أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
عمى كمال
20 يناير 2017
على الفقى

ما أن وضعت سماعة الهاتف حتى خايلتنى الأسئلة
لماذا يريدني كمال في هذا التوقيت ؟
كل المواصفات التي قالها إلى المتصل عبر الهاتف تقول إن كمال هو الذي يريدني.. حالا .


حافظت على الورقة التي بها العنوان وأنا أرتدى ملابسي متعجلا.. مرتبكا، قافزا الدرج، كادت قدمي تنزلق.



في الشارع لم تفارقني صورته ، حاملا جوالا ضخما من البلاستيك المقوى المتخم بالكتب والمجلات والصحف ، كما كانت عادته في المؤتمرات .



بأنفاس لاهثة صعدت القطار الذي لحقته وهو يتحرك مغادرا المحطة .



مبتسما جادا بعوده المفرود النحيف يوزع مما يحمله على البعض، متجاهلا آخرين، إذا طلب منه أحد لا يعرفه كتابا أو مجلة، يبتسم بتودد.



إذا بقى معي سأعطيك.. انتظر للآخر .



ركنت رأسي على مسند الكرسي، في بادئ الأمر وبداية تعرفي عليه، أشفقت عليه وتعجبت من هذا الرجل الذي يتحمل كل هذه المشقة ويدور حاملا ذلك الجوال الضخم فوق كتفيه، مؤتمر وراء الآخر زاد اهتمامي به.. راقبته ، حتى انتهزت فرصة وقوفه مع أحد النقاد ، فانضممت إليهما وهو يحط عن كتفيه الجوال ببطء وحذر ، انتقى بعض الكتب وأعطاها للناقد .



خذ هذه الكتب .. اهتم بقراءتها واكتب عن أصحابها .



حاضر ياعم كمال .



ما أن تركنا الناقد حتى وقف مع آخر يعاتبه بحميمية وهمس أسمع الآخر يقول بكل أدب



حاضر ياعم كمال .



يلتقط آخر – كأنه يلتقط وينتقى من يحدثه ، يناوله صحيفة ، يؤكد عليه ، سينشرون لك إنتاجك



حاضر ياعم كمال .



لم أر من يخالفه أو يقاطعه أثناء حديثه .



اهتز القطار بشدة .. ارتج رأسي على ماسورة الكرسي .. اعتدلت .



لماذا يريدني كمال الآن ؟ أهناك ندوة مهمة .. أو ناقد يريد أن أتعرف عليه وأقابله ؟



لا أستطيع التأخر على هذا الرجل ، أول مرة يطلبني .



هل هو طلبني فعلا ؟ هل تحدث معي أحد عبر الهاتف؟ أم هي مهاتفة في خاطري .. قفز خلالها كمال في خيالي ؟



تحسست ورقة العنوان، في جيبي أوراق أخرى، القصة التي كتبتها عنه، فرح بها كثيرا وانتظر نشرها.



يا خبر عم كمال ..



فوجئت به أمام باب شقتي



أنت الأستاذ حسن ؟



ياله من تجاهل ، ألم يقابلني من قبل عدة مرات ؟



دخل حاملا جواله الفكري، وضعه في مدخل الشقة بجوار حذائه الذي ترك على أصابعه علامات العرق.



أجهز لك غداء حالا .



قاطعني – لا لا .. أرجوك .. إن كان ولابد فيكفى رغيف بقطعة جبن مع كوب شاي سكر زيادة.



لف الرغيف حول قطعة الجبن، بيد يقضم وباليد الأخرى أخرج ورقة من جيبه الخلفي.



هذه الورقة فيها أسماء النقاد والكتاب، أرقام هواتفهم وعناوينهم، أكتب على كل نسخة من كتابك إهداء ورقم تليفونك، واترك الباقي في رقبتي، أنت كاتب جيد.



