فى اقصر وأسرع وقت أجازت القمة العربية الافريقية الرابعة فى مالابو بياناتها الختامية، التى كان من المفترض أن تعبر عن إرادة 66 دولة فى التعاون والشراكة المثمرة، وكأن لسان حال معظم الحاضرين فى الجلسة الختامية « خلصونا واتركونا نرحل لحال سبيلنا ولتفعلوا ما يحلو لكم»..شعور كبير بخيبة الأمل والحزن والأسى ألقى بظلاله الكئيبة القاتمة المحبطة وخيم على القاعة الرئيسية فى قصر المؤتمرات بمالابو، وتبدد حلم بدأ الإعداد له قبل عام كامل.
ومن الأمانة أن أسجل هنا أن غينيا الاستوائية لم تدخر حكومة وشعبا أى جهد فى احتضان الحلم العربى الافريقى ممثلا فى قمته الرابعة، التى ذهبنا إليها وسط أجواء من الامل والحفاوة والتنظيم الرائع، وهى العوامل التى كان من المفترض أن تكون قاعدة انطلاق لتطوير العمل العربى الأفريقى المشترك.
ما هى أسباب الشرخ العربى الافريقى إذن؟ وما الذى حدث حقيقة فى قمة العرب والأفارقة الرابعة فى مالابو؟ وما العوار الجسيم الذى أصاب فعالياتها؟ وما الذى كان يمكن أن يفعله القادة العرب والأفارقة للحفاظ على شعلة العمل العربى الأفريقى المشترك؟ وكيف سمح لهذا الهدف العظيم أن يصل إلى ما وصل إليه؟.. أسئلة كثيرة فرضت نفسها على وأنا ألملم أوراق قمة مالابو، محاولة الوصول لإجابات عن كل هذه الأسئلة.
بدأ الأمر باعتراض مندوب المغرب على وجود لافتة ومقعد خال باسم ما يسمى بالجمهورية الصحراوية، وكان اعتراضه شديدا وعنيفا مما اضطر القائمين على الاجتماع المشترك لوزراء الخارجية والإقتصاد والمالية والتجارة للخروج إلى استراحة استغرقت 7 ساعات حتى تهدأ النفوس، ثم عادت الجلسة للانعقاد وعاد المندوب المغربى للاعتراض والاحتجاج الصارخين على ذات النقطة التى يبدو أنها لم تنل حظا من النقاش الحكيم والاتفاق الإيجابى.
المشهد كان دراميا سيرياليا وغير معقول، فمن جهة تجد وزير الدول المضيفة يتوسل للمشاركين الحفاظ على القمة وعدم إهدار جهود عام كامل من الإعداد وتخييب آمال شعبه والشعوب العربية والافريقية ، لكن لا حياة لمن تنادى، وسيطرت المشاعر والعواطف والكبرياء الزائف على العقل والمنطق والموضوعية وحسابات المكسب والخسارة، وساد منطق المكسب الكامل أو الخسارة الكاملة والذى يوصف بمنطق المعادلات الصفرية. ثم رأينا وفود 7 دول هى المغرب والسعودية وقطر والإمارات والبحرين والأردن واليمن تهرول غاضبة إلى خارج القاعة،وتدعو معها وفودا أخرى للانسحاب، وساد الهرج قاعة القمة الرابعة، التى أصبحت هى والعمل العربى الافريقى المشترك فى منحنى خطير، وكأنى أرى ارهاصات مواجهة غير رشيدة وغير مقبولة بين الأفارقة والعرب، وكأنى أرى صراع إردات غير حميد فى قاعة قطع المشاركون آلاف الأميال وعشرات الساعات آملين ان تلتئم فيها أهداف وغايات عربية افريقية تعود بالنفع على شعوب الكتلتين معا.
يقولون فى علم الجريمة فتش عن المستفيد، فمن هو المستفيد من انسحاب 7 دول عربية مهمة من هكذا منتدى كان يمكن أن يكون لها فيه اسهام مميز وأن يكون لها نفع كبير من هكذا تحالف وعمل قارى مشترك. حاولت الإجابة عن هذا السؤال، وجدت أن هناك جهات عديدة يمكن أن تكون هى المستفيدة، أولاها إسرائيل ،ثانيها الشركات المتعددة الجنسيات، ثالثها قوى دولية وإقليمية عديدة لها مصلحة فى شق جدار التعاون العربى الأفريقى المشترك، وبالطبع لهذه الجهات المتعددة أصابع وأذرع داخل المنظومة العربية الإفريقية.
