكريم نفسه، والذى حاول أن يصوغ ما أوحى إليه من معان ورؤى كلية فى منظومات كلامية وبنى دلالية من عنده، متأثرا بالبيئة الجاهلية (التاريخية) التى عاش فيها، وهو ما يجب تجاوزه كليا الآن.



تحدث كثيرون مدافعين عن موقف محمد عبده ودوره، وعن النص القرآنى وقدسيته، وقد علق كاتب هذه السطور مؤكدا أمرين:



أولهما هو أن ثمة فارقا كبيرا بين مفهوم تاريخية النص، الذى يعترف بوجود النص أصلا كحقيقة ورسالة ذات مضمون جلى، يجرى إعادة تأويله ليبقى أوثق ارتباطا بحركة الزمان وحياة المؤمنين، بإعادة الاكتشاف الدائمة لكوامنه وخفاياه. تحيل التاريخية بهذا المعنى إلى نزعة نسبية فى فهم حقيقة النص وحقيقة التاريخ معا، وهو أمر نراه مقبولا وضروريا. وبين مفهوم إعدام النص، الذى لا يعترف بوجود النص (جوهريا) وإن لم يصرح بذلك بل يدور حوله، فالتاريخية هنا تتعلق بعملية تكوين النص نفسه وليس فقط مسألة فهمه، إنه من صنع بشر ابتداء، ومن ثم يمكن تجاوزه كليا، وهى عين النزعة النسباوية التى لا تقر بوجود حقائق مطلقة تتعالى على التاريخ، فلا أخلاق أبدية ولا قيم كونية، بل مجرد نزعات ذوقية تتسم بالنسبية القصوى، والذاتية الفائقة، الأمر الذى يجعل النص القرآنى إنسانيا بالكلية، كأى نص أدبى يخضع لمقولة بارت عن موت المؤلف وحياة القارئ، وهو ما لا نظنه يتناسب ونص دينى تأسيسي ناهيك عن أن يكون القرآن الكريم.



وثانيهما هو أن كل فكر إصلاحى/ نهضوى يبقى توفيقيا بالأساس، لأنه ينطلق من نص (إنجيلى/ قرآنى) يبغى تجديد فهمه، أو تراث حضارى (غربى/ عربى) يبغى تنهيض واقعه. وقد كان ديكارت، أبا الفلسفة الحديثة، توفيقيا، يجمع بين عقلانية شكية وبين إيمان روحى دفعه إلى الادعاء بإمكانية البرهنة على وجود الله بدرجة اليقين نفسها التى يمكن بها إثبات تساوى طرفى معادلة رياضية، هما بالقطع متساويان. وقد انبثق عن عقلانية ديكارت التوفيقية بين العقلانية والمثالية هذه موقفان نقيضان، فذهب اسبينوزا بالمكون العقلانى فيها إلى حد النهاية فى كتابه الأشهر (رسالة فى اللاهوت والسياسة) الذى برر فيه الحاجة إلى نقد الكتاب المقدس، مؤسسا لما عرف بعد ذلك باسم النقد الأعلى أو الرفيع. وعلى العكس ذهب الفيلسوف الألمانى ليبنتز بالمكون المثالى إلى الحد الأقصى فى كتابه الأشهر «مقال فى الميتافيزيقيا» الذى استعار فكرة الذرات كوحدات أساسية فى بنية الوجود الكونى، وهى فكرة يونانية قديمة قال بها الفلاسفة اليونان/ الذريون، خصوصا بارمنيدس وأنبادوقليس، ليؤكد على الضد منهم، أن الوجود روحى بالأساس، وأنه ينبنى على وحدات روحية (مونادات). وهكذا طبيعة الفكر البشرى، الذى يتطور جدليا عبر التاريخ، فى سياقات تبدو متناقضة أحيانا.



