أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
في أول كتاب يتحدث عن جلسات التحقيق مع الرئيس العراقى الراحل..
ضابط المخابرات الأمريكى الذى استجوب صدام: إعدامه كان مرعبا.. وغزو العراق كارثة
11 يناير 2017
لندن: منال لطفي



◄ الجيش الأمريكي طلب من صدام توقيع بيان يدعو العراقيين لوقف الهجمات فرفض قائلا: كرامتى تمنعني حتي من قراءته



◄ منذ 2004 أدار بوش ظهره للعراق مع عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل واعتبره «ملفا أغلق»



◄ الكثير من معلومات «سى آى أيه» حول صدام كانت خاطئة.. وسألني مرة: من أين تأتون بمعلوماتكم؟



◄ أجهزة الاستخبارات الأمريكية لم تكن مستعدة لاستجوابه... وتوقعت مقتله أو انتحاره



كان صدام يجلس علي كرسي معدني قابل للطي، متعبا، يرتدي دشداشة بيضاء، عليها جاكت أزرق شتوي. فقد كان في ديسمبر والجو باردا. وكان الجيش الأمريكي قد حلق له شعر رأسه وذقنه بعد اعتقاله. كانت هناك جروح وخدوش علي وجهه وذراعه جراء عملية اعتقاله. لكنه تصرف كأنه صاحب المكان ونحن ضيوف لديه.



صدام لم يكن يدير شئون العراق اليومية قبل الغزو مباشرة...كان منهمكا في تأليف رواية ..وحذر الأمريكيين: لن تجدوا حكم العراق سهلا وستفشلون لأنكم لا تفهمون العقل العربى




هكذا يلخص ضابط الاستخبارات الأمريكي جون نيكسون، في كتابه «استجواب الرئيس: التحقيق مع صدام حسين»، المرة الأولي التي رأي فيها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عندما جاء لبدء جلسات استجوابه إثر اعتقاله في 13 ديسمبر 2003 بعد نحو 9 أشهر علي الغزو الأمريكي للعراق.

كان نيكسون قد درس صدام حسين لسنوات بوصفه ضابطا فى الاستخبارات الأمريكية التى انضم اليها 1998. درس تاريخه الشخصى والعائلي، وعلاقاته، وأفكاره، وسنوات حكمه، كما حلل كل الصور المتاحة حول صدام ومقابلاته التليفزيونية. باختصار كان نيكسون معروفا بأنه «المرجع» فى شخصية صدام. وبالتالى عندما أرادت الاستخبارات الأمريكية إرسال ضابط إلى العراق بعد الغزو كان نيكسون هو المرشح المثالي. ومن 2003 إلى 2009 كلف نيكسون بالسفر فى مهام للعراق ثمانى مرات.

ويروى نيكسون تفاصيل تكشف لأول مرة حول جلسات التحقيق مع صدام، وتعامل إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش مع ملف العراق خاصة بعدما ظهر أنه ليس هناك أسلحة دمار شامل. ولا يقتصر الكتاب على محتوى التحقيقات والجلسات الطويلة بين نيكسون وصدام حسين، بل ورؤية نيكسون نفسه للغزو والطريقة التى عملت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية وإدارة بوش وحكمه على الغزو الذى يلخصه بـ«كارثي».

ويتذكر نيكسون أنه بعد قليل من انتهاء استجوابه لصدام علم أن الجيش الأمريكى طلب من صدام فى 13 يناير 2004 توقيع بيان يدعو العراقيين لوقف الهجمات ضد القوات الأمريكية، مهددين ضمنا بـ «ورقة الإعدام». لكن صدام رفض توقيع البيان، قائلا: «كرامتى تمنعنى حتى من قراءته».

كما يتحدث نيكسون عن تحذيرات صدام للأمريكيين من صعوبة حكم العراق الذى توقع أن يصبح «ملعبا للتطرف الدولي». وكم تبدو تلك التحذيرات دقيقة اليوم. لقد مرت فى 30 ديسمبر الماضى الذكرى العاشرة لإعدام صدام عام 2006، والعراق والمنطقة ما زالا فى نفق أسود من الفوضى والعنف الطائفي.