المشهد العربى الافريقى يعانى من توابع ما حدث فى قمة مالابو، بل ومرشح لمواجهة تحديات عصيبة، ليس فقط على صعيد العمل العربى الافريقى المشترك فحسب، ولكن على صعيد كل جانب منهما على حدة، فكيف ستتعامل الدول العربية التى انسحبت وتلك التى لم تنسحب مع بعضهما البعض، وكل طرف منهما الآن يلقى باللوم والعتب على الطرف الآخر، وما هو مستقبل علاقات الدول الأفريقية مع الكتلة العربية بشكل عام ، خاصة أن عددا كبيرا من الدول الفريقية التى تشاورت فيما بينها خلال الأزمة أكدوا أن هذا الموقف لن يمر مرور الكرام، وكيف سيتعامل الاتحاد الافريقى فى ضوء ما جرى فى مالابو مع طلب المغرب لاستعادة عضويتها بعد مرور 30 عاما على تجميد عضويتها فى المنظومة الأفريقية لذات السبب (ملف الصحراء أو جبهة البوليساريو).
بكل صراحة لقد كشفت أزمة الانسحابات فى قمة مالابو عن عدة جوانب من الخلل والاخفاق على الصعيدين العربى والافريقى، فعلى الصعيد العربى يبدو أن الرؤى الأحادية مازالت تسيطر على كثير من جوانب الدبلوماسية العربية، وكذلك فإن التنسيق العربى -العربى ليس فى افضل حالاته، بل يمكن ان نذهب الى القول بأن هناك تشققات وشروخا فى المنظومة العربية، واستقطابات وتجاذبات، الأمر الذى نستطيع التأكيد على أنه أمر لن يعود بالنفع على أى من أعضاء هذه المنظومة، الرابح فيها خاسر، والخاسر فيها سيزداد خسرانا، والمحصلة الكلية أن الخطاب والتحرك العربى ينقصهما الكثير من عوامل العمق والاتساق مع مجريات السياسة والدبلوماسية الدولية الراهنة التى اقل ما يمكن أن توصف بأنها شديدة التعقيد.
وإذا نظرنا إلى المشهد فى ضوء الانسحابات العربية، يرى المراقبون أنها لم تكن الوسيلة الدبلوماسية المثلى فى التعامل مع الموقف ، بل إنها أعادت إلى أذهان الافارقة تلك الصورة القميئة العالقة باللاوعى الافريقى عن الاستعلاء العربى والنظرة الدونية للأفارقة، وبكل صراحة كان يمكن لممثلى الدول العربية المنسحبة الاستعانة بوسائل دبلوماسية شتى للتعبير عن وجهة نظرهم، وكان يمكن أن تجد وجهة نظرهم تلك آذانا صاغية لو استخدموا خياراتهم الدبلوماسية وهى كثيرة إلا خيارالانسحاب الذى يترك فراغا يملأه آخرون.
وهناك أسئلة على الجانب الافريقى أيضا الإجابة عليها ،كيف لم تحسم الأزمة موضوع الخلاف، ولماذ لم تسع المنظومة الأفريقية إلى استيعاب وجهة نظر الدول المنسحبة وايجاد حل كريم للجميع، وهل هناك إيمان خالص بجدوى التعاون العربى مع أفريقيا، كشركاء متكافئين، لقد كشفت القمة المسكوت عنه فى جوانب العلاقات العربية الافريقية، اتضح لى أنه مازالت هناك مساحات كبيرة من عدم إدراك الخصوصية التى يتمتع بها الطرف الآخر، وأن ميراثا قديما من سوء الفهم والتوجس والظنون والهواجس مازال يخيم فى اللاشعور من عقول بعض من الجانبين، رغم إدراك العقلاء فى الجانبين أن مايجمع الطرفين فى الماضى والحاضر والمستقبل أكبر بكثير مما يفرقهما.
الأمر برمته رغم ما حدث لا يخلو من إيجابيات لابد من الإشارة إليها، أن الكتلة العربية لم تنسحب كلها وبقيت دول مهمة من بينها مصر، وكذلك لم تنسحب الكتلة الخليجية كلها فقد بقيت الكويت وعمان، ولعبت الكويت دورا نال احترام الجميع فى مالابو وما قبلها. الإيجابية الأهم أن قمة مالابو لم تنهار تماما بالرغم مما اصابها من ضربات موجعة، وصمدت حتى أصدرت بيانها الختامى .
فماذا بعد؟ انفض سامر القمة العربية الافريقية الرابعة، وحتى يهدأ غبارها، على افريقيا والعالم العربى إعادة النظر فيما شهدته هذه القمة من تراجعات، وإعادة النظر فى الآليات التى يقوم عليها العمل العربى الافريقى المشترك، والبحث عن صيغ أكثر واقعية وأكثر فاعلية ومناسبة وتوائما مع الاختلافات الكبيرة الموجودة فى كلا الجانبين وبين عناصر كل جانب على حدة، وإن لم يتحرك العقلاء للبحث والدراسة والخروج بتوصيات فإن العمل العربى الافريقى المشترك للأسف سيبقى آسيرا ورهينة للعجز العربى الأفريقى المشترك.