لقد كان محمد عبده توفيقيا على نحو ما كان ديكارت نفسه. ورغم أن إصلاحه لم ينتج أثره فعليا، بدليل التطرف الدينى والإرهاب الأصولى الذى يحيط بنا، فإن ذلك لا يعود إلى جوهر فكر الإمام بل إلى السياق التاريخى اللاحق عليه، حيث خرج من عباءته تياران: الأول منهما كان استمرارا طبيعيا له ممثلا فى الشيخ على عبد الرازق الذى نفى كون الخلافة السياسية فريضة شرعية، مثبتا تاريخيتها، وداعيا من ثم، وإن لم يسمها صراحة، إلى علمانية سياسية. وأما الثانى فكان بمثابة نقض لمشروعه توزع على حلقتين: فى الأولى كان التأويل السلفى الرجعى له على يد تلميذه محمد رشيد رضا، الذى أمعن فى الحديث عن الخلافة السياسية. وفى الثانية كان التدشين الحركى للإسلام السياسي (الحزبى/ الجماعاتى) على يدى حسن البنا، وهو ما ألقى ببذور الانقسام فى تربة العرب، التى أنبتت العنف بعد رحيل الإمام. وهنا تبدى لى ما يعانيه المجدد الحقيقى من ظلم مزدوج، سواء من السلفيين المحافظين الرافضين جوهريا لإعمال العقل بغية تجديد الفكر، أو من العلمانيين المتطرفين، الذين يدافعون عن عقلانية مادية أحادية وصلبة لم تعد قائمة الآن, فكلا الطرفين لا يودون، حقيقة، حل الإشكاليات الفكرية القائمة، بقدر ما يرغبون فى امتلاكها كرأسمال ثقافى عاشوا عليه طيلة أعمارهم، ولا يودون أن يفقدوه قبل رحيلهم.



لم يكن ممكنا أن نغادر مدينة الحمامات من دون التجول فيها، وهو ما تحقق صبيحة الأربعاء فى صحبة رائقة ضمت الإعلاميين الكبار بقناة الميادين: الأستاذ غسان الشامى اللبنانى، ود. يحيى أبو زكريا الجزائرى، والجميلة نيكول كماتو المنتجة المنفذة. استمرت جولتنا سيرا على الأقدام نحو ساعتين فى مدينة تنام بوداعة كاملة فى حضن البحر، حيث المكان جميل حقا، والجو رائع، ولكن لا أحد فى الشارع تقريبا، ومعظم المحال التجارية مغلقة وكأننا فى يوم عطلة، ما ذكرنى بشرم الشيخ، فالحال هو الحال، والألم هو الألم. تضررت مدينتنا بشدة من سقوط طائرة روسية على يدى بعض شذاذ الآفاق من مدعى التأسلم الكاذب، وتضررت مدينتهم من قيام بعضهم الآخر باقتحام أحد متاحف المدينة وقتل الأجانب فيه. لم يسقط الحكم هنا أو هناك ولن يسقط لأن ثلة من المجرمين يريدون ذلك، ولكن البسطاء هنا وهناك، العاملين من كل صنف، التجار على كل لون، تأثروا وتألموا بفعل البوار والبطالة ولا يزالون من دون ذنب جنوه.



