بات شعار السلامة ورمز النجاة يتمثل فى السفينة منذ عهد نبى الله نوح عليه الصلاة والسلام فى شتى شئون الحياة الإنسانية سواء كانت على مستوى الفرد أو المجتمع أو الوطن أو العالم، لذا نلاحظ استخدامه فى الأحاديث النبوية الجامعة لضرب المثل فى إنارة الطريق فى القضايا الجسيمة التى تعترض مسيرة الأمة مع رسم طريق العلاج وسبيل النجاة فيها.
بيد أن حديث النبى محمد صلى الله عليه وسلم عن السفينة يحوز قصب السبق فى تلك القضايا، فهو يعطى تصورًا صادقًا لحال المجتمع وحال أفراده، راسمًا أطر العلاقة الناظمة بين مكونات المجتمع وفق مبادئ المسئولية والمساواة، حيث قال : «مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا». وقد تضمن تصويرًا بديعًا للواقع، يترك فى نفس المتلقى أثرًا حيًّا لكيفية تطور الانحراف والفساد فى المجتمعات الإنسانية؛ فهو يبدأ صغيرًا ثم لا يزال يتسع إن لم يتداركه القائمون على الأمر أو أهملوا فى ملاحقته حتى يصعب على الاحتواء والسيطرة، حينئذٍ يقترب نذير العقاب، وفى ذلك يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه».
إن حديث السفينة يقرر قواعد عامة تحمل فى مضامينها مقاصد جليلة ومعانى عالية النقاء تبدو فى الفرد وفى الأسرة وفى المجتمع وفى الدولة وفى العلاقات الدولية والإنسانية من أجل تحقيق الخير والبر ورسم طريق الإصلاح والتقدم إذا ما أخذت بعين الاعتبار عند التطبيق والممارسة العملية.
وقد بين النبى أن إقدام هؤلاء على تحقيق ما أرادوا سيترتب عليه ضرورةً إحدى نتيجتين، فإما أن يترك القائمون على الأمر هؤلاء وشأنهم، تحت دعوى حريتهم فى نصيبهم يفعلون ما يشاءون فيه، فحينئذٍ لا ينتظرون جميعًا إلا الهلاك المحقق، وإما أن يقوموا بواجبهم فى الحيلولة بينهم وبين وقوع ما يسعون إليه، فحينئذٍ ينجو الجميع. وفى قولِه «فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا» حثًّا للقائمين على الأمر على دوام اليقظة واستنهاضًا لعزائمهم للضرب بيد القانون على اللاعبين بقيم المجتمعات ومصير الأوطان ومكتسبات الشعوب، منعًا من حصول أسباب الانحراف وشيوع مظاهر الفساد التى طالما تستهدف فى النهاية الوطن بكل الصور والأشكال، والأخذ على أيديهم لمنع حصول الفساد والهلاك حتى يتحقق الرخاء والاستقرار فى ربوع الوطن وينعم الناس بحياة رغيدة فيها الأمن والأمل والمستقبل.
وفى ذلك تأسيس لمبدأ الضبط الاجتماعى لأنه إذا غاب تحول المجتمع إلى العشوائية والتخبط، وهو يرسخ كذلك لمبدأ المسئولية المشتركة عند الفرد فى شتى شئونه ومراحله، بما يعلى من قيمة المسئولية الفردية ويؤكد أنها أساس للمسئولية الجماعية، كما يرشد إلى ضرورة وجود خطوات استباقية ووقائية تمنع أصحاب الهوى وذوى الآراء الضعيفة من إساءة استعمالهم لحقوقهم بما يقى الوطن من الآثار والعواقب الوخيمة والأفكار والخطوات الارتجالية البعيدة عن الحكمة والبصيرة، والحيلولة دون وقوع الإفساد منهم ثم محاسبتهم.
والمتأمل فيما سبق من معان يجد أن حديث السفينة يمكن أن يؤخذ منه صيغة ناظمة ترسم معالم هادية لمسيرة الإصلاح والتقدم وتحيط المجتمع بسياج قوى يحافظ عليه من صور الانحراف وأشكال الفساد التى تؤدى به إلى الانحطاط والهلاك. إن سفينة هذا الوطن الغالى مصر تبحر فى هذه المرحلة الفاصلة وعلى متنها شعبها العظيم مع تنوع أفكاره وتعدد طبقاته وأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية تمخر بشراعها بحرًا عميقا عاصفا تستهدف وتقصد شاطئ الأمان والرخاء والتقدم إن شاء الله تعالى، وهى معان سامية ينبغى أن تكونَ حاضرة فى عقول وفى قلوب مواطنيها جميعا وبصورة دائمة.