استجواب صدام:

يقول نيكسون إنه فى الأسبوع الأول من ديسمبر 2003 كانت هناك علامات أن القوات الأمريكية على وشك اعتقال صدام، موضحا:«وذات يوم استدعانى رئيس مركز الاستخبارات الأمريكية فى بغداد وسألني: كيف ستتعرف على صدام؟. كانت لدى معايير منها وشم قديم، وأثر رصاصة قديمة فى ساقه. لكننى عندما توجهت للغرفة التى بها صدام لم أكن بحاجة إلى كل تلك الأدلة. فعندما وقعت عيناى عليه عرفت فورا أنه صدام حسين بسبب الطريقة التى نظر بها». ومع ذلك استخدم نيكسون الوسائل الرسمية للتعرف على صدام ورأى الوشم وأثر الرصاصة القديمة وأبلغ قيادات الاستخبارات الأمريكية فى بغداد «أن هذا هو سفاح بغداد».

ويقول نيكسون إنه فى البداية كان من الصعب استجواب صدام، فهو رجل التناقضات. ففى البداية كان لطيفا، ذكيا، مهذبا، لديه حس ساخر حتى من نفسه. لكنه مع الوقت وتكاثر الأسئلة عليه أصبح متحايلا وشريرا ومثيرا للخوف. وبطبيعة الحال لم تكن الجلسات الأولى سهلة. ويتابع نيكسون:«قضينا بعض الوقت كى نبنى علاقة معه ونوعا من الألفة».

ومع كل جلسة استجواب كان نيكسون يشعر بالصدمة، فكل ما كان يعرفه عن صدام لم يكن مماثلا للحقيقة فأن «تدرس شخصا من الأرشيف شيء وأن تقابله وجها لوجه شيء مختلف تماما... فبدلا من أن أجد نفسى أتحدث مع سفاح بغداد، وجدت نفسى أتحدث مع ذلك الرجل العراقى المسن... ومع مرور جلسات استجوابه، ينبغى أن أقول أن صدام كان من أكثر الشخصيات كاريزمية التى قابلتها فى حياتي. أعنى أنه عندما كان يدخل الغرفة، وحتى وهو سجين، تشعر بتغيير الأجواء».

لم تكشف جلسات التحقيق عن رجل يختلف عن الصورة السائدة فى أوساط الاستخبارات الأمريكية فحسب، بل كشفت أيضا أن الكثير مما كانت الاستخبارات الامريكية تعتبره حقائق، لم يكن ذلك.

ويقول نيكسون إن «سى آى أيه» لم يكن لديها أى فكرة مثلا حول تفويض صدام الكثير من صلاحيات تسيير الأمور اليومية إلى كبار مساعديه ووزرائه. فالاستخبارات الأمريكية كانت تعتقد أن صدام «يأخذ كل قرار فى العراق». لكن جلسات الاستجواب مع صدام ومع كبار مساعديه ووزرائه الذين اعتقلوا بعد الغزو أظهرت أن صدام منح الكثير من الصلاحيات والمهام اليومية ليديرها مساعدوه والمقربون منه وذلك كى يتفرغ هو لكتابة رواية.

لم يحب صدام جلسات الاستجواب. وفى الكثير من الحالات كان يتعمد المراوغة. كما كان يعود للتاريخ كثيرا، تاريخه الشخصى وسنوات حكمه العراق أو الأبطال الذين يعتبرهم أبطاله الشخصيين مثل صلاح الدين الأيوبي. وفى إحدى المرات بينما كان صدام يحكى عن صلاح الدين، أوقفه ضابط استخبارات آخر يدعى بروس وقال له:«صدام. نحن نريدك أن تركز على السؤال الذى طرحناه والا تتطرق للتفاصيل التاريخية». فرد صدام بعدما بدا مندهشا من الاعتراض:«لكن ما أقوله هام جدا. ويجب أن تسمعه كله».

لكن كان لصدام جانب مرح. فقد كان يتمتع بحس الدعابة وكان يستخدمه عندما يريد الالتفاف على سؤال أو التهرب منه. ومن وقت لآخر كان صدام يروى حكايات مضحكة من خلال سنوات حكمه. ويقول نيكسون:«عندما كان ينهى الحكاية كنا نعقب: هذه قصة مسلية جدا، فيرد: لدى قصة أخري».