صادفنا أحد سائقى عربات الحنطور على مسافة كيلو متر واحد من الفندق وألح علينا فى القيام بجولة سياحية لمدة ساعة، عرفنا منه أنها تكلف 35 دينارا تونسيا (260 جنيها مصريا تقريبا). كنا قد اتخذنا قرار السير لمزيد من المتعة، ما دفعنا لرفض إلحاح سائقين آخرين على طول الطريق على الركوب معهم. فى طريق عودتنا، ونحن على مشارف الفندق صادفنا السائق الأول فى المكان نفسه، ألح الإلحاح نفسه. ولأنه كان هرما جدا تكاد تجاعيد العمر تضرب وجهه، فقد ألححت بدوري على الرفاق أن نركب معه ولو لمدة خمس دقائق كى نمنحه ما تجود به النفس من دون إحراج له. قام الرجل بالدوران حول نفسه لزيادة مدة الرحلة إلى عشر دقائق. وعندما سألته كم يريد طالب بثمن جولة كاملة وبإصرار شديد. أعطيته ما أراد، ولكن وجه الرجل المتصلب والمتنمر والذى يناقض وجهه المستكين الملح أثار لدى أسئلة من أفق وجودى، هل يستحق الرجل ما يعيشه من بؤس واضح لأن فى طبعه من السوء ما يعرفه الله عنه، ويستحق عليه شح الرزق أم أن شح الرزق هو ما جعله هكذا متنمرا كصائد ماهر؟. وغيرها من أسئلة قلقة طالما أثارتها الفلسفات الدينية والمذاهب الكلامية حول القضاء والقدر وحرية الاختيار لدى الإنسان، من دون جواب حاسم. ولعل الحكيم الرواقى (بوئثيوس) كان أبرز من عبر عن تلك القضية فى كتابه «عزاءُ الفلسفة» عندما قال «الحظ السعيد يبدو دائمًا كأنه يَجْلِبُ للمرء السعادة، غير أنه يخدعُه بابتساماتِه؛ بينما الحظُّ السيئ صادقٌ دائمًا لأنه يَكشِفُ له عن طبيعته الحقيقية المتقلبة».



المشهد الثانى



المرأة والحداثة.. بين الحبيب بورقيبة والمدينة العتيقة



لم يكن ممكنا العودة دون العروج إلى تونس العاصمة، ولذا أخرت موعد عودتى من الأربعاء إلى الجمعة. نزلت بفندق يقع على شارع الحبيب بورقيبة، ويواجه مقهى باريس الشهير حيث يسهل التجوال هنا وهناك. كانت معلوماتى المسبقة تشى بالمشابهة بين شارع بورقيبة وشارع الشانزلزيه، بفرنسا، وقد بدا ذلك فى أناقة الشارع واتساعه ونظافته، وتعدد وجوه وجنسيات المتجولين فيه وأشكال المقاهى والمطاعم التى يزخر بها، وأسعارها المقبولة جدا على العموم. لكن ما أكد لى أننى فى تونس لا باريس هو انسداد الشارع أمام مبنى وزارة الداخلية، فذلك المشهد هو ماركة مسجلة وملكية حصرية للعقل الأمنى العربى.



أول ما يلفت نظر الزائر هو الفتاة التونسية بجمالها وأناقتها ورشاقتها، مع انخفاض نسبة المحجبات بينهن إلى أقل من عشرة فى المائة بوسط العاصمة خصوصا فى شارع بورقيبة وحى سيدى بوسعيد الراقى، لكنه يرتفع إلى 30 بالمائة فى الأحياء الشعبية بالمدينة العتيقة، بينما يختفى النقاب تماما، فلا توجد فتاة أو امرأة تونسية تغطى وجهها على ذلك النحو البدوى الذى نشاهده لدينا، فالمظهر العام يقترب من مصر السبعينيات حيث الحجاب لا يزال لباس الأقلية، والنقاب لم يظهر بعد، ما يدل على أن مدونة القوانين التونسية التى تبناها بورقيبة وأعطت المرأة حقوقا كبيرة بلغت حد تجريم الزواج الثانى قد أتت ثمارها فى تكريس الحداثة الاجتماعية، قياسا الى المصريات، رغم التشابه القائم بين البلدين على صعيد الحرية السياسية المأزومة



يمتد شارع بورقيبة قاطعا شوارع عرضية أهمها المغرب العربى ثم تركيا ثم مارسليا الذى يقع مقهى باريس على ناصيته، ثم شارع جمال عبد الناصر، الذى يحمل اسما مختلفا «روما» بمجرد العبور إلى الناحية الأخرى من ش بورقيبة الذى يتحول إلى شارع فرنسا بعد نقطة تقاطعه مع جمال عبد الناصر، وكأن لسان حال بورقيبة يقول بمدى تماهيه مع الذوق الغربى حتى ليتحول شارعه تلقائيا إلى فرنسا، بينما يتقاطع مع جمال عبد الناصر الذى لم يستطع أن يتجاهله كزعيم عربى عظيم استحق تسمية شارع باسمه، ولكن جعله متقاطعا معه ليبدى ما كان بورقيبة يضمره من تحفظات عليه، فكأنه يكره ناصر فى أعماقه ويحترمه رغما عن ذلك كحال حكام عرب كثيرين آنذاك.



