أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
مادلين
26 أغسطس 2016
سامى فريد

الشمس صديقته القديمة تسرح فوق وجهه وشعر رأسه.. ما تبقى من شعر رأسه.. وتنزل لتمسح على كفيه وما ظهر من قدميه. تأخرت مادلين فوق ما عودته. يريد أن ينهض ليطل على الشارع.


الحركة فى الشارع يسمعها ولا يراها. لا بد أن السوبر ماركت قد فتح أبوابه الآن. لعلها هناك مغرمة هى بالشراء. مجنونة به لكنها ــ يعترف ــ تعرف كل شىء وما يحتاج اليه البيت وتفاجئه بأن السكر قد أوشك على النفاد وأن البن قديم والبيت يحتاج الى شاى بالفاكهة وشاى سادة ولبن بودرة لأن الحليب مغشوش وغير مضمون فوق أن سعره قد ارتفع ثم أنها لا تحتمل تنطع البائع ولزوجته ومماطلاته ومماحكاته وأصناف الجبن الردىء التى يصنعها ويبيعها. تفضل هى عليها الجاهزة من الشركات المعروفة وتدقق فى مراجعة تواريخ الانتاج وانتهاء الصلاحية فى علب الجبن والزبادى أيضا. يريد أن يهم من فوق المقعد ليطل على الشارع ثم يميل بجسمه ناحية اليمين ليراها عند أول الشارع وهى قادمة تحمل أكياس المفاجآت من بقالة وخضر وفاكهة ولا تنسى أيضا كيس الصيدلية الصغير وفيه علبة الفيتامين مضاد للأكسدة وحبوب الضغط . نسى أن ينبهها الى دواء السكر. سينبهها اليه وهى ستتصرف. لكن لماذا يمين الشارع ربما تأتى من شماله اذا مرت على محل التنظيف بالبخار لتأتى بالبدلة التى سيذهب بها الى قداس الأحد. قداس الأحد أم جبانيوت ابن شقيقته اسكندر؟! هو لا يتذكر تحديدا وهى تعرف أكثر. عقلها مثل الدفتر تسجل فيه كل شىء سيسألها وستنظر اليه معاتبة ومبتسمة أو راسمة تكشيرتها التى تصطنعها لتلفت نظره حتى يتذكر ويركز لكنه يضحك معابثا كطفل فترد هى بابتسامة يعشقها. من نفسها وبدون أن يطلب منها ستدخل الى المطبخ لتصنع له كوب النسكافيه باللبن. كوب له وكوب لها وستأتى لتسحب المقعد الى جواره وتجلس بينهما المنضدة القش وعليها الجرائد تزيحها لتضع الصينية وتبدأ تحكى له حكايتها عن باقى الفلوس التى مع البواب حتى لا ينسى أن يذكره بها عندما يلتقيه. وعن آخر كلام الدكتور عن موعد ولادة روز ابنتهما وحالة الحمل التى طمأنها عليها. بنت يا مدام مادلين، بنت يا موريس بنت. هل أنت سعيد؟ لا؟ لماذا يا موريس؟ البنات فرحة ورزق بنت تقفز من حولك وتضعها فى حجرك وأمشط أنا لها شعرها وقد أعقد لها ضفيرتين ستكون كالقمر يا موريس ما رأيك فى كوليت؟ لا يعجبك؟ ماذا؟ ايلينا؟ اسم ماما. دائما انتم هكذا تحبون أسماء أمهاتكم: ايلينا رياض.. تردد الاسم بين شفتيها . هم م م. ايلينا رياض لا بأس به يا موريس هل تصدق؟ برنامج تعده وتقدمه ايلينا رياض؟ أو تحقيق من باريس بقلم ايلينا رياض؟ لا يا موريس وهل نحتمل غيابها عنا فى هذه السن؟ ومن سيملأ علينا البيت بهجة ونوراً؟ اسمع سنسميها كوليت رياض دكتورة كوليت رياض . أقرأ معى لافتة عيادتها ستوصى أنت بكتابتها وعمل الاضاءة عليها. أو كوليت رياض المحامية بالنقض. ياه يا موريس أنت دائما تقاطعنى ولا تترك لخيالى أن يرفرف ويطير بعيدا وفوق يحلق ويدور ويدور ويدور.. الأحلام جميلة يا موريس أسمع سنترك لروز ورياض اختيار الاسم ونقترح نحن فقط مجرد اقتراح اسمى ايلينا وكوليت وسيختاران هما ما يعجبهما. لسعة الشمس تبدو الآن غير صديقة. يريد أن يغير موقعه، الكرسى كالهم ثقيل حاول دفعه الى الخلف فلم يستطع وحاول زحزحته يمينا أو شمالا فلم يتحرك لو كانت هى هنا الآن لطلبت منه الوقوف ثم حركت الكرسى الكبير بما عليه من المساند إلى الظل وساعدته أيضا على أن يجلس مرة آخرى ثم حركت المنضدة وربما وضعت عليها أيضا بعض البسكوت والمخبوزات التى يحبها.