كل هذه المداخل كانت لبناء ثقة وعلاقة ألفة وذلك لاستجوابه فى الموضوع الوحيد والأساسى الذى يهتم به البيت الأبيض وهو أسلحة الدمار الشامل. ويقول نيكسون إن الإجابة التى أعطاها صدام فى ذلك الملف لم تكن الإجابة التى يريد المسئولون فى واشنطن سماعها.

فقد نفى صدام أن يكون لدى العراق برنامج لإنتاج أسلحة دمار شامل. قائلا:«لقد عثرتم على خائن أوصلكم إلى صدام حسين، أليس هناك خائن آخر يكشف لكم عن أماكن تواجد أسلحة الدمار الشامل؟»، مؤكدا «لم نفكر أبداً فى استخدام أسلحة الدمار الشامل، ولم تطرح هذه المسألة للنقاش».

ويوضح نيكسون أنه كان من الصعب جدا التأكد من أن ما يقوله صدام صحيح أم لا بسبب مراوغته. لكن بناء على استجوابه واستجواب عدد كبير من مساعديه والمسئولين فى نظامه والوثائق التى عثر عليها الجيش الأمريكي، والأهم من كل ذلك حقيقة أن القوات الامريكية لم تعثر على أى أسلحة دمار شامل، باتت هناك قناعة واحدة لا مفر منها وهى أن العراق لم يكن لديه أو بصدد بناء برنامج لأسلحة الدمار الشامل قبل الغزو مباشرة. وبالتالى الحجة الامريكية لغزو العراق كانت كذبة. ومن نافلة القول إن تلك الحقيقة كان من الصعب جدا على البيت الأبيض بلعها.

كما نفى صدام كل صلة بين نظامه و«القاعدة» وهجمات 11 سبتمبر. ويقول نيكسون إن صدام قال له إن العراق وأمريكا كان يفترض أن يكونا حليفين طبيعيين لمكافحة «القاعدة» فى الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر. وسأل صدام نيكسون:«ألم تقرأ رسالتى التى أرسلتها مع طارق عزيز إلى رامزى كلارك» (المدعى العام الأمريكى السابق) بخصوص التعاون بين واشنطن وبغداد بعد 11 سبتمبر. وكان صدام يتحدث عن خطاب ارسله عبر طارق عزيز إلى بوش يعزى فيه فى ضحايا 11 سبتمبر، ويدين الارهاب ويقول إن العراق ايضا كان ضحية عمليات ارهابية، ويعرب عن رغبته فى التعاون مع أمريكا للتصدى للارهاب.

ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى سعى فيها صدام للتواصل مع الادارة الأمريكية فحتى خلال سنوات حكم بيل كلينتون حاول صدام التواصل مع واشنطن. وعرض التعاون مع امريكا لكشف الجناة فى حادث الهجوم الأول على مبنى التجارة العالمى فى 1993. لكن عروض صدام قوبلت بالتجاهل ولم يتم حتى الرد على خطاباته.

وخلال التحقيقات حذر صدام حسين واشنطن من المخاطر التى ستواجه أمريكا فى العراق، قائلا:«سوف تفشلون. ستجدون أنه ليس من السهل حكم العراق. ستفشلون فى العراق لأنكم لا تعرفون اللغة، التاريخ، ولا تفهمون العقل العربي».

وكان الخطر الأكبر الذى تحدث عنه صدام مع تحلل نظامه هو الحركات الجهادية السنية. ويتذكر نيكسون أن صدام كان يقول إن الحركات الجهادية السنية إذا ما وجدت موطئ قدم فى العراق سيكون من الصعب التخلص منها، لأنها ستنشط فى قلب شبكة الدعم القبلي-الطائفى السنى الموالية له. وعندما تنتشر وتستشرى وسط القبائل السنية فإن التخلص منها لاحقا سيؤدى إلى إغضاب وتهميش تلك القبائل.

وتوقع صدام ظهور تنظيمات مثل «داعش»، قائلا إن الجهادية العالمية ستتخذ من العراق «ملعبا لها» بعد الإطاحة به، وأنها يمكن أن «تتمدد وتنتشر أسرع مما يمكن أن يتصور أى شخص»، مستفيدة من الغضب الشعبى من حكومات المنطقة وتراجع الفكر القومي.