يمتد شارع «إسبانيا» بموازاة شارع بورقيبة ثم فرنسا، وفى المنطقة الممتدة بينهما والتى يقطعها جمال عبد الناصر يقع سوق شعبى كبير يشبه تماما سوق العتبة، تقع فيه محطة أتوبيس كبيرة تشبه محطة العتبة، يبيع بضائع قديمة ورخيصة نوعا، يعانى ازدحاما هائلا يصعب معه السير فيه، يمتلئ بالفتيات والسيدات اللائى يشترين حاجياتهن رغم أن مظهرهن لا يشى بأى نوع من الفقر. دفعنى الفضول للتعرف على أسعار بعض السلع للمقارنة بينها وبين أسعارها فى مصر، خصوصا الذهب والملابس الجاهزة وبعض أنواع الفاكهة. لاحظت أن الأسعار فى مصر تبلغ خمسة أضعاف نظيرتها فى تونس، فما تشتريه بدينار هناك يكلفك خمسة جنيهات هنا، مع ملاحظة أن الدينار يعادل ثمانية جنيهات بعد تحرير سعر العملة (الدولار يساوى دينارين وربع الدينار). ذهبت إلى مكتبة شهيرة فى تونس تسمى (المعرفة المرحة) على اسم كتاب للفيلسوف الألمانى نيتشه، وتقع فى قلب ساحة (ميدان) برشلونة. كانت المكتبة عامرة بما تنشره دور عربية كثيرة، خصوصا اللبنانية رغم أن صاحبها الأستاذ بدر الدين دبوسي يملك دار نشر خاصة تسمى «المعرفة» أيضا. كانت لهجة بدر واضحة عكس أغلب التونسيين الذين يصعب فهم مفرداتهم المختلفة ومتابعة لهجتهم السريعة، كما كان مثقفا لديه علاقة بكتاب عرب كثر، منهم صديقى التونسي د. محمد الحداد. كانت المفاجأة السارة أن وجدت نسخة وحيدة من كتابى (اللاهوت التاريخى) على أرفف المكتبة، وعندما عرف أننى مؤلفه أصر على مصافحتى من جديد، وأحضر لى شايا تونسيا أخضر، موضحا لى أنه اشترى عشرة نسخ من معرض الكتاب بالقاهرة عام 2014م، باع منها تسعة عبر عامين وبقيت هذه النسخة، فقلت فى نفسي «ما لا يوزع كثيرا فى مصر هو حاله فى تونس» إلا أن بدر صالحنى بإهدائي ستة كتب من نشره هو، كهدية لصديق، بديلا عن تقديم خصم على الكتب العشر التى اشتريتها منه بمائة دولار كاملة، أى 1800 جنيه، ما يشى بمستوى الأسعار الحارق فى معرض القاهرة المقبل خصوصا لمحبى الكتب البيروتية. على وقع الشاى الأخضر دار حوار بيننا حول أوضاع مصر وتونس، عرفت منه أن دخول التونسيين رقميا تبلغ ثلث دخول المصريين تقريبا، فراتب أستاذ الجامعة مثلا يراوح بين ألف وخمسمائة، وألفين وخمسمائة دينار، والصحفى بين ألف وألفين، ولكن مع ارتفاع القدرة الشرائية للدينار إلى خمسة أضعاف الجنيه، يبدو مستوى الحياة فى تونس أعلى منه فى مصر، وإن كان الشعور بالأزمة هناك يبقى ملحوظا مثله هنا، ولو بالقياس إلى ما كان.