تناول كوب الشاي وأفرغه في جوفه على رشفتين ، وعندما لاحظ دهشتى وقرأ الأسئلة التي تنطق في عيني ، مدد ساقيه الطويلتين فانحسر بنطاله القديم ولاح الكالسون الذي استحال لونه ، تخللت أصابعه النحيفة شعره ولحيته الرماديتين .



لا تشغل بالك .. عهد من سنين طويلة لا أعرف عددها .. من يوم أن خرجت من السجن.



استقام ظهري على هزة من الكمساري .



تذاكر .



سجن ؟ !



ضحك .. فبانت أسنانه الصفراء القليلة المتفرقة، أغمض عينيه كأنه يسحب الماضي من ذاكرته ليلقيه أمامي مختصرا، فتيا، غامضا..



كان منضما لجماعة يسارية حديثة، تدافع عن فقره، وتعد بتحقيق العدالة، فكتب قصة هاجم فيها اليمين المتطرف المهاجم لهم، ونشرتها المجلة، وعندما اعترض على سياسة مهادنة أنصار اليمين طرده اليسار.



تلقفه باحتضان ورفق الصديق الملتحي، فكتب قصة هاجم فيها أنصار اليسار، ونشرتها المجلة أيضا..



فوجئ وهو يقوم بتسليم قصة أخرى بكمين القبض عليه في مكتب مدير المجلة .



ألقوه في غياهب السجن .. احتاروا في أمره .. تابع لليسار أم تابع لليمين ؟



نسى في السجن بضع سنين.



تعرف على هذا وذاك ، قرأ كثيرا ، تعلم أكثر .



اكتشفت أن الكتاب وسادة لينة للرأس ..



في طرقة القطار، وأنا أستعد للنزول المحطة القادمة التي اقتربت، كانت امرأة تجرى وراء أطفالها، وبائع الحلوى ينادى على بضاعته المكومة في جوال من البلاستيك الشفاف، ابتعت قطعة، ابتسم لي الرجل وعلا صوته أكثر.



خرج مع من أفرج عنهم، وجد النظام تغير، رحل من رحل وجاء من جاء..



وقف القطار، اتخذت طريقي نحو العنوان، دلفت شوارع، أزقة، منحنيات، البيوت الواطئة تحاذى شبابيكها الأرصفة.



طردته أخته، وقال زوجها – ليس له ميراث عندنا



احتضن الجوال وعشق الكتب ، ينام حين يدركه النعاس ، يأكل مما يجد وقت الجوع .



لم أنس أبدا دموعه التي كان يغالبها ويمسحها في كم قميصه الرث، ابتسم بهدوء وهو يحمل عنى ربطة كاملة من كتبي، دونت في كل نسخة إهداء وعنواني وتليفوني.



سألت عن العنوان، وجوه الناس عابسة، تجيبني باستغراب، اتجه حيث إشاراتهم.



ما زال وجهه الشاحب في عيني كلما رن الهاتف يبلغني إعجابا بكتابي، أو كلما قرأت مقالا لناقد عنى في صحيفة.



أخيرا .. ها هو العنوان، مكان مهجور.



من هؤلاء المتجمعون أمامه ؟ زملاء أعرفهم.. آخرون لا أعرفهم .. هذا هو الجوال ، تبادلنا السلامات



، كل منهم جاءه هاتف ، وقفنا جميعا تلجمنا الدهشة ، نتناول كتبنا من الجوال ، كتب لأدباء جدد عليها اهداءات ، لم نضع في اعتبارنا نظرات المارة والعابرين إلينا ، ولا للهواء المترب الذي أخذ أصواتنا بعيدا .



وقعت ورقة العنوان ، وأوراق القصة التي كتبتها عنه وأعجبته طوحها الهواء ، طرفت عيني وأدرت ظهري وجملته الأخيرة تصك أذني ، وهو يرفع الجوال بجوار رقبته الطويلة ، ويده ترفض بإصرار تناول ما كان يبدى من مال .



- تعرف يا أستاذ .. كل خوفي أن أموت في مكان مهجور.