وبحسب ما قال صدام فى جلسات استجوابه:«لأن للعراق حدودا مع الأردن والكويت وتركيا والسعودية وإيران فإنها مكان مثالى للمتطرفين. العراقيون عاشوا وسط توازن. وأى حقن لذلك البلد بعناصر أجنبية سيقضى على ذلك التوازن». لكن الكثير مما قاله صدام فى هذا الموضوع كان بالضبط ما لا يريد السياسيون فى واشنطن سماعه.

وخلال التحقيقات كان صدام إجمالا شخصا ودودا وهادئا لكنه كان كثيرا أيضا ما يغضب ويصبح صعب المراس وفى هذه الحالات يمكن بنظرة من عينه إدراك كيف يمكن أن يكون مخيفا، كما يقول نيكسون. فقد كانت هناك أسئلة تثير ضيقه. بالذات الأسئلة حول الجرائم التى ارتكبها نظامه ضد الأكراد والشيعة. والأسئلة حول إرثه وما تعرض له الشعب العراقى من محن، والحرب العراقية -الإيرانية، والأسئلة حول العلاقات مع نظام البعث السوري.

ففى إحدى الجلسات سأل نيكسون صدام عن العلاقات بين العراق وسوريا. فخفض صدام رأسه ونظر إلى أصابع يده وهى عادة كان يكررها كلما ضغط سؤال على أعصابه. وإذا تواصلت الأسئلة التى تثير أعصابه يبدأ فى الانشغال بتنظيف أظافره. ويقول نيكسون:«عندما كنا نستفسر عن شيء فى التبادلات التجارية بين العراق وسوريا، رد صدام منفعلا قائلا: من يكترث بالتجارة؟ هل تعتقدون أن صدام حسين تاجر. هذه الأشياء حثالة التاريخ».

فخلال كل مراحل التحقيق كان صدام يتعامل مع الأمر كأنه يعطى «شهادة تاريخية» عن زمنه وبلده ومنطقته وحكمه، لكن عندما تصبح الأسئلة متعلقة أكثر بما حدث فى الماضى القريب أو الحاضر، يبدأ صدام فى الشكوى من أن الاستخبارات الأمريكية «تستجوبه»، وأن الحوار لم يعد حول التاريخ. ويضيف نيكسون:«فى كل الحالات تحدث صدام كرئيس للعراق، وكان يشير إلى نفسه بالرئيس. طبعا من ناحيتنا لم نخاطبه سوى باسمه الأول: صدام. وقد ضايقه هذا فى البداية لكنه سرعان ما اعتاد عليه».

كما كان صدام عدائيا فى كل ما يتعلق بإيران. ويتحدث بوصفه «حامى العرب» فى المنطقة، وحامى السنة فى العراق من النفوذ الإيراني. كان لديه كراهية لا شك فيها لإيران التى قال إنها كانت وراء محاولة اغتيال ابنه عدى عام 1996. كما رد بشكل عدائى عندما سئل لماذا بدأ العراق الحرب مع إيران. فقد قال صدام إن إيران ارتكبت 548 عملا عدائيا ضد العراق قبل بدء الحرب. ويقول نيكسون إن صدام حاول تجنب الإجابة على تساؤلات بخصوص استخدام العراق أسلحة كيماوية فى الحرب مع إيران، لكنه تدريجيا قال إن إيران هى من بدأت باستخدام الأسلحة الكيماوية وأن العراق استخدمها فقط لأغراض دفاعية.

ومقابل اعترافه باستخدام الأسلحة الكيماوية خلال الحرب مع إيران، نفى صدام خلال التحقيقات علمه باستخدامها ضد الأكراد فى حلبجة 1988، قائلا إن القرار اتخذه القائد الميدانى للمواجهة مع الأكراد وأن صدام أبلغ لاحقا وكان شديد الغضب. ويوضح صدام لنيكسون أنه استشاط غضبا لأن الهجوم بالكيماوى على الأكراد أعطى إيران ورقة للهجوم على النظام العراقى دوليا وأضعف العراق. ويقول نيكسون إنه يميل لتصديق رواية صدام لأن عمليات استجواب أخرى قام بها ضباط الاستخبارات الامريكية مع مسئولين آخرين شككت فى معرفة صدام بالهجوم قبل حدوثه.

