الناظر إلى أحوال مصر، يحتار فى تقدير حالتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، حيث يجد انقساما لافتا بين رؤيتين، إحداهما طموحة ومتفائلة وواعدة، وأخرى متشائمة وغامضة وغاضبة، وحسب الزاوية التى تنظر منها الجهة أو الشخص، يمكن تحديد النتيجة.
ربما تكون الحالة المعنوية والمادية لها علاقة بالرؤية، فإذا كان الشخص متشائما فلن يرى غير السواد، وقد يكون متفائلا ويراها أيضا قاتمة، لذلك يفضل أن نستبعد الموقف المبدئي، ونتحدث عن واقع ملموس لنا جميعا، واقع أشمل وأعم، وله علاقة بمصر كما يراها معظم المسئولين، وكما تراها جهات خارجية كثيرة.
إذا كانت رؤية فريق المسئولين ومن لف لفهم من سياسيين وإعلاميين، تغلب عليها العناصر الإيجابية، وهى معروفة أسبابها ودوافعها، فإن رؤية الفريق الخارجى أصبحت عصية على فهم كثيرين، لأنها تنطوى على ملامح ومكونات لا ترى أفقا جيدا لمصر، وتعتقد أنه لن تقوم لها قائمة مرة أخري.
الغريب أن هذه النظرة لا تقتصر على دوائر سياسية أو إعلامية لها مواقف تستهدف النظام، بل تجاوزت هذا النطاق التقليدي، وشملت أشخاصا يذوبون فى عشق مصر، ويعرفون قدرها، ومكنتهم المعيشة فى الخارج من رؤية أشياء قد لا يراها غيرهم فى الداخل، وعندما تدخل فى حوار مع أحدهم لا تشعر بخلاف بين من يقيم فى الخليج ومن يعيش فى الغرب، فالكل ترسخت لديهم قناعات بأن الأفق مسدود. الحملة التى شنتها مجلة ايكونوميست وغيرها من وسائل الإعلام الغربية على مصر أخيرا، ولدت انطباعات أنها منظمة، وتقف خلفها عناصر مشبوهة، وترمى إلى الشوشرة على إنجازات النظام الحاكم والنيل منه، ربما يكون ذلك صحيحا، لكنه ليس كل الحكاية، فمن السهل أن تجد كثيرين ممن يؤيدون الرئيس عبدالفتاح السيسى يتملكهم شعور بعدم الثقة فى المستقبل، وتمنوا أن يقدم الرئيس على خطوات تصحيحية كبيرة، يعيد بها من انصرفوا بعيدا.
شعور التشاؤم الذى تحرص على إشاعته جهات وقوى متعددة، معلومة ومجهولة، لم يخرج من العدم، وله ما يعززه من حجج وأسانيد فى الواقع، تتمثل فى تصاعد حدة المشكلات والعجز عن حلها على مستويات متباينة، الأمر الذى يعطى الحملات التى توجه لمصر قدرا من المصداقية، فهناك أخطاء متكررة فى قضايا حيوية، يحتاج التعامل معها درجة عالية من الخبرة والحنكة والقدرة على مخاطبة الرأى العام الدولي، ومحاولة التأثير عليه بالأساليب والأدوات التى يعرفها ويفهمها. فما جدوى أن تقوم، وسائل إعلام محلية، مرئية ومسموعة ومكتوبة، بالهجوم على ايكونوميست دون تفنيد حججها؟ وما معنى أن ينتفض مقدمو البرامج فى الفضائيات المصرية ليلعنوا هذه المجلة، ويذكروا محاسن الحكومة المصرية؟ وما قيمة أن تنفى وتشجب وتدين هذه التصرفات، ولم تفكر لحظة فى الرد على الانتقادات والمغالطات بصورة علمية؟ وهل عجزنا تماما عن إيجاد وسائل بديلة لدحض الافتراءات؟ ولماذا لا نعير اهتماما لما يقال من معلومات واجتهادات بشأن بعض الأزمات، ولا نحاول تصحيحها فتنتشر كالنار فى الهشيم؟.
الأسئلة التى تتردد كثيرة، لكن الطريقة التى يتم التعامل بها ساذجة وقليلة الحيلة، وتفتح أبوابا مختلفة لدخول العفاريت والشياطين، للتأثير على عقول وقلوب المصريين، فإذا كانت هناك وسائل إعلامية تعمل ليلا ونهارا للتشكيك فى الترتيبات والخطوات والإجراءات الحالية، والتقليل من قيمة الإنجازات، فما الذى يمنع من الرد عليها، بما يتناسب معها؟.
الإجابة الوحيدة التى تتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولي، أن بها نسبة من الصواب ليست هينة، وأن الردود عليها تفتقر إلى المنطق لكشف زيفها، ولا نعد نملك من الأدوات ما يعين على التشكيك فى أسانيدها، ولا توجد جهة محددة منوط بها القيام بهذه المهمة الشاقة.
تداخل الأدوار وتنوع التوجهات وفقدان البوصلة فى التصورات، جعل مصر تخسر الكثير من الجولات مبكرا، فالخصوم المتناثرون عرفوا أداء الدولة العقيم، وحفظوا المفاتيح الرئيسية العاجزة، وخبروا آليات التفكير الجانحة عند المسئولين فيها، وأصبحوا يترقبون الأخطاء الساذجة، وأجادوا توظيفها بصورة جيدة، وهو ما أسهم فى نجاح تسويق المعلومات المغلوطة، وتقبل كثيرين لها، كما أن التحركات البطيئة تجعل عملية الرد على الهواجس التى تتناثر فى مجالات عديدة غاية فى الصعوبة.
عندما قام المتحدث باسم وزارة الخارجية بالرد على انتقادات مجلة ايكونوميست، جاء رده متأخرا بعض الشيء، وعلى الموقع الرسمى لوزارته، ما نزع عنه جزءا من الدسم السياسى الذى حمله، فقد كان الأولى به أو غيره الرد فى اليوم نفسه، أو على الأقل فى اليوم التالى للنشر، خاصة أن الموضوع جرى التنويه له على الموقع الاليكترونى قبل صدور العدد، وسبقه رسما للكاريكاتير لا يقل خطورة، يشى بأن هناك تضييقا فاضحا للحريات وخنقا للإعلام فى مصر.
التشاؤم الذى أقصده لا يأتى من تراكم الأزمات وصعوبة حلها، لكنه من الأدوات الفقيرة التى يتم التعامل بها، وتجعل من إمكانية تجاوز المشكلات عملية معقدة، لأنها تحتاج إلى وضوح فى الرؤية وإخلاص فى النيات، وقدرة على ابتكار حلول خلاقة، فالانغلاق الذى يخيم على مناح كثيرة ربما يجعل من التفاؤل حلما بعيد المنال.