الشاى يا مادلين.. مادلين! أه تذكر الآن هى خرجت ولم تعد حتى هذه اللحظة تأخرت كعادتها هذه المرة لا بل أكثر من كل مرة ماذا يفعل مع هذه المتمردة يحبها ويحب شطحاتها واستقلالها بالرأى ولا ينسى شدتها وحزمها وطيبتها أيضا يكفى أنها تخدمه ولا تتذمر منذ خروجه الى المعاش. معاش؟! أى معاش! والبذلة التى ستأتى بها من محل التنظيف بالبخار الن يذهب بها الى شغله. الى الشغل يا موريس أم الى الكنيسة؟ سيسألها وهى التى ستقرر له كل شىء. هى كل شىء. الجوع يقرص معدته. تعالى يا مادلين أصبحت الآن سخيفة أنت تعلمين أننى أحتاج الى دخول الحمام يا مادلين أنت تعرفين أننى مريض السكر ومريض السكر كما قال عمك الدكتور غبريال.. لا لم يكن اسمه غبريال.. كان اسمه ربما فيكتور جبريل وليس عمها ايضا هو ابن عم امها او ابن خالها شىء من هذا القبيل لا يهم الآن المهم الآن وفورا هو أن أدخل الحمام يا مادلين. أنت تعرفين ما حدث فى مرات سابقة عندما تأخرت عن دخول الحمام ستغضبين وتملأين البيت شكوا وتذمرا وتصفينى أننى مثل الأطفال لا استطيع أن أتحكم بنفسى وابلل نفسى كثيرا ولا أذهب الى الحمام بنفسى لاعتمد عليك فى دخول الحمام والعودة منه الى البلكونة. صدقينى يا مادلين هذا شىء يؤلمنى جدا ويؤلمنى اكثر أنك لم تعودى تقرأين عينى كما كنت تفعلين زمان. آه يا مادلين ايتها الساحرة الشقية التى خلبت عقلى واستولت على مشاعرى فى لحظة أن رأيتك أول مرة فى كلية العلوم تذكرين طبعا كلام وابتسام ورقة تسيل. لا بل تهفهف من حولنا كالنسمة المحملة بكل أريج الزهور فى حديقة الكلية. حكيت عن أحلامك فى المستقبل والعمل وحكيت أنا لك عن السفر للخارج ولم تستحسنى الفكرة وقلت أن لك أقرباء يمتلكون شركة كبرى لصناعة العطور والمنظفات وعدوك بالعمل معهم فور تخرجك. لم تعجبنى فكرة العمل فى المنظفات وقلت لك أن نتيجة البكالوريوس سيتوقف عليها عملى فى سلك التدريس بالكلية او السفر للعمل بالخارج ثم لقاءات ولقاءات وكلام وأحلام والباقى انت تعرفينه أيتها الساحرة الصغيرة الرشيقة خفيفة الحركة كالفراشة.



مادلين. مادلين لا أستطيع أن أتحكم فى نفسى أكثر من هذا . جرس الباب . نعم أنه جرس الباب .. ستفتح مادلين أو سترد على التليفون.. مال يمسك حديد السور لينهض.. يتحرك ببطء ليستدير داخلا الى الشقة، أحس برأسه يدور للحظات فأغمض عينيه واستند الى ظهر الكرسى ثم تقدم الى باب البلكونة داخلا الى ظلام الشقة. كانت احدى فردتى الخف فى قدميه قد انفلتت، استدار ينظر اليها وفكر أن يعود ليضع قدمه فيها . كان رنين الجرس يزداد الحاحا.. حاضر حاضر.. الجرس فوق الباب والصوت قد توقف. انتظر حتى يسمع دقة الجرس من جديد فيستطيع تحديد مكان الباب.



طلب من مادلين أكثر من مرة أن تطلب من الكهربائى وضع لمبة فوق الباب حتى يرى المقبض وفتحة الكالون والترباس. مثل هذه الاشياء المهمة تعتبرها مادلين تافهة ولا لزوم لها.كيف الحال مادلين.. تعالى بنفسك لتعرفي. لم يعد يحس الآن بالرغبة للدخول الى الحمام. رن الجرس من جديد فحدد موقع الباب وذهب يتحسس المقبض ليديره ويفتح. مدت البنت التى ينسى اسمها دائما يدها بالجريدة، قال لها إن مادلين قد تأخرت وسألها ان كانت قد رأتها قادمة فى الشارع. نظرت البنت الى بنطلون بيجامته المبلل ثم رفعت عينيها اليه قالت: قصدك ست روز ولا ست كوليت؟ قلت: لا مادلين .. كوليت تلبس الاسود الذى لا أحبه. مادلين تلبس الالوان المبهجة كالربيع. مادلين كلها بهجة. قالت البنت ست كوليت أمام باب العمارة تكلم أبى وستصعد حالا. ثم سحبت الباب واستدارت نازلة تطرقع بشبشبها البلاستيك على درجات السلم الساكت ككل مرة قائلة لنفسها والدهشة تملأ رأسها الصغير أن هذا الرجل ينسى دائما أن مادلين ماتت منذ زمن بعيد.