تحدث صدام عن الكثير من القضايا لكنه لم ينطق بكلمة حول الاستخبارات العراقية، وأمنه الشخصي، وشبكة الموالين له، وعلاقاته مع الزعماء العرب، فقط أثنى فى عدد من المرات على الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر.

وطبيعيا لم يرتح صدام لاستجوابه حول زوجتيه وأبنائه، ورفض تأكيد أن له ابنا يدعى على من زوجته الثانية سميرة شهبندر، قائلا لنيكسون:«هل تريدون قتله كما فعلتم مع قصى وعدي؟».

ومن جلسات الاستجواب تظهر علاقة معقدة ومتشابكة بين صدام وكل من قصى وعدي. فقد قال صدام إنه «فخور بهما رغم كل أخطائهما»، متحدثا عن ثورته وسخطه عليهما بسبب البذخ فيما العراق تحت طائلة العقوبات وسلوكهما العنيف داخل الدائرة الضيقة حول صدام.

وقال إنه علم بمقتلهما وحفيده مصطفى (14 عاما) إبن قصى من إذاعة «بى بى سي» فى مخبئه فى تكريت فى يوليو 2003. فسأله نيكسون: كيف شعرت عندما عرفت بموتهما؟ فرد صدام: «إذا كانا يجب أن يموتا فتلك هى الطريقة التى أردت أن يموتا بها. فقد قتلا وهما يحاربان لتحرير بلدهما. هذه أنبل نهاية يمكن لإنسان أن يرجوها. لم يقتلا لأنهما أبناء صدام، قتلا لأنهما عراقيان بعدما تعرضا للخيانة».

وتختلف الرواية التى يذكرها نيكسون عن مقتل قصى وعدى فى عدة تفاصيل مهمة عن الروايات السائدة. إذ يذكر أن قصى وعدى كانا مختبئين فى قصر أحد شيوخ القبائل فى الموصل لعدة أسابيع بعدما منح قصى وعدى ذلك الشيخ مبالغ مالية كبيرة لحمايتهما.

لكن توتر الشيخ من إيوائهما كان يتزايد يوما بعد يوم، خاصة مع دوريات التفتيش الأمريكية. فسألهما الشيخ يوما ما عن متى يمكن أن يغادرا؟ فرد قصي: إنهما من سيقررا ذلك وأن على الشيخ إبقاء فمه مغلقا لأنهما دفعا له الكثير من المال نظير ايوائهما. عند هذه النقطة ترك الشيخ قصى وعدى فى المنزل وكانا يلعبان ألعاب فيديو.

ما حدث بعد ذلك بالضبط يمكن فهمه من السياق العام، فالفقرات التالية لتلك الفقرة حذفتها الاستخبارات الإمريكية خلال مراجعتها لكتاب نيكسون. لكن يفهم من السياق أن ذلك الشيخ، أبلغ الامريكيين بوجود قصى وعدى فى منزله، وأنهم حاصروا المنزل وبدأ إطلاق نار استمر نحو 5 ساعات أودى بحياة قصى وعدى ومصطفى وحارس شخصى لهم وعراقى آخر. وبرغم كل الذكريات المريرة، كان ذكر ابنتيه رغد ورنا هو الشيء الوحيد الذى يجلب الدموع لعين صدام خلال التحقيقات، مرددا دائما «أفتقدهما كثيرا».

ويتذكر نيكسون أنه خلال التحقيقات أراد صدام أوراقا وأقلاما كى يسجل يومياته فى السجن لكن «سى آى أيه» رفضت إدخال أدوات كتابة خوفا من أن يستخدمها للانتحار. وكان صدام مستاء جدا ويردد «أنا كاتب... وأحتاج تلك الاشياء كى أسجل أفكاري. عندما جاء الجيش الأمريكى واعتقلنى كنت أعكف على كتاب لم أنته منه بعد. لماذا لا أحصل على هذه الأشياء؟ كيف سأستخدمها لإيذاء نفسي؟».

