تعكف دار الإفتاء المصرية حاليًا على تنفيذ ما أسفر عنه مؤتمرها العالمى للأمانة العامة حول «التكوين العلمى والتأهيل الإفتائى لأئمة المساجد للأقليات المسلمة فى العالم» من نتائج وتوصيات على أرض الواقع وجعله حقائق ملموسة، من خلال معالجة واقعية واعية للإجراءات والأدوات، ووضع جداول زمنية محددة لتحقيق ذلك على أوسع نطاق ممكن. ويحتل إعلان القاهرة المتضمن لوثيقة التعايش أهمية كبرى من بين حزمة المبادرات التى أطلقها المؤتمر، لما يمر به العالم من موجات شديدة التغير لم يشهدها سابق تاريخه من قبل، وهى الوثيقة الأولى فى هذا المجال التى ستكون مرجعا أصيلا للإفتاء، وبيانًا واضحًا لتنظيم العلاقة بين المسلمين مع أنفسهم، ومع غيرهم فى داخل المجتمعات المختلفة حول العالم.
وتُعَدُّ هذه الوثيقة بمثابة إعلان عالميّ تصدره نخبة من علماء الأمة الإسلامية من القاهرة بلد الأزهر الشريف للعالم أجمع، وهو يتضمن أسس نظرة الإسلام الحنيف للآخر، ويمثل زادًا حقيقيًّا للمسلم المعاصر تجاه قضاياه وآماله بما فيه من توصيف لمحددات هوية المسلم وماهية الأمة الوسط فى إطار الثوابت الحضارية للإسلام والمسلمين، ومن ثمَّ تنكشف صور التعاون والتكامل البنَّاء التى يرسخها الإسلام وينادى بها المسلمون على مستوى الفرد والمجتمع .
كما أنه يتميز بأنه تضمن مبادئ أخلاقية يحمل فى طياته نسبة عالية من النقاء فى بيان العلاقة التى تربط المسلم بغيره، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، فهى علاقة قائمة على البحث عن الكليات الجامعة والمشترك الإنساني، تحقيقًا لقوله تعالي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ٌ[الحجرات: 13]، وقوله صلى الله عليه وسلم فى بعض خطبه على رءوس الأشهاد: «أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على عجمي، ولا لعجمى على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوي».
نعم إنها مبادرة حقيقية لإثبات مدى جدية المسلمين شرقا وغربا فى تعميق مظاهر التعايش مع الآخر وتحقيق التفاعل الإيجابى مع الواقع ومستجداته، من أجل أن يعم الأمن والاستقرار ويسود السلام أرجاء الأرض، بما يسهم فى تكوين حضارة فكرية إنسانية أخلاقية. لذا عمل المجتمعون فى هذا المؤتمر، فى تقرير المبادئ التى تضمنها الإعلان، على ترسيخ التسامح والانسجام والتقارب بين البشر جميعا، انطلاقًا من مقررات الشرع الشريف التى تعترف بالآخر على عقيدته وتمنع من إكراهه؛ حيث قال تعالى : (لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، وقال تعالى مخاطبًا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]. فمبادئ الإعلان تنطلق من مقاصد الإسلام ومقرراته التى توجب على المسلم الاعتراف بالآخر وقبوله، ودعم حريته واحترام التعددية الدينية والمذهبية، وتعظيم المشترك بين الأديان والرسالات التى اتفقت على مجمل الأخلاق الكريمة كحب الله وحب الجار والمحبة والتسامح ومجمل الأخلاق الكريمة، باعتبار ذلك مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهية التى تقررها الأوامر الشرعيَّة وتشهد بها السنن الكونية. كما أن مبادئ هذا الإعلان أكدت أن الإسلام والمسلمين يرفضون شكلا وموضوعا أشكال الإكراه على العقائد والآراء، كافة مع الجزم بأن هذا الدين الحنيف ليس حكرًا على فرقة أو مذهب أو دولة، وإِنَّما هو هداية الله ورحمته للعالمين أجمعين، بما يجمع الإنسانية تحت مظلة الأمة الواحدة الحاضنة.
وبذلك يظهر أن إعلان القاهرة قد تأسس على رؤيةٍ منهجيّة موضوعيّة، تستند فى منطلقاتها إلى مقررات الشرع الشريف، وتعتصم فى مضامينها بالمقاصد الشرعية، مع مراعاة فقه المآلات ودراسات المستقبل إزاء مسألة تعايش الأقليات المسلمة فى مجتمعاتها حتى يصل الإسلام إلى الناس كافة بصورته الصحيحة .