كان على فى نصف اليوم الأخير الذهاب إلى جامع الزيتونة، سيرا على الأقدام، حيث ينتهى شارع فرنسا، كامتداد طبيعى لشارع بورقيبة، ومن ثم يتم الانتقال من مكان عصرى جدا يشبه باريس إلى مكان تقليدى يشبه القاهرة الفاطمية، مباشرة ودون تمهيد، حيث تبدأ المدينة العتيقة وفى قلبها جامع الزيتونة، الذى تقودك إليه شوارع ضيقة أقرب إلى مدقات خان الخليلى والموسكى التى تصل بالزائر إلى جامع الحسين، حيث الصناعات التقليدية ذاتها، والوجوه ذاتها، وحتى فهلوة بعض أبناء البلد نفسها. فعندما تناولت وجبة الكسكسى الشعبية هناك طلب منى الجرسون 25 دينارا، عرفت من زميل بالفندق أن قيمتها أربعة أو خمسة دنانير فقط. لم تتوقف المشابهة عند تلك الفهلوة بل تمتد لتشمل وجوه البسطاء حول الجامع العريق، وكأنك أمام مريدى السيدة زينب أو عواجيزها كما يقولون. عندما ذهبت إلى الوضوء كان التعامل مع الحمام البلدى صعبا جدا، إذ لم أدخله منذ زمن بعيد، ولكن لماذا؟. تذكرت أننى مثل كثيرين، لم أعد أذهب إلى المسجد سوى يوم الجمعة متوضئا فى بيتى، وتساءلت لماذا هجر الكثيرون المساجد، حتى ملأها المتشددون؟ ولماذا اختفى الإيمان الروحى مع تزايد الاهتمام العمرانى بالمساجد؟. عندما دخلت إلى قلب الجامع قبيل أذان العصر كان الإمام يعظ المصلين، محذرا لهم من الثقة فى اليهود، مستعيدا قصة اليهود الذين مروا على النبى الكريم فقالوا «عليك السام» على سبيل الخداع، فأدركت كيف أن جامعهم الزيتونى يشبه جامعنا الأزهرى فى محافظته، ولماذا يقتل الإرهابيون السائحين هناك مثلما قتلوهم هنا، فالعقل السلفى الرافض للحداثة والمعادى للآخر يكاد يكون واحدا. فى طريق العودة إلى شارع بورقيبة لامس أذنى فى غير مرة صوت أم كلثوم ينساب من داخل الحوانيت الصغيرة يطرب الجميع، مع صوت عبد الحليم مرة، وميادة الحناوى مرة أخرى فى أغنية أبدع كلماتها وألحانها مؤلفون وموسيقيون مصريون، فتساءلت إذا كانت مصر حاضرة اليوم بفنها الراقى الذى أبدعته قريحتها الحديثة قبل خمسين عاما من اليوم، فهل يبقى لديها ما تقدمه للعرب بعد خمسين عاما من الآن، هل تصلح الأغانى التى تتغزل فى الحمار لإلهام العرب والتونسيين بعد خمسين عاما أخرى؟. عند الحد الفاصل بين المدينة العتيقة وشارع فرنسا لاحظت النافورة الشهيرة، والحمام يتطاير حولها، فتذكرت الفنانة الرقيقة نجلاء فتحى فى فيلمها الجميل «دمى ودموعى وابتسامتى» وهى تقف هنا، متسائلا للمرة الثانية: هل لدينا الآن من تشبهها فى عذوبتها ورقيها؟!، ومن تصلح بعد الفنانة الرائعة يسرا لتكون سفيرة الفن المصرى المنحدر إلى دوامات العنف والمخدرات والبلطجة؟. ورغم ذلك فما أحلى الرجوع إلى مدينتى، فهى حقا قاهرة للوحشة رغم كل تناقضاتها.