وفى بداية التحقيقات كان صدام يشكو من قلة النوم بسبب قرب محبسه من مدخل المعسكر وكثرة الحركة قرب الباب. كما كان يشكو من موسيقى عالية الصوت خلال نومه. ويقول نيكسون «كنت أحيانا اشك أن الجيش يتعمد اقلاق نومه. ونتيجة لبطء جلسات الاستجواب بسبب إحساسه بالنعاس، طالبنا بنقل محبسه. وقد كان. وبدأ صدام يحصل على ساعات نوم مناسبة». وبخلاف قلة النوم ومنع الأقلام والأوراق عنه او جذبه خلال نقله من غرفة لغرفة، لم يتعرض صدام لأى إيذاء جسدي. فقد كانت تقدم له ثلاث وجبات يوميا، وكانت لديه نسخة من القرآن الكريم هدية من زوجته ساجدة خير الله، وترجمه عربية لمعاهدة جنيف لمعاملة أسرى الحرب. لكن صدام كان يحب القراءة وفى السجن كان يطلب كتبا تاريخية وعيونا من الأدب العربى والعالمي. ويقول نيكسون إن صدام كان يحب أدب نجيب محفوظ وطلب نسخة من «الثلاثية»، كما أعاد قراءة «الجريمة والعقاب» لدوستوفيسكي.

أعدم صدام فى 30 ديسمبر 2006. ويقول نيكسون:«كنت أعلم ان صدام سيعدم. كانت هناك محاكمة وحكم بإدانته. تنفيذ الإعدام كان لا مفر منه على أساس أن هذه رسالة للعراقيين أن تلك الصفحة قد طويت وأن القانون يطبق الآن... لكن الطريقة التى تم بها الإعدام كانت مرعبة. كان الأمر بشعا».

اللقاء مع بوش:

طوال الفترة التى استجوب فيها نيكسون صدام كان يكتب يوميا تقريرا حول مسارها ويعطيها لمسئولى الاستخبارات الامريكية فى بغداد لإرسالها لواشنطن التى لم تهتم منها سوى بالأجزاء المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والعلاقة المفترضة بين نظام صدام و«القاعدة».

يقول نيكسون:«كل ما أرادوا معرفته كان متعلقا بأسلحة الدمار الشامل. وبعدما ظهر أن المعلومات التى لدينا، ومفادها أنه ليس هناك برنامج لأسلحة الدمار الشامل، فقد البيت الأبيض الاهتمام تماما. فلم تكن هذه هى المعلومات التى يريدون سماعها. وكان هذا مثيرا للإحباط، لكنه خلصنى من أى أوهام لدي. فقد كان يمكننا معرفة الكثير عن العراق من صدام»، وبالتالى انتهاج سياسات مختلفة.

لكن غياب دليل أسلحة الدمار الشامل، كما يقول نيكسون، نفى حجة بوش للغزو وبالتالى تجاهل تلك المعلومات وأى شيء يدور حولها. وبحلول يناير 2004 كان سلوك بوش هو:«لقد انتهيت من العراق. دعونا نتحرك».

وتدريجيا سقط العراق فى العنف والفوضى والارهاب والطائفية. ووسط تلك الأجواء المعتمة، وجد نيكسون نفسه متوجها للقاء بوش فى البيت الأبيض فى 4 فبراير 2008 لاعطائه ملخصا استخباراتيا حول مقتدى الصدر الذى أصبح صداعا فى رأس الأمريكيين. (أى بعد 4 سنوات منذ استجواب صدام حسين، وعامين على إعدامه).

تحدث نيكسون عن مقتدى الصدر ودوافعه ونفوذه وخلال الحديث كان بوش يقاطعه أحيانا لسؤاله عن شيء، وكان بوش فى مزاج مزح إذ قال إنه ومقتدى الصدر «يعانيان من عقدة الأب المشهور»، فى إشارة إلى جورج بوش الأب، ومحمد صادق الصدر المرجع الشيعى المعارض والذى قتل بإطلاق الرصاص عليه 1999.

وخلال المقابلة قال أحد مسئولى «سى آى أيه» لبوش مشيرا إلى نيكسون: هذا هو الرجل الذى أستجوب صدام حسين. فالتفت بوش إلى نيكسون وسأل: أى نوع من الرجال كان صدام؟

فأجاب نيكسون: شخص مليء بالتناقضات. يمكن أن يكون ودودا ولطيفا، لكنه يمكن أيضا أن يكون شريرا ومغرورا ومتلاعبا ومخيفا احيانا.

