أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
الأمن الغذائى للمصريين.. التحدى والاستجابة
25 سبتمبر 2016
د‏.‏ طه عبد العليم


فى فجر التاريخ ـ وفى استجابة فريدة لتحدى عصر الجفاف، الذى هدد بالموت جوعا- هبط المصريون القدماء إلى مستنقعات قاع وادى النيل وأخضعوا طيش النهر لإرادتهم، وحولوا مستنقعات الوادى إلى حقول تجرى فيها القنوات والجسور، وجسدوا دور القلة الخالقة فى نشأة الحضارة، كما سجل توينبى فى تاريخ الحضارة وشرح غربال فى تكوين مصر. وفى العصر القديم- مع ثورة رى الحياض- شهدت مصر الثورة الزراعية الأولى ومن ثم الثورة السكانية الأولى فى الدولة المركزية القومية التى أسسها فراعنة مصر. وبزراعة الرى الحوضى صار الفلاح المصرى القديم مهندساً جغرافياً؛ أعاد خلق الطبيعة إلى حد ما، وجعل من شبكة السدود والترع طبيعة ثانية للوادى.



وفى العصر الوسيط- مع إهمال الأشغال العامة فى مصر المعتمدة زراعتها على منظومة الري الاصطناعى- كانت كارثة البرارى، التى لم تترك سوى 60 % من الأرض المزروعة؛ فتدنى إنتاج الغذاء، وتعاقبت المجاعات والأوبئة، وتقلص المصريين الى نحو ربع عددهم. وفى العصر الحديث- فى الدولة المركزية الحديثة التى أسسها محمد على- شهدت مصر ثورة الرى الدائم والثورة الزراعية الثانية ومن ثم الثورة السكانية الثانية. ومع بناء المصريين للسد العالى - فى عهد عبد الناصر وثورة يوليو- صار ممكنا لأول مرة استغلال كل قطرة من مياه النيل، واستغلال كل شبر من الأرض الصالحة للزراعة، وتمديد المعمور المصرى إلى آفاق بعيدة وجديدة.وأسجل أولا، أن مصر- وفقاً لوصف علماء الحملة الفرنسية- كانت فى مطلع القرن التاسع عشر تتكون من بضع مدن تشبه القرى الكبيرة، وكانت القاهرة مدينة نصف خربة، ولا يتجاوز عدد سكان الاسكندرية ثمانية آلاف نسمة، وبينهما امتدت الصحراء عدا قرى متناثرة لا يتعدى متوسط سكان كل منها نحو خمسمائة نسمة، ولم يتعد إجمالى سكان مصر نحو مليونين ونصف مليون نسمة، وأدى تناقص عدد السكان بدوره الى مزيد من تدهور الزراعة. وتتأكد لنا حقيقة هذا الوصف لحالة التدهور والتخلف التى كانت عليها مصر، إذا رجعنا الى ما سجله الجبرتى عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية عشية الحملة الفرنسية، يقول: إن النيل قد واصل الهبوط، والفتن قد استمرت، واشتد ابتزاز الأموال، وأكل الفلاحون- الهاربون بنسائهم وأطفالهم من الجوع والظلم- الزبالة والميت من الحمير نيئاً، وقل التعامل إلا فيما يؤكل، وشحت النقود فى أيدى الناس، وكان سمرهم الحديث عن الأكل!



وثالثا، أن رى الحياض كان استغلالاً موسمياً يتبع دورة الفيضان ويترك الأرض الزراعية صحراء سوداء نصف العام. وفى أوائل القرن التاسع عشر، كانت ثورة الرى الدائم، التى بدأها محمد على، فأضيف الرى الصيفى إلى الرى النيلى، وكان هذا توسعاً رأسياً قبل أن يكون توسعاً أفقياً. وكانت مصر مزرعة شتوية قوامها الحبوب وهدفها الاستهلاك المحلى والكفاية الذاتية، وأصبحت حقلاً منتجاً على مدى السنة، والاقتصاد التبادلى التجارى طبيعته، والقطن محوره، والسوق العالمية مصبه. وبذلك تضاعف الدخل القومى. ونتيجة لاستتباب الأمن العام أكثر من أى سبب آخر، رغم الأوبئة والمجاعات والحروب تضاعف تعداد سكان مصر، الذى كان فى تناقص طوال العصور الوسطى. ولكن بقى التخزين السنوى لمياه النيل مضيعاً لحصيلة ثمينة من ماء الفيضان تذهب إلى البحر بدداً كل عام، وبقى خطر الفيضان العالى والواطى.



ورابعا، أنه رغم احتكار الدولة للإنتاج وتوزيعه وإجبار الفلاحين على بيع محصولهم بأسعار بخسة مقارنة بما تحصل عليه محمد على من تصدير القمح إلي أوروبا، فقد نالوا نحو ستة أضعاف ما كانوا ينالونه من قبل! ورغم أنهم لم يأكلوا القمح بل الذرة الشامية والعويجة من حيث الأساس فقد تحسن غذاؤهم وتضاعفت أعدادهم. ثم كان الجديد الخطير من منظور الأمن الغذائى لمصر والمصريين حين حول الاستعمار البريطانى مصر الى مزرعة للقطن على حساب زراعة القمح وغيره من المنتجات الغذائية, فبدأت مصر تتحول من دولة مصدرة للقمح والسلع الغذائية الى دولة مستوردة لها باستمرار واطراد, باستثناء فترات الحروب العالمية التى كانت حصن زيادة انتاجها!.



وخامسا، إن السد العالى قد فتح بذلك آفاقاً وإمكانات مائية لا حد لها ولا نظير من قبل، بحيث يبدو العصر الذهبى فى تاريخ الرى والزراعة المصرية. لكن الزحف السكانى قد لاحق وهزم كل أغراض التنمية الاقتصادية وأهدافها زراعية كانت أو صناعية. فمنذ سنة 1970 انخفض متوسط نصيب الفرد من كل من المساحة المزروعة والمحصولية عما كان عليه من قبل. أى أن نمو السكان، كما ابتلع أضعاف دخل القناة فى استيراد الغذاء وحده، ابتلع مكاسب السد العالى هو الآخر، وهذا وحده دليل على أن التنمية الاقتصادية وحدها ليست الإجابة النهائية على زحف السكان الغامر، وأن تعظيم الإنتاج والتنمية الاقتصادية وزيادة الدخل القومى إلى أقصى حد هى الحل الإيجابى الأول والأخطر لمشكلة السكان، لكنه الحل الأصعب أيضاً، كما أوجز جمال حمدان بصرامة العلماء.



وأوجز أخيرا، فأقول: إن الاستجابة لتحدى الأمن الغذائى القومى والإنسانى- لمصر والمصريين تتطلب تعظيم الاكتفاء الذاتى من الحبوب والسلع الغذائية، وخاصة بتطوير البحوث الزراعية لرفع انتاجية وحدة الأرض المزروعة، واستصلاح واستزراع الموارد الأرضية المتاحة، وتوفير الأسمدة بأسعار تتناسب مع تكلفة إنتاجها المحلية، وضمان أسعار عادلة للمحاصيل الغذائية الأساسية المنتجة محليا. كما تقتضى الاستجابة تعزيز الأمن المائى، بتقليص فجوة الموارد المائية؛ عبر ترشيد وإعادة استخدام الموارد المتاحة، وحمايتها من التلوث، وتعظيم عائد وحدة المياه، مع تنمية المصادر الجديدة، خاصة بمواصلة نهج الكسب المتبادل مع دول المنبع فى حوض النيل. وللحديث بقية.