فسأل بوش: هل كان يعرف أنه سيتم اعدامه؟

فأجاب نيكسون: نعم. كان صدام يعرف انه بطريقة ما سيكون مصيره الموت بعد انتهاء التحقيقات معه. لكنه كان فى تصالح مع ذلك، وفى سلام مع نفسه ومع الله.

فرد بوش ساخرا: سيكون عليه الرد على الكثير من الاتهامات فى الحياة الأخري.

وفى لقاء آخر بين بوش ونيكسون فى البيت الأبيض فى 8 مايو 2008 حول «توجهات الشيعة فى المنطقة»، سأل بوش: ماذا علينا أن نفعل حيال مقتدى الصدر؟ فرد نيكسون: نترك مقتدى الصدر لنفسه... فهو سيرتكب اخطاء وسيضر ذاته. فقاطع بوش نيكسون قائلا: هل تعرف، لقد قالوا لى اترك صدام لنفسه. لكننى أثبت أن الجميع كان على خطأ.

ويستطرد نيكسون:«حتى فى عام 2008 والعراق يشتعل ويغرق فى الفوضى والطائفية، ظل بوش يعتقد أن غزو العراق قصة نجاح».

لقد اجتمع نيكسون مع صدام ومع بوش لكنه يخرج بنتيجة مدهشة «فضلت جلساتى مع صدام على جلساتى مع بوش»، موضحا:«كان بوش معزولا عن الواقع» يجلس وسط مستشارين دائمى الإيماء برءوسهم فى إشارة إلى الموافقة على كل ما يقوله.

صدام للاستخبارات الأمريكية: من أين تأتون بمعلوماتكم؟

بالرغم من أن صدام كان يردد فى نهاية كل يوم استجواب إنه مسرور للحوار، إلا أنه لم يكن متعاونا مع استجوابه، وكان مراوغا فى الكثير من الحالات ولا يعطى اجابات محددة أو واضحة.

ويقول نيكسون إن المسئولين الامريكيين كانوا مسئولين عن إعطائه فرصة المراوغة. فالكثير من وثائق العراق السرية عثر عليها الجيش الامريكى وظلت بحوزته، ولم يعلم بهذا الـ «سى آى أيه» أو «أف بى أي». ويوضح نيكسون أنه لو علمت الاستخبارات الأمريكية بأن تلك الوثائق السرية بحوزة الجيش الامريكي، لطلبت الاطلاع عليها ولعرفت الكثير الذى كان سيجعل مهمة استجواب صدام أكثر فائدة ويمكن المحققين من معرفة متى كان يقول الحقيقة ومتى كان يقول عكسها. ويخلص:«كل هذا كان دليلا آخر على عدم استعداد أجهزة الاستخبارات الامريكية لاعتقال صدام»، موضحا أن أجهزة الاستخبارات لم تتوقع العثور على صدام حيا، فقد توقعت أن يقتل خلال اعتقاله أو ينتحر قبل اعتقاله.

ويوضح أنه لم يكن لدى امريكا وجود على الأرض فى العراق فقد كانت السفارة مغلقة وبالتالى نوعية ومستوى المعلومات الاستخباراتية ضعيف جدا. المعلومات جاءت من مهاجرين وكل انواع البشر والمصادر من خارج امريكا. بعضها كان جيدا وبعضها كان رديئا جدا.

وفى ضوء المعلومات التى وصلتهم، رسم أطباء «سى آى أيه» صورة عن صدام كرجل يعانى صحيا ونفسيا. فالتقارير التى كانت لدى نيكسون تتحدث عن شخص يعانى من مشاكل فى الظهر وارتفاع ضغط الدم، واضطر إلى التوقف عن أكل اللحم وتدخين السيجار. لكن عندما سأل نيكسون صدام عن ذلك ضحك وقال:«من أين تأتون بمعلوماتكم؟».

فقد كان يدخن السيجار ويأكل اللحم. وقد سأل صدام نيكسون كنوع من الهزر:هل معك سيجار؟. فرد: أنا لا أدخن. فظهر على صدام الإحباط. ويخلص نيكسون إلى أن صحة صدام كانت أفضل كثيرا من تقديرات «سى آى أيه».

أيضا فى ضوء تقارير الاخصائيين النفسيين فى «سى آى أيه»، رسمت صورة لصدام كرجل يعانى من «عقدة زوج الأم العنيف»، هذه العقدة تفسر فى نظرهم عنفه وقسوته حتى مع أقرب الناس إليه مثل إعدام زوجى ابنتيه. وعندما بدأ نيكسون استجواب صدام كان من أوائل الأسئلة تلك المتعلقة بنشأته فى تكريت وأسرته وعلاقته بزوج والدته، متوقعا أن يبدأ صدام فى حكاية روايات حول عنف زوج أمه الذى أجبره كما كان يتداول على مغادرة تكريت إلى بغداد. لكن كانت المفاجأة عندما قال صدام إنه كان يحب زوج والدته الذى هو أيضا عمه الذى تزوج أرملة شقيقه. وقال صدام:«أحببت زوج والدتى جدا. لقد كان أطيب إنسان عرفته». وعندما سأله نيكسون عن التقارير حول قسوته عليه قال:هذا ليس صحيحا. إبراهيم حسن، يرحمه الله، كان عندما يكون لديه سرا، لا يأتمن غيرى عليه. كنت أعز إليه من ابنه أدهم.



الندم:

كان صدام مستبدا وحكمه شموليا وقاسيا وارتكب نظامه جرائم فى حق الأقليات والمعارضة، لكن كل جرائم النظام العراقى لم تكلف العراق تكلفة غزو 2003. فالغزو دمر بنية المجتمع العراقى والدولة العراقية وأدى لمقتل وجرح نحو مليون عراقى فى حلقات لا نهائية من العنف الطائفي. واليوم يبدو العراق فى وضع أسوأ بما لا يقاس بما كان عليه حتى خلال سنوات حكم صدام المخيفة. فكيف يحكم نيكسون على الغزو؟ بكلمة واحدة: «كارثة. كارثة للعراق وللشرق الأوسط ولأمريكا». ويقول:«لو أدارت امريكا العراق بالكفاءة التى أدارت بها مطعم بيرجر كينج فى المنطقة الخضراء لكان العراق سويسرا الشرق الأوسط».

ويوضح نيكسون الذى يندم على تأييده المبدئى للحرب لتخليص العراق من شرور صدام وبناء ديمقراطية: «اعطن مثالا واحدا لشيء ايجابى تحقق فى العراق...حكومة غير فعالة، 2 مليون مشرد، جزء من الاراضى تحتله داعش، طائفية، ضمور الدولة المركزية لصالح مناطق حكم ذاتي، فساد مستشر. عندما تسأل أى عراقى عن العراق اليوم أو خلال حكم صدام حسين سيرد أن كل شيء كان افضل خلال حكم صدام حسين...لو كان صدام حيا اليوم لكان العراق والشرق الاوسط إجمالا أكثر أمنا. حتى لو كان فى العراق نظاما لا تحبذه امريكا».

ويتذكر نيكسون أنه فى نهاية إحدى الجلسات الشاقة العصبية سأل صدام فى محاولة لترطيب الأجواء المشحونة:«ماذا تحب أن تقرأ؟». فرد: كتب التاريخ والأدب العربي. فسألت:«ما هى روايتك المفضلة؟». فرد صدام:«العجوز والبحر» (للكاتب الأمريكى ارنست هيمنجواي). وأوضح صدام: «فكر فى الأمر. رجل وقارب وسنارة. هذا كل ما تحتويه الرواية، لكنها تخبرنا الكثير جدا عن الوضع الإنساني».

على النقيض من العجوز والبحر كانت حياة صدام حسين معقدة متشابكة حافلة بالأحداث الكبيرة، من الجلوس على مقعد الحكم، والحرب العراقية -الإيرانية، وحرب الخليج الأولى 1990، والغزو الأمريكى 2003، ومقتل ابنيه وحفيده، واحتلال العراق، واعدامه شنقا.



إنها أشبه بالتراجيديا الإغريقية حيث يصل فرد للقمة ثم يسقط أكبر سقوط